![]() |
رحلة العمر -2 -
رحلة العمــــــــر - 2 -
منذ الوهلة الأولى ، كانت أصوات تتناهى إلى مسامعي من بعيد وأنا أعد حقيبتي .. كانت أصواتا مألوفة عندي ، وكنت أجيبها في سري و كأنني أحادث أشخاصا أمامي .. واستمرت هذه الأصوات تدوي في أذني مجتمعة ، بل وازدادت حدة و أنا على مشارف قريتي الودود .. هناك أخذت أميزها جيدا .. بل وأحدد مكانها وأنا أوغل في الغابة المشرفة على الدور القليلة المنتشرة على الربوة الكبيرة .. أول من لقيته كان الجدول الصغير و مياهه تنحدر شادية أعذب الألحان .. ثم توالت أشيائي العزيزة وكأنني أمر أمامها في موكب .. كل شيء يشير .. ينتفض .. يتمايل .. يترنم .. الشجر .. المنبع .. الربوة .. الجبل .. الكل يفتح ذراعيه .. يبتسم .. يضحك .. و أنا سائر في طريقي وقد أسكرتني نشوة اللقاء .. ولم أفطن إلا و أنا أتمتم :" أهلا .. ها أنذا .. طيب ..طيب .. سوف ألمسك أيها الغصن الطيب.. و أنت أيتها الصخرة .. لا تغضب أيها المنبع .. سوف أشرب منك .. و أغتسل بمياهك .. تعالي أيتها الزهرة الجميلة .. لن أقطفك .. سأنحني عليك وأقبلك .. مهلا .. مهلا .. سوف أقبل الجميع .. سلاما أيتها اليمامة العائدة إلى وكرها .." هكذا سرت نحو منزل قريبي و أنا تحت تأثير ما سمعته من حفيف وخرير وهديل وخوار و نباح .. يسدل الليل ستاره فلا أعود أرى شيئا سوى النجوم المتلألئة وهي تبدو قريبة جدا مني .. جلست على عتبة الباب ، مسندا ظهري إلى وسادة قدمها لي قريبي احتفاء بمقدمي .. تتعالى أصوات الصراصير وكأن دورها قد جاء لترحب بي .. عن يميني ينزوي المنبع في خرير متواصل وكأنه ينبهني قائلا :"إنني هنا .. لا تبتعد عني .." .. ولكني ورغم شعوري بالسعادة لهذه الحفاوة ، فإني كنت أحس بشيء ما يخترق هذه السعادة و يسبب لي توجسا .. كان هناك شبة همس يأتيني من كل جانب .. عاتبا .. لائما .. وكنت أحدق في الظلام و ألتفت حولي فلا أرى سوى أشباح الأشجار و فوقها الجبل جاثما بكل عظمته و جبروته .. ولا أردي كم من الوقت مرعلي هكذا حين أحسست برغبتي في النوم فدلفت إلى الداخل . في الصباح .. تجددت معانقتي لأشيائي و هي تعترض طريقي .. لكني كنت شارد الذهن ، مشتت الفكر، وما زلت أمشي حتى وقفت على جرف سحيق وقد امتد أمامي الوادي .. هنا شعرت بشيء من الرهبة .. نهر طويل عريض يتناهي إلي هدير مياهه .. بل ويزيد هديره كلما أمعنت النظر فيه .. نعم .. هو ذاك الهمس الذي راودني وأنا جالس قرب المنزل أحدق في النجوم .. ابتسمت وعلمت أنني قصرت في حق النهر الكبير ، إذ لم أزره في المرة السابقة فأعلن تمرده و استياءه .. فلم أملك إلا و أنا أنحدر صوبه غير آبه بما يعترضني من صخور ناتئة و جذوع شجر يابس .. حتى وصلت إلى ضفته و جلست .. أي ابتسام هذا و أية فرحة تلك التي افتر ثغره عنها ؟ تمثل لي غادة و هي تتمنع دلالا و غنجا .. نهضت على الفور و نزلت إلى أقرب صخرة أملأ كفي بمائه و اسكبها فتترقرق تحت أشعة شمس الصباح الزاهية .. هل انتهى الهمس ؟ .. كلا .. إذن من الذي لم أزره بعد ؟ .. نظرت إلى أعلى حيث القرية .. وجلت بنظري عبر أرجائها حتى توقفت عند آخر منزل عند ناحية الشلال .. هناك خفق قلبي بعنف .. الكهف .. لو كنت في مكان غير هذا وتراءى لي فم الكهف الفاغر ، لملئت رعبا و هلعا .. لكن هذا الفم وذاك السواد الذي يلوح لي من بعيد داخل الكهف لم يزدني إلا نشوة و ابتهاجا بلقاء شيء جديد .. ودعت النهر وأخذت في الصعود .. تهب ريح رخاء فتتمايل الأشجار و العشب و الأزهار .. بعض شقائق النعمان أبت إلا أن تجد لها مكانا قرب الكهف .. بحيث أخذت تتصنت إلى همسي و أنا أقف على الباب .. عن يساري كان الشلال يهدر بعنف ويطالني رذاذه فينعش الجسد والنفس .. وقفت على صخرة و فتحت ذراعي استقبل نسمات مشبعة برائحة التراب و العشب و الشجر..أغمضت عيني ثم فتحتهما متطلعا إلى الأفق حيث بدت أعلى قمة في المنطقة.. كان علي أن أشير إلى القمة المكللة بالثلوج ليكون بذلك وداعي قد بدأ .. مشيت طويلا قبل أن أقف أمام الدار .. تأملتها طويلا .. قلنا كلاما وكلاما .. تعاتبنا .. ابتسمنا و ضحكنا ثم وليت وجهي شطر النهر الصغير .. أخذت حفنة من مائه المنساب في رقة و شربت حفنات منه فانبعثت منه ضحكة خافتة كأنني أدغدغه .. الموكب يتهيأ للرحيل .. و الحشد قد ملأ الطريق و الربوة .. لم أكن أرى موطئ قدمي لكثرة التفاتي يمينا ويسارا وإلى الخلف ثم إلى الأعلى.. وقبل آخر منعرج .. توقفت لألقي نظرة أخيرة على أشيائي وهي تودعني في بكاء صامت .. ولحن حزين .. "إلى اللقاء .. نحن هنا دائما في انتظارك .." فأجيب في همس : - وأنا أيضا سأكون في الموعد .." |
رد: رحلة العمر -2 -
هذا هو الفراق فهو صعب وخاصة عندما يعتاد الإنسان على لقاء مَنْ يحب وبعدها يفارقه :sm283: يشعر بأن القلب يكاد من يُنتزع من مكانه توقفت لألقي نظرة أخيرة على أشيائي وهي تودعني في بكاء صامت .. ولحن حزين .. "إلى اللقاء .. نحن هنا دائما في انتظارك .." فأجيب في همس : - وأنا أيضا سأكون في الموعد .." حوار رائع بكل جوانبه وفعلاً عندما بدأت بتصفح هذه الرحلة توقعت أنك تحدث شخصاً أهلا .. ها أنذا .. طيب ..طيب .. سوف ألمسك أيها الغصن الطيب.. و أنت أيتها الصخرة .. لا تغضب أيها المنبع .. سوف أشرب منك .. و أغتسل بمياهك .. تعالي أيتها الزهرة الجميلة .. لن أقطفك .. سأنحني عليك وأقبلك .. مهلا .. مهلا .. سوف أقبل الجميع .. سلاما أيتها اليمامة العائدة إلى وكرها دمت بكل تألق |
رد: رحلة العمر -2 -
شكرا ناهد على هذه القراءة المتانية للخاطرة .. فعلا .. هكذا كنت أحدث اشيائي بكل حميمية وود .. وكان الفراق صعبا .. لكن الأمل في اللقاء يهون علي ألم الفراق .. اقتباسك من الخاطرة جاء متناغما مع إيقاعها وهذا ما أثلج صدري وأكد لي أن روحها تسربت إلى وجدان قارئها .
شكرا و لك كل المودة . |
رد: رحلة العمر -2 -
ألف شكر لك أستاذ رشيد على هذه الرحلة الممتعة والرائعة , والأجمل هو حوارك الرائع مع كل شئ : الجبل, النهر, المنبع, الورد, اليمامة, الكهف, الوادي , وحتى النجوم , في حوار ولا أروع من ذلك بكل الود والحميمية . ورغم ألم الفراق , لنا الأمل جميعا أن نلتقي في رحلة حقيقية في ربوع هذه الطبيعة الجميلة الرائعة . وعلى هذا الأمل أتمنى لك مزيدا من الإبداع والتألق . |
رد: رحلة العمر -2 -
اخي العزيز رشيد مررت بالبوم الصور .. صور هذه الرحلة وتفحصته جيدا ً شعرت بهذه الصور تلهمني لأبيات من الشعر .. عتبت عليك كيف تعرض صورا ً كهذه خالية من اي تعليق وهي التي تستحق ان يكتب فيها معلقات . تركت لك تعليقات بسيطة على بعضا ً منها .. ولكنني عندما قرأت خاطرتك هذه أخذت اتخيل كل حرف فيها ومكانه من الصور فكانت أجمل وأثرها بالنفس أكبر لو كنت مكانك لجعلت الصور هي التي تتحدث بحيث توزع سطور هذه الخاطرة على الصور لأن كل فقرة فيها تحكي الصورة والصورة تحكيها . الخاطرة رائعة ومؤثرة وشعرت بأنني أيضا ً من فارقها والصور جميلة ورائعة بل مذهلة وتستحق ان تكون دوما معها على موعد لا تحزن رشيد لفراقها فالأماكن ليست كالبشر تنتظر أحبتها لو بعد الف عام لكن اتمنى أنت لو تستطيع الانتظار الحمدلله على السلامة يا رشيد |
رد: رحلة العمر -2 -
بارك الله فيك أختي بوران وألف شكر على عواطفك الجياشة بكل النبل والصفاء و الحب .. الرحلة كانت ممتعة بكم أختي ولولاكم لما عرفت ذاك التوهج ..
أكيد ستكون رحلات أخرى إن شاء الله و سنستمتع مع بعض .. وربنا يحقق لنا حلم القيام برحلة حقيقية . بكل المودة و التقدير . |
رد: رحلة العمر -2 -
ميساء .. رغم أني لا أفارق صوري و لا خاطرتي الأخيرة إلا لماما ، فإني أجد نفسي متشبثا باحتضانها بعد الذي قلته فيها .. من البداية كنت أعلم أن رحلة العمر في نسختها الثانية ستحمل الجديد بالنسبة لي .. سواء هنا مع مرافقتكم الحميمية لي أو هناك مع معانقتي لأماكن سهوت عنها في الماضي أو لم أجد الوقت الكافي لمعانقتها ..
في كل بقعة لمستها كنتم معي .. وأنا أحادث أشيائي مزهوا بكم أمامها ، مزهوا بها أمامكم .. شكرا ميساء على تجاوبك . ودمت بكل الود . |
رد: رحلة العمر -2 -
[align=center]
السلام عليك و رحمة الله تعالى و بركاته أخي رشيد. نص رائع و جميل وصور معبرة على ما تزخر به بلادنا من مناظر و طبيعة خلابة، آستمتعت كثيرا بقراءة هذه الخاطرة حتى آشتد بي الحنين و الشوق للرجوع مرة أخرى لمنطقة بني ملال- تادلة-أزيلال و أيت عتاب التي قضيت فيها 4 أيام فقط كانت غير كافية للتمتع أكثر بجمالية جبالها و سهولها و طبيعتها الزاهية ( سد بين الويدان و شلالا ت أزود )، المنظر جميل للغاية. الأستاذ رشيد، عند قرائتي لهذه الخاطرة المتميزة آكتشفت مدى طيبوبتك و حنانك و تعاملك اللطيف مع الشجر و الحجر ومع كل الكائنات، و هذه هي سمة المؤمن. مرة أخرى الصور جميلة، كنت بارعا في التصوير أقول لك أستاذي بالصحة و عقبة لرحلة أخرى انشاء الله تحيتي و تقديري [/align] |
رد: رحلة العمر -2 -
الأستاذ الأديب القدير رشيد الميموني : تحياتي و تقدير ي البالغ .. هذه ليست خاطرة .. هذه لوحة فنية رائعة .. رسمت بأيدي فنان مبدع .. أحسست بالألوان الجميلة و الألحان المصاحبة الرقيقة .. نقلت إلينا بقلم الأديب و مشاعر الفنان هذا المشهد الخلاب .. الذي يأخذ الألباب .. متعك الله بالصحة والسعادة و كثرة الأصحاب و الأحباب . |
رد: رحلة العمر -2 -
ناجية .. هي فعلا ربوع المغرب زاخرة بجمال وسحر الطبيعة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب .. سهول و جبال و صحاري وأودية وهضاب .. لم يتيسر لي زيارة تلك المناطق التي ذكرتها في تعقيبك لكني آمل أن اصل إليها يوما ما بإذن الله .
من هنا في أقصى الشمال و في بقعة قضيت فيها جزءا من طفولتي .. كتبت خاطرتي هذه و التقطت صورها .. شكرا ناجية لمرافقتك لي في هذه الرحلة .. وشكرا لك على تواصلك الرائع و لطفك .. بكل المودة . |
الساعة الآن 09 : 10 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية