رد: ( رسائل بلا عنوان ) .. الفتى السوري محمد حليمة
( الرسالة الخامسة )
المُرسِل : المَـنسيّ
المُرسَل إليه : سحر الشرق
حبيبتي سحر الشرق :
أرسل إليك بهذه الرسالة ، وأنا أعلم أن الوقت غير مناسب ، للترسل . لكني لم أستطع أن أتمالك نفسي ، ولوعتي . فالبارحة كان أول يوم من أيام الإمتحانات ، ولم يعادل رهبتي من الامتحان ، سوى رغبتي في النظر إليك والإمعان . ولم يوهن قوتي و العزيمة ، إلا شعوري أمامك بالهزيمة .
فذلك الصباح كان قد طلع عليّ ، ثقيلا ، متثائبا ، ضاقت فيه نفيسي ، وأصابها الانقباض والاضطراب ، أما عقلي .. فكنت أشعر به خاويا من كل شيء سواك .
فلم أستطع أن أستذكر ما درست وحضرت ، ربما هذه الأعراض لا تصيب كل الطلاب ، بل فقط نوعين منهم .. الأول، هو المجتهد ، وصاحب الرأي في نفسه ومستقبله وشؤونه . والثاني ، هو طالب العشق . الذي يريد ولا ينال ، والذي ينال ما لا يريد . وعندما صرت في قاعة الامتحان ، لم يتقاذفني سوى شيئين ، استحوذا على كلّ تفكيري .. الأول ، هو أن يوفقني الله إلى حسن الإجابة عن الأسئلة ، وان يصوّبني عند الخطأ ، ويرشدني عند الحيرة ، ويهدأ من روعي عند الارتباك . أما الأمر الثاني ، هو أن أوفق وأراك بين الجموع الطلابية المتجمهرة ، داخل الكلية وخارجها ، وكان جلّ ما أتمناه .. أن تكون قاعتك حيث ستقدمين الامتحان ، هي نفسها قاعتي ، لكي تبقي تحت ناظري ، وأستلهم منك التوفيق والرشاد . ولا أعلم ـ يا سحر الشرق ـ أيّ قلب مؤمن ، نقي ، صادق ، كان قد أهداني دعوة ً ، أحسبها طرقت أبواب السموات السبع ، فدخلتها بمباركة من الخالق ، محفوفة بالملائكة التي زفتها بالدعوات ـ كعروس ، أثناء الدخول ، فاستقبلها الإله بالرّضا والقبول . لأنني البارحة قد حزتُ كلا الأمنيتين .. فإجاباتي عن الأسئلة ، كانت مطابقة لمراد السائل . وكنت أنتِ معي في ذات القاعة التي أصبحت جنة بوجودك وسحرك . وإن شئتِ أكثر من ذلك عجبا لقلتُ .. كان من بين الأسئلة سؤال مصوغ من بحث في المقرر ، لم أقرأ هذا البحث ولم ألتفت إليه . فارتجّ عليّ ، ووقفت دقائق أمام باب هذا السؤال الموصد ، أستفتح فلا يـُفتح لي ، وأستأذن بالدخول فلا يُؤذن لي ، وبقيت على تلك الحال ، أرتجي الفاتح ،وأبحث عن المفتاح . حتى حانت مني رنوة إليك ، أسرع من البراق ، وألطف من النسيم ، وأشد وَدقا من البرق . عندها فتح الله عليّ ، وولجتُ عبر باب ذاك السؤال ، كما وكأنني درستُ البحث المتعلق به ، دراسة من علم بمجيء سؤال منه ، وتيقـّن من الإجابة عنه .
وهذه فقط درّة ، من درر نفحاتك اليسوعية عليّ ، أعقبتها درر عجائبيّة ، من عجائب سحرك الذي ما زلتُ أحدّث عنه ، وأتشفع به ،وأدعو للإيمان به واعتناقه .. حتى اتـُّهِمتُ بالحماقة تارة ، وبالجنون أخرى ،و بالإلحاد مرات متوالية .
حبيبتي .. فقبل بدء الرحلة مع الأسئلة ، كنتُ قد رأيتُ شيئا ، لا يوصف بالغريب ، ولا ينعتُ بالمُريب ، بل هي لحظات القـُرْب المُقـدّس ، وسكرات الوَجْد المُغـَيِّب ، وأحوال الكشف الصوفي . لم أر مثله عبر سنين عمري القصير ، ولم أسمع بمثله من عاقلِ حَصيف ، ولا من حائلٍ خفيف .. لا من نبيّ مُرسَل مُجَاب ، ولا من وليّ رُفِع عنه الحِجَاب ، ولا حتى من مُسَيلمة الكذاب . هو مشهد لا يربو فيه حال الناس عن حالين اثنين .. قسم ينظر إل هذا المشهد ، وهم بين الخوف الرجاء حائرين .. وقسم ينظر إليه ، رَغـبَاً ورَهباً خاشعـين . أما حالي ؛ فلا يماثل حالا من الحالين . فأنا المُعَمّدُ بطهر لحظيكِ ، المتعـطّش لفرات وجنتيكِ ، المُتدثـّر برجاء القـُرْب ، المؤمّل تبادل الحب ، الملك المُعتلي عرش قلبكِ ، لكنه لا يُطاع ، الغنيّ المُكـتفي بوَهم وصلكِ ، و يا ليته يُشرى أو يُباع . أنا كلّ ذلك إذا أشرتِ ، ولا شيء من ذلك إذا أردّتِ .
أما المشهد .. فهو أني البارحة لم أر ـ كالعادة ـ طلابا جالسين على مقاعد الامتحان ، بل رأيتُ ملائكة فاردين أجنحتهم على مدّ البصر ، رافعين أيديهم ، مرتلين ، باكين ، خاشعين ، داعين .. ولم أستطع أن أسمع ما دعوا به ،سوى بقايا من آخر دعاء رددوه ..(( اللهم يا راحمَ من لا راحمَ له ، يا ناصرَ من لا ناصرَ له ، يا مجيرَ من ملجأ له ، يا حامي من لا حامي له ، يا شافي من لا طبيبَ له ، يا سامعَ من لا سامع له .. إنا أوكلنا إليك سحرَ الشرق ، فاشملها برعايتك ، وخذها بولايتك ، ووفقها ، وسددها ، وأرشدها ، وصوّبها ، واحمها ، واحرسها ، وظللها بظلك يوم لا ظلّ إلا ظلّك ..)) حينها غبطـّكِ ، وتمنيت لو أنّ لي دعوة ترفع على لسان الملائكة ، لكني رجعتُ إلى نفسي وقلت .. ألستِ حبيبتي ، ألسنا روحا واحدة متماسكة، وممسكة بعرى الحب التي لا انفصام لها . فما يزكي روحكِ يزكيني ، وما يصيبك من خير يصيبني ، وما يرفعك يرفعني ، وما يسعدك يسعدني ... لكني وددتُّ في تلك اللحظة ، أن لو يُكشف لي السرّ ، فأكلم الملائكة بلسان الحال .. أنْ يا ملائكة الرحمن .. لو دعوتم ربكم وربنا ، أن يقذف من رحمته في قلب سحر الشرق .. علها ترحمني ، وتلتفت إليّ .. إلى هذا الذي قد بُحّ صوته من النداء ، علها تسمعني .. لتمتني إن شاءت، أو لتحييني .
لكن الملائكة كانت قد اختفت ، قبل أن أوصيها بذلك .. وسمعتُ مناديا ينادي .. بدا وقت الامتحان .
17 / 1 /2011
كانون الثاني
|