في حوار مع الأديبة ليلى مقدسي:
دمع البنفسج... وبوح الزنبق
تجربة مديدة مع الكتابة، وبخصوصيّة لافتة، تنسجُ الأديبة ليلى مقدسي عوالمها الإبداعية الثرية بمخزونها الإنساني والأدبي، على امتداد بوحها المفتوح، ملتقى أجناس إبداعية مختلفة، ترتقي بعماراتها اللغوية لتشيد كوناً شعرياً في المبتدأ، يتواشج مع كونها الإنساني في علاقات دالة،
تترجم شغفها لأن تجلو قيمة كبرى، لعلها قيمة رابعة بعد قيم الحق والخير والجمال، في ثنائية يشكلها معطى الحلم ومعطى الواقع، لتضيف أبعادها المعرفية لنصوصها العامرة بالحب كقيمة، وكثيمة تتواتر على نحو عميق، في مدوناتها لتفيض بإشراقاتها وهواجسها الإبداعية، ملوّنة تربة الكلمات بمحبتها الإنسانية بكل شفافية البوح وكفاءة سرده وتشكيله.
مبدعة من زمن جميل تقطّر كثافتها الإنسانية، جماليات تأنيث لغتها، في مغامرة إبداعية ارتبطت بالإيمان وبالأمل والقدرة على التجاوز، للوصول إلى مستوى الإنجاز كمعادل لوجودها وجدليتها الأثيرة: الحياة حلم، والحلم حياة، والكتابة شكل حياة.
جهينة- أحمد علي هلال:
أبجدية الحب
أقانيم ثلاثة شكلت مهاد تجربتها الأدبية، هي الروح والطبيعة والحب، بيد أن البحث عن الإنسان مثّل لدى ليلى مقدسي هاجساً أصيلاً ونبيلاً، ولاسيما أنه بحث بين قيم الحق والخير والجمال والحب، ليكون نسيجها المعرفي، وسؤالها الدائم، الذاهب بفطنة الروح إلى سبر وجوده، وما ينطوي عليه ذلك الوجود من قيم إضافية تتجسّد في المحبة المطلقة للإنسان... لقد منحتها تلك المدينة الساحلية الجميلة- صافيتا- بطبيعتها وبحرها وغموضها استعداداً فطرياً وحدسياً، لتشرع في سرانيّة تأملاتها التي سوف تشعّ في لغتها الصافية وإبداعها المستمر، وتغوص في أسرار الكون وجزئياته كحالة استكشاف مثيرة لجدل الأشياء وتناغمها وكثافتها ودلالتها، وهي من عشقت المطالعة والشعر مذ كانت صغيرة، لتتفوق في دروس اللغة العربية، وينشر لها أستاذها "حسن الخطيب" موضوعاً إنشائياً عن الأم في كتاب من تأليفه بعنوان "التعبير الفني في الإنشاء"، كان اسمها إلى جانب أسماء كبار المبدعين، بذرة سوف تؤسس لحلمها الإبداعي وطموحها، فضلاً عن تشجيع عمها "رفيق مقدسي" لها، الذي كان يعمل في الإذاعة والتلفزيون عام 1960.
ثمة حدثٌ مؤلمٌ سوف يضاعف رهانها على أن تكون رائية بامتياز، فإثر عملية جراحية خاطئة فقدت النظر بعينها اليسرى، لكنها تحدّت ذلك الفقدان، لتستمر في المطالعة والكتابة، منزوية وحيدة، سوى من جبران خليل جبران، وطاغور، فقد أضاءت موهبتها – رغم تحذير الأطباء- بضرورة تجنب القراءة المستمرة، وأشعلت النقطة التي بداخلها بقناديل المطالعة والكتابة.
تقول الأديبة ليلى مقدسي: "استخدمتُ الكتابة لأرى روحي بنور المعرفة والإبداع... فالألم مع الموهبة مبعث رحلتي مع الحرف وهي قوتي ومتعتي". وتضيف: "بيتهوفن كان أصمّ، طه حسين كان أعمى، باستور كان مفلوجاً، لكن محبتهم الإنسانية تغلّبت على المحن بطاقة الإبداع والعطاء.. ألم تُكتب قصة الحب بأنفاس الحب؟!".
في ولوجها لفضاءات تجربة صوفية، سوف يتكشّف نزوعها الصوفي في إبداعها بإشارات وعلامات ومكونات لتنضوي في دلالات جديدة ترتقي بالنصوص إلى ما يضعنا أمام لغة في اللغة، حيث تشكيل ثقافي يمنح خصوصيته وفرادته، وهو الآتي من ينابيع الرؤيا، ليستثمر جماليات غير مألوفة يتلامح فيها الحسيّ المدرك بالحدسي، وبمجاز مرسل يضفي على شاعرية كتاباتها سلطة خيال آسر، وفعالية تخييل نثري- شعري يحفّز متلقيه على الإنصات والإصغاء لفتنة ثاوية في تضاعيف لغتها، إنها فتنة لغة ثريّة في طلاقتها وانفتاحها على الحياة.
الخيط السري
وهكذا تنوّعت العوالم الإبداعية للأديبة ليلى مقدسي ما بين الشعر والنثر، والقصة والرواية، والبحث، ولعلّ في ذلك التنوّع الخلاق، ما يحيل إلى تجربة الكتابة المؤسّسة بشعرية الرؤيا، كما نشوتها بعيداً عن اختزالها بأدب نسوي، أو تبسيطها بحثاً عن "الإطار الفكري والمرجعيات التي يتم في داخلها موضعة المرأة" على أهمية ذلك!.
تقول مقدسي في مقاربة فعل الكتابة: "الكتابة ينبوع يتدفق من الذات، وهي حركة الكيان الإنساني باتجاه كيان شعري... والعمل الإبداعي يحاول تطهير العالم، لأنه نور ومعرفة".
فمن لحظاتها المتنوعة والمضيئة فجّرت كتابتها، لتكون لغتها "طاقة انبهار في سحرها" متوهجة الأسلوب بتراكيب مموسقة محمولة على غنائية الروح، كتابة حرة حالمة، وكأنها كما تقول في نزهة فكرية، شأنها شأن "مرنتيف" الذي اخترع قارئاً وهمياً ليبثه خواطره وأفكاره، حيث تقول أيضاً: "ثمة خيط سري يرتبط بعناوين الكتب لتعود إلى أولى مدوناتها "ثالوث الحب" المسبوق بثلاث مجموعات كتبت وعمرها عشرون عاماً، لتتبعه بسبعة عشر مؤلفاً منها: "رسائل لم تصل، ربيع يبكي، قطوف وأوراق، غمامة ورد، كتاب الزمن، زمن البوح الجميل، الحب في أبجدية، رسائل وصلت، نص القلب، لأننا لم نفترق، وغيرها"... حيث موضوعة الحب في تواترها بنصوص تبحث عن قيمة الحب وتماهي فيها ما بين الطبيعة والإنسان، وتخوض في ثنائية دائمة هي صراع الأنا والحب، نصوص تزكي رفقة الروح، في رحلة تأمل، بحثاً عن الحب مع الزهور- الكائنات الضعيفة- التي تمنح ولا تأخذ.
وهي ترى معللة نهجها الأدبي الذي يعلي من شأن قيمة الحب: "لأن الحب نقطة انطلاق" يوصلها إلى الجوهر الذي تحاوله، في محاورتها للمطلق واللامتناهي، لتبدع في الزمن المطلق وتمتد إلى الأبعد، من أجل غاية جمالية وإنسانية، فالحب صلاتها السرمدية.
التجربة والأثر
كان دأب كتاباتها ولا يزال أن تواجه التجربة بوصفها وسيلتها للتغلب على الضعف والقهر والمعاناة، لتذهب في كتابة حالمة تدخلها مدن الأساطير التي لا تنتهي، وليس ذلك فحسب، بل لتقيم حواراً مع العالم الخارجي والذات، ولتتجاوز العالم بالكتابة، هكذا هي في رسائلها أيضاً الباحثة عن أجوبة بين كتابها الخفي في رجفة الغياب، رسائلها المكتنزة بالومضات الخاطفة والبوح، وبنداء الحياة وسحر الطبيعة، فمن رسالة إلى تلك "الساجية في أبعادها" كترجيح لأناها الشاعرة تقول: "ألستَ أنتَ مبعث هذا الملل لأني أغوص وأرجع إليك متعرياً بذاتي الحقيقية، وتنهمر كلماتك بين جروح المطر في أخاديد نفسي".
هي والشعر
الشاعر- كما تذهب – ليلى مقدسي "طيرٌ مهاجرٌ أبداً، وكلمته الأولى مصطفاة من عظمة المعاناة الإنسانية" فهي لم تنذر نفسها للشعر، بل ضحّت بها في سبيله: (جراح أحزاني راعفة... حرّ هاجرة... الوحدة العذراء... تهصر أفكاري... تلفها.. بعذوبة التأملات... ماذا يصنع عطش الأرض لينبوع الحنان... ماذا يصنع الشوق لغريب ضائع في وطن الحب).
هكذا ترى الشعر لغة عشق وثورة ووطن، لغة ماء ونار، والشاعر طائر المسافات المجهولة، يمرّ بعرائش الياسمين واعتلال الخزامى، والمساحة البيضاء هي الكلمة. ففي نصوصها الحلولية تقول: "وجهي الحب ولهاً يتراخى... في مراكب البرق... لمعاصر أحبار العشاق... لرحيق خوابي الروح... فيهم". لتجد في فيروز مُهجة شعر، فتسترجع نصوص أغانيها، وكلماتها، كأنها تذهب إلى اللهب المصفى، وما بين نصوص الغناء، ثمة نصوص الأديبة في تعالق وحوار لا ينتهي بحثاً عن غواية الزمن بالحب، (وبفرش حرير المعنى على خدّ الحرف، ونبض القصائد كما البياض يغوي شفاه الليل برضاب الفجر).
تقول الأديبة ليلى مقدسي في نصها "عذوبة": "لثغة فيروزية تتهدل المعنى لطيور الشعر... من قال لها إن تذوّب العذوبة في خوابي الحب؟" ولأنها تشاطر فيروز أمومتها "الحارقة والمحروقة" تعاضد نصّها بالمقاطع الشهية.. فعلى مائدة فيروز يلتقي الشعر والغناء، تنفتح الذاكرة على ما تريد الشاعرة لتؤرخ الوجد، وترنو إلى "تفتح اللغة وإشراقها وتحرير القوى المحبوسة داخل الذات، لتنعش روحها وخيالها وصورها" إنها على مدارج الحب تكتب بلغته كما قصة الخلق تراها كُتبت بلغته أيضاً، لتحقّب وتسائل وتبحث في ماهية العشق والحب، وتقاربهما بثقافة فاعلة تستخلص من الفلسفة والفن والتراث والتاريخ، ما يؤكد أطروحتها الجمالية في الحب كمعرفة لتفتح آفاق ما وراء الواقع: "نقطة النور لانطلاق التجربة وحوارها لأفكار ومفاهيم حداثية وتراثية وتجليات نورانية لماهية الأثر الإنساني، مغزى الأفكار والعواطف والتأملات والتراتيل التي تركتها على حافة فجر وحيد.. تنتظر وعود الأمل الجائع والمتألم"، وتقفز كطفلة الأغصان على حبال العشق، ابنة غابات عذراء مهجورة، تقول: "الشعر والحب هما واحد وحارق ومحروق، فالشاعر مبدع الجمال والشعر عذابه الجميل".
نص الحرية
تذهب الكتابة هنا كفعل تطّهر، لتبوح بالخفايا ولتضبط إيقاع زمن هارب تستعيده لكأنما تعيد إنشاءه بحساسيتها وفنها، سادنة وجدان جمعي، متخففة مما يقيد بوحها/ نصها، فهي على الأرجح لا يعنيها قلق تجنيس نصوصها، واستقرارها الإجناسي، تكتفي في جلّ أعمالها بمسمّى نصوص، ولاسيما في أعمالها الأولى، فمثلاً تقول في كتابها "لأننا لم نفترق": لا أستطيع أن أقول رواية، ومن عادتي ألا أحدد جنس كتاباتي، ولأنني مؤمنة بحرية النص دون شكل معين، المهم المضمون الذي يصل للقارئ ويؤثر به.
لقد استوقفها الفيلسوف جورج برنارد شو بقوله: "اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية" لتقول تأسيساً على ذلك: ليس للحياة قاعدة معينة في الترتيب، ولا نماذج معينة في الألوان، لأن أصالة المبدع ليس فيما عرفه بالتقليد والتكرار، إذ لا يوجد شكل ثابت ومقدس في الفن، وكل كتابة صادقة تمثّل جدلها الخاص، ولكل كاتب فرادة في الإبداع... فلا بد أن أحلّق في جزر الحرية مع مساحات الورق لأرسو على موانئ الحرف وشواطئ الكلمة.
وتجهر برأيها أنها ضد التيارات المنهجية والأكاديمية في الكتابة. ويرى بعض النقاد أن إبداعاتها ذات أشكال مختلفة لكن مضمونها واحد، وجملتها تكاد تكون واحدة في النثر والشعر، تردّ على تلك "التهمة" الجميلة بالقول: اللغة لديّ طاقة تذهب وتجيء، لأنها لغة حب تتداخل مع الكلمات والجراح، وقد لوّنت الحب بالإنساني والوجداني والصوفي.
ويرى نقادٌ آخرون أنها تكتب بعيداً عن الشعر العمودي أو التفعيلة، لكنهم لا ينكرون إيقاعاتها الداخلية والخارجية التي تتناغم على أوتار إبداعاتها، وثمة رؤية منصفة تقول بأن ثمة سمة تميّز إبداعاتها هي اللغة الشعرية التي تداخلت في الأجناس جميعاً.
مقاربات دالة احتفت بلغتها المميزة وبإيقاعاتها الداخلية التي طغت على البحور والتفعيلة من خلال الرسم بالكلمات، لكن كتاباتها فضلاً عن تأثيرها ومناهضتها للقبح، ترتقي لتضيف وعياً إضافياً بالنص، ومعه تصبح قدرة النص على أن يمتّع قارئه ليست مجانية، لأن ما يحيط به من تخوم ورؤى وفضاءات تحيلنا إلى مستويات من التحفيز التأليفي والواقعي والجمالي، مضافاً إليه فضاء تفاعلي يبث التجربة الإبداعية بأبعادها العاطفية والإنسانية والوجدانية والصوفية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية.
رحلة حب
رحلة مع الكتابة واكتشاف اللغة، هي كلمة سر الأديبة ليلى مقدسي بمكابداتها وصيرورة إبداعها، وقلقها الفاعل، ولئن كان قدر الشمس أن تشرق دائماً، فلن تنتظر ما تبقى من مخطوطاتها طويلاً، لتدخل لحظتها الجديدة بصبوات أحلام طازجة، تسكب دمع البنفسج وبوح الزنبق على مدارج الحب صوب أبجدية واحدة.
ليلى مقدسي.. سطور وعناوين
ولدت في مدينة صافيتا المنطقة المجاورة للساحل السوري.
تدرجت في دراستها الابتدائية والإعدادية وعملت صغيرة في مدارس الراهبات قبل سنها القانوني، وتعمق لديها سمو الروح وبذل الذات والمحبة الإنسانية.
عملت أمينة للسر في معهد المحبة الخاص في مدينة حلب لمدة 25 عاماً، واستقالت بسب ظروف صحية.
تفرغت لنشر مخطوطاتها المتراكمة عام 1990 وطبعت منها ثلاثين كتاباً توزعت على حقول النثر، الشعر، القصة، الرواية، التأملات، الدراسات الصوفية، قصص وشعر للأطفال منها: دراستان عن التصوف الإسلامي، وعن الحب عبر التاريخ. وكذلك: منك أسقي منديل الغيم، وكاهنة الصمت، دموع الينابيع، قرنفل فلسطيني، عرس قانا.
تذكّر تجربتها مع الشاعر والأديب طلعت سقيرق في كتابهما المشترك "زمن البوح الجميل" بتجربة الأديبين الراحلين مي زيادة وجبران خليل جبران، على مستوى الرسائل المشتركة فكان الكتاب إحياءً لذكراهما، وتوزع على واحد وثلاثين بوحاً يجسّد تواصلاً روحياً.
يقول الأديب طلعت سقيرق في زمن البوح الأول: "ليلى عصفورة الشعر، هل علينا أن نرتب وقع خطواتنا ونشكل وردة من نسيج الروح لنقول: بوحنا المشترك، وترد ليلى مقدسي في إحدى رسائلها: ما بيننا لغة فهل تكون اللغة أجمل منا، لغة لا لون لها، ولها كل الألوان.
صدّر الأديب والروائي وليد إخلاصي كتاب الزمن "تأملات" بالقول: "ليلى مقدسي في كتاب الزمن تنوس بين التقسيم العقلاني والانفلات الشعري، فهي تائهة لكنها تحاول خلق إحداثيات منضبطة للإنسان، وهي عارفة تجاهد في بعثرة الحدود.
يمثل كتاب "تجليات المقدسية" للناقد والشاعر محمد الزينو السلوم واحداً من الكتب النقدية التي قاربت بعض إنتاجات الأديبة – مقدسي – باستخلاصاته الموضوعية ومنهجه النقدي المنفتح، بشفافية التناول ومرونة الأحكام وعمق التحليل وبذائقة متميزة.
فازت بجائزة الباسل في محافظة حلب عام 2000.
فازت بجائزة أنجليك باشا لتمتين الروابط الأسرية عام 2006 عن كتاب للأطفال بعنوان "ثلاث وثلاثون وردة من شهيد إلى أمه" وجاء في تقديم الجائزة بقلم ناجي نعمان: ليلى مقدسي في ورودها المقدمة من شهيد إلى أمه، تحكي واقعاً وتروي أسطورة، فيما همّها الإنسان في يومه وغده في روابطه مع شعلة الأسرة.
كُرّمت من نادي التمثيل العربي للآداب والفنون بإشراف الأديب محمود فاخوري.
نشرت كتاباتها في العديد من الصحف والمجلات، وأجرت عدداً من المقابلات التلفزيونية (نادي النوادي) شاعر وقصيدة، المجلة الثقافية، إلى جانب حواراتها في إذاعة دمشق وصوت الشعب ومونتي كارلو.
عن مجلة ( جهينة
[/align]