خبر كاذب
خبر كاذب...
قصة قصيرة
محمد توفيق الصواف
في ذلك الصباح المشؤوم، جلست إلى طاولة الإفطار، قبالة زوجتي التي بدت لي، لكثرة ما تحمله من هموم، أكبر من سيدنا نوح عليه السلام... كنا هادِئَين كعادتنا كل صباح، ينظر كل منا إلى الآخر، دون أن تنتابه أي مشاعر من أي نوع، ونتناول إفطارنا بصمت وملل، وكأننا في وليمة مأتم، نأكل بعد عودتنا من دفن عزيز...
مراراً غادرت طاولة الإفطار دون أن أتوقف عن الأكل، غادرتها بشرودي لا بجسدي.. أفكار كالغيوم السوداء الثقيلة كانت تتلبَّد في سماء عقلي المضطرب، فتجعلني أخلط الزعتر بالمربى بدل الزيت، وأحمل اللقمة إلى عيني أو أنفي أحياناً... ومع ذلك لم تكن هذه التصرفات لتجعل زوجتي تبتسم مجرد ابتسام، لأنها غالباً ما تكون هي الأخرى في دنيا غير التي تجلس فيها إلى مائدة الطعام، فإذا بها تأكل وتشرب الشاي بحركات آلية معتادة، دون أن تحس بطعم ما تأكل أو تشرب...
ذلك اليوم، أخرجتنا طرقات سريعة على باب البيت من رحلة شرودنا.. قفزت قبلها إلى الباب وفتحته، فإذا بجاري أبو أكرم يقول لي، وقد استحال وجهه إلى إشارة تعجب كبيرة ومضحكة:
-هل سمعت الخبر؟؟
-أي خبر؟
-افتح الراديو واستمع، وأنا على استعداد لأن أحلف يميناً بالطلاق أنك لن تصدق ما ستسمعه..
تركته يكمل حديثه على الباب الذي بقي مفتوحاً، وهرعت إلى المذياع... شغلته، فإذا بصوت المذيع في أول إذاعة، يتحدث عن انفجار هنا وآخر هناك، وضحايا بالعشرات قُتلوا دون أن يعرف أحدهم لماذا قُتل... فأدرت مؤشر المذياع إلى محطة أخرى، لأسمع مذيعها يخبر مستمعيه المساكين بأن الدولة الديمقراطية العظمى قد أغارت قواتها صباح اليوم على إحدى الدول الرجعية ذات النظام الديكتاتوري، واحتلت جزءاً كبيراً من أراضيها، بعد أن أسقطت نظامها الحاكم، الذي ينتهج سياسة قمعية، وذلك بهدف تحقيق الديمقراطية والحرية لشعب هذه الدولة الذي سقط منه كذا ألف بين قتيل وجريح، جرَّاء الاجتياح الديمقراطي لأراضيه... فأسرعت أُغيِّر المحطة مرة أخرى، لأسمع مذيعاً آخر ينقل لي خبر زواج أحد الزعماء العرب من راقصة كانت تعمل في إحدى علب الليل الباريسية، وذلك توفيراً لأمواله التي جمعها من ثروة بلاده العامرة، بعد أن نصحه أحد المقربين بأن زواجه من تلك الراقصة أوفر لثروة البلاد التي كان يبددها على حبيبة القلب في الملهى كل ليلة... وشعرتُ بالغثيان، وظننتُ بجاري الظنون، لولا أن أسعفني المذيع في المحطة الرابعة التي انتقلت إليها، بذلك الخبر الغريب الذي راح يذيعه بصوت متوتر عال:
(سيداتي سادتي... جاءنا الآن ما يلي:
بشكل غير متوقع، أصدرت الحكومات العربية مجتمعة صباح هذا اليوم قراراً تعلن فيه مباشرتها بإلغاء جميع الحدود المصطنعة بين دولها الشقيقة، وبإغلاق جميع السجون والمعتقلات في بلدانها، وإطلاق الموقوفين فيها، وخصوصاً سجناء الرأي المخالف، مع السماح لكل أبناء شعبنا العربي العظيم بحرية التعبير في مختلف المجالات، أي برفع قوانين الرقابة على وسائل الإعلام والفكر...
وعلى الصعيد الاقتصادي، قررت حكومات الدول العربية، دون استثناء، وابتداء من اليوم، وَقْفَ ضخِّ نفط بلدانها، ووَقْفَ تصدير سائر ثرواتها الطبيعية الأخرى، بالأسعار شبه المجانية، إلى الدول الاستعمارية. وبالمقابل، قررت الحكومات العربية مجتمعة وَقْفَ استيراد أي مواد استهلاكية من تلك الدول المعادية لشعبنا العربي العظيم..
وعلى الصعيد العسكري، اتخذ الزعماء العرب قراراً استراتيجياً بالغ الأهمية يقضي بتوحيد جيوشهم في جيش واحد، وتحت إمرة قائد واحد، لن يترددوا في استدعائه من كبار القادة العرب الكبار الذين رحلوا إلى الآخرة، إذا لم يجدوا بين العرب المعاصرين من يصلحُ لأن يكون هذا القائد الذي سَيَكِلُون إليه إنجاز مهمة بالغة الخطورة تتمثل بتحرير فلسطين والعراق، وباقي الأراضي العربية المحتلة من قبل الدول المجاورة، المعادية والصديقة...
بهذا التطور المذهل في الأحداث، ونتيجة له، تمكَّن القادة العرب من إعلان دولتهم الجديدة الموحدة، كدولة عظمى وحيدة في العالم... وقد أكدوا أن مظاهر الوحدة ستشمل كل مظاهر الحياة العربية، بما في ذلك جعل بداية شهر رمضان المبارك موحدة بالنسبة لكل "الولايات العربية المتحدة" ـ وهذا هو الاسم الجديد الذي اختاروه لدولتهم ـ وجعل نهايته وبداية عيد الفطر السعيد واحدة أيضاً، تماماً كما كان عليه الحال في أيام الاستعمارين المملوكي والعثماني...
أما بالنسبة لحرية المعتقد، فقد تمَّ الاتفاق على أن يكون رائد الجميع في ذلك قوله تعالى: (لا إكراه في الدين).. أي أن "الولايات العربية المتحدة" سوف يكفل دستورها الجديد حرية المعتقد حتى لمن لا يعتقدون إلا بأنفسهم، ماداموا لا يؤذون الآخرين....
للوهلة الأولى ظننت أنني أحلم، وأن ما أسمعه مجرد صوت نبت في الحلم ولا أصل له في أرض الواقع.. وحانت مني التفاتة إلى وجه زوجتي أستطلع أثر سماع الخبر في وجهها، فرأيتها تتثاءب، فعلمتُ أنها لم تتأثر، الأمر الذي جعلني أغضب وأصرخ في وجهها مؤنباً، وموبخاً، وهو ما لم أفعله منذ سنين طويلة، بسبب اعتيادي على التنفس تحت الوحل... لكن المسكينة ما كادت تستفيق من سكونها الأبدي وتسمع الخبر من فمي حتى تغيرت ـ والحق يُقال ـ تغيراً كلياً، فأسرعت تكمُّ فمي بيدها لئلا يسمعني أحد، وتكون نهايتي ونهايتها فيما أرويه.. ولكن حين أكدتُ لها أنني سمعتُ الخبر من الإذاعة، تغيرتْ ملامحها وفرحتْ فرحاً عظيماً عبَّرتْ عنه بإسراعها لإلقاء نفسها من الطابق الرابع، كما فعلت المنتحرات الشهيرات حزناً على وفاة عبد الحليم حافظ، حين سمعن خبر وفاته، لكن الله سَلَّمَ بالنسبة لزوجتي المصون، إذ تداركتها في اللحظة المناسبة...
حين عادت إلى رشدها، نبهتني إلى أمر صحيح غفلتُ عنه.. ماذا لو كان الخبر الذي سمعته كاذباً؟
-لماذا لا تحاول سماعه من محطة إذاعية أخرى؟ إن مثل هذا الخبر لابد أن يستأثر باهتمام كل الإذاعات العربية وغير العربية..
فسارعتُ أُطَمْئِنُها:
- لقد فعلتُ ذلك، قبل أن أصل إلى المحطة التي أذاعت الخبر..
فَرَجَتْني أن أعيد المحاولة مرة أخرى للتثبت لا أكثر.. فوافقت.. ولكنني لم أسمع هذا الخبر إلا من تلك الإذاعة، فدخل الشكُّ إلى نفسي، ورحتُ أفكر في أمور كثيرة متضاربة... ولم يخرجني من دوامة تفكيري تلك، سوى الضجيج الهادر الذي تناهى إلى سمعي وسمع زوجتي من الشارع... نظرنا فإذا الناس جميعاً في الشوارع يهتفون ويهزجون فرحاً بالخبر الذي بثته تلك المحطة، والذي سرى فيهم سريان النار في الهشيم، فانفجر المكبوت من أيام الصحابة والأمويين والعباسيين دفعة واحدة، وعمَّ الفرح جميع أرجاء الوطن العربي...
لم أنتظر ريثما أُغيِّر ملابسي، فنزلتُ إلى الشارع بالبيجاما... أما زوجتي الحيية فلم تنتبه إلى نفسها إلا في الشارع، حيث لاحظتُ ولاحظَ كثيرون غيري، أنها نزلت إلى الشارع بثياب النوم الشفافة... ولكن ما هَوَّنَ عليها وعليَّ الأمر أن معظم نساء الوطن العربي، حتى المحجبات منهن وزوجات الموصوفين بالأصولية والتزمت، قد نزلن إلى الشارع مثل زوجتي، وهن لا يشعرنَ، من طغيان حالة الفرح على عقولهن... بل لاحظتُ، وأنا أبتسم، أن جاري (أبو خالد) قد نسي بأن سرواله الداخلي الذي نزل فيه إلى الشارع، هو في الأصل، كيس طحين من مخلفات هدايا الولايات المتحدة الأمريكية إلى شعوب العالم الثالث...
فجأة، وبينما الناس ترقص وتغني فرحاً، طوَّقتْ قوات الجيش والشرطة، في أغلب البلدان العربية، جماهيرها الغفورة، وراحت تُفَرِّقُ جموعها بالعصي والرصاص الحي، حرصاً على النظام والأمن.. بينما طغتْ أصوات المكبرات المثبتة فوق سيارات عسكرية جوَّابة، على أصوات الجماهير الفرحة، وهي تعلن أن الخبر عن قيام وحدة عربية كان خبراً كاذباً، ومغرضاً يهدف إلى زعزعة الأمن وتهييج المواطنين العرب دون فائدة..!! وأن هذا الخبر الذي بثته محطة إذاعية معادية للأمة العربية وشعوبها ومصالحها وآمالها القومية والوطنية ومستقبلها، هو خبر عار عن الصحة...!!! ولذلك فإن الجهات العربية المسؤولة سوف تضرب بيد من حديد وفولاذ ومن مختلف اللدائن الأخرى الأقسى والأكثر صلابة، كل من تُسَوِّل له نفسه، كائناً من كان، تصديقَ مثل هذا الخبر (الحقير) وإشاعته..
وهكذا عاد الناس إلى بيوتهم حزناً يجرجر قدميه على إسفلت الواقع، ودموعاً سخينة تنهمر على مساحات شاسعة من الخيبة، تقدر بمساحة الأرض العربية المحتلة، من المحيط إلى الخليج... وقد بلغت الخيبة ذروتها والألم مداه، حين اتفقت جميع إذاعات العالم المتحضر والمتخلف، على بثِّ ضحكة مجلجلة هازئة من عواطف الشعب العربي الكبير.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|