الموضوع: إذا....
عرض مشاركة واحدة
قديم 29 / 01 / 2011, 57 : 11 AM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

إذا....

[align=justify]سألَتني زوجتي، وهي تُقدِّم لي مولودنا البكر بعد وضعه، وطيف ابتسامة حالمة متفائلة ترفُّ فوق شفتيها الرقيقتين:
ــ ماذا تتمنى له أن يصير حين يكبر؟
حملني سؤالها الذي تَوَهَّمَتْهُ بسيطاً إلى عوالمَ كالحة معتمة عبرت بي من الماضي إلى الحاضر، وأعادتني إلى كل لحظات الخوف التي مرت بي وبأقاربي وأصدقائي، عبر السنين الثلاثين التي عشتُها، قبل ميلاد ابننا.. ارتجف قلبي خوفاً على مصير هذا الطفل الجميل البريء الذي بدا لي، في تلك اللحظة، مثل النقطة في المصحف، كما يقول المثل.. وبدأت غيوم داكنة تجمعت في رأسي من أسئلة لا جواب لها، منذرة بأمطار غزيرة من العجز والخوف، ثم ما لبثت أن انهمرت من عيني دموعاً مدرارة، الأمر الذي جعل زوجتي تبهت، وهي تسألني مندهشة إلى أقصى حد:
ــ ما بك..؟ لماذا تبكي؟
ناولتُها الصغير، وتابعتُ بكائي سائحاً بين ذكريات الماضي الأليمة ووقائع الحاضر الأكثر إيلاماً، متخيلاً ما يمكن أن يكون عليه وضع ابننا، إذا لم يتغير الحال التي نحن عليها.. فكانت كلها صوراً قاتمة مروعة، فازدادت دموعي انهماراً.. وبعد أن بكيت ما طاب لي البكاء، مسحتُ دموعي بطرف كمي، ثم قلتُ لها مفسراً:
ــ اسمعي يا زوجتي العزيزة.. سؤالك أثار كوامن ألمي وخوفي، ودفع إلى قلبي بأحزان لا حدود لها.. فبكيت إشفاقاً.. والآن، وبعد أن أراحني بكائي قليلاً، دعيني أُجِبك عما سألتني، فأقول:
ــ إذا لم يُصَب ابننا، وهو ما يزال صغيراً، بمرض عضال أو غير عضال، يتخذ منه أطباؤنا المحشوُّون إنسانية سبباً لابتزازنا، دون أن يداووه ليشفى، أو يتركوه ليموت بمرضه؛
وإذا لم تدهسه، وهو في الطريق إلى مدرسته، سيارة مسرعة، يقودها شاب أرعن من أبناء أحد المسؤولين أو الأغنياء الذين اشتروا بجاههم ومالهم تلك المنطقة التي تُسمى (فوق القانون)؛
وإذا لم يُفسده رفيق سوء متحضر، عندما يبلغ المراهقة، فيعلمه إدمان المخدرات ومعاقرة الخمرة، ومعاشرة المومسات حتى يُصاب بالإيدز؛
وإذا لم يعلق به صديق آخر، فيجره إلى التعصب الديني، ثم يجعل منه قاتلاً باسم الدين، يُلوّث يديه بدماء الأبرياء، قبل أن يتم القبض عليه ويُعدَم؛
وإذا لم يُلاحقه (أنبياء) الديمقراطية الأمريكية، وأدعياء الحرص على (حقوق الإنسان)، بتهمة الإرهاب، لأنه رفض أن يحني رأسه ذلاً أمامهم، ورفض احتلالهم لوطنه، وقرر قتالهم وفضْحَ زيف ادعاءاتهم ونفاقهم، فقتلوه؛
وإذا لم يستطع ضبط لسانه وأعصابه، فيمنع نفسه عن الصراخ في وجه جلاديه، رافضاً مصادرتهم لحقه الطبيعي في حرية التعبير والتفكير، مصراً على مقاومتهم حرصاً على حريته وكرامته الإنسانية، حتى أودعوه في سجن منسي ونسوه في غياهبه حتى مات؛
وإذا لم يمت جوعاً لرفضه بيع ضميره وشرفه وعرضه؛
وإذا لم يقضِ غيظاً لعجزه عن مواجهة الذين أذلوه؛
وإذا لم يمت خوفاً من إلصاق أي تهمة به، وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف؛
وإذا لم تحاصره الهموم بسبب ظلم من حوله له؛
وإذا لم يسقط فوق رأسه سقف بيت بناه تاجر بناء بلا ذمة؛
وإذا لم يمت متسمماًً بلحم فاسد اشتراه من لحام فاسد رشا لإدخاله إلى الوطن، مسؤولاً فاسداً؛
وإذا لم يغرق في مسبح، منقذه لا يداوم لأنه مدعوم؛
وإذا لم تطحنه الديون، وتفترسه الخيبات، وتلاحقه الظنون، حتى يموت كمداً أو مختنقاً بدموع اليأس؛
وإذا؛....
وإذا؛....
وإذا؛....
إذا لم يحدث له أياً مما ذكرتُ لكِ سابقاً أو ما يُشبهه، فإنني أتمنى أن أراه ذات يوم، إنساناً عادياً، يعيش هادئ البال، شبعانَ المعدة، آمناً مسروراً في وطنه، عزيزاً بلا ذل، حراً بلا عنف، غنياً بلا جشع ولا حرام، قانعاً بحياة الإنسان العادي الذي خلقه الله ليسعد في هذه الدنيا لا ليشقى..
وكان ابننا يستمع لحديثي مع أمه، منصتاً لما أقوله لها بانتباه، ولهذا، ما إن أنهيت كلامي معها، حتى بكى بكاء حاداً، ثم كفكف دموعه بطرف قماطه، ثم اجترح معجزة الكلام في المهد ثانية، كالسيد المسيح عليه السلام، فقال وهو ما زال في المهد صبياً، مخاطباً أمه بتضرع ورجاء حارين:
ـ أرجوك يا أمي! إلى بطنك أعيديني! ومما ينتظرني في هذه الدنيا أنقذيني! وإن لم تستطيعي، فسارعي واقتليني، من الآن، لتريحي نفسك وأبي وتريحيني![/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)

التعديل الأخير تم بواسطة محمد توفيق الصواف ; 26 / 09 / 2016 الساعة 19 : 10 PM.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس