حرية تعبير....
حرية تعبير...
قصة قصيرة
محمد توفيق الصواف
صبيحة يوم من أيام الربيع التي تلت اجتياح الديمقراطية الأمريكية للعراق، صحا العرب في باقي أقطارهم على نبأ غريب يقول إن أنظمتهم قد رفعت كل القيود عن ألسنتهم وحناجرهم مانحة إياهم حرية التعبير طوعاً، خوفاً من اتخاذ الولايات المتحدة حرمانَهم من هذه الحرية ذريعةً لغزو أقطارهم وإحالتها إلى هلام كذاك الذي آلت إليه أحوال العراق بعد الاجتياح الديمقراطي لأراضيه وأهله..
وما كاد الخبر ينتشر بين أبناء العروبة الصامتين منذ أجيال وأجيال، حتى سارعت نخبهم المثقفة والثورية إلى الخروج نساء ورجالاً، شيباً وشباناً، في مظاهرات توحَّدت فيها شعاراتهم التي راحوا يهتفون بها مطمئنين لأول مرة، في تاريخهم بعد تحررهم من الاستعمار:
-أين المسكن اللائق للفقير والمعدم؟
-أين وسائل المواصلات العامة التي تحفظ للمواطن كرامته وإنسانيته؟
-أين الوقود لمواجهة برد الشتاء في بلاد ينبع النفط من أراضيها؟
-أين المدارس المجانية الجيدة لتعليم أطفال الفقراء؟
-أين الأجور العادلة؟
-أين الخبز؟
-أين السكر؟
-أين الرز؟
-أين العدل؟
-أين حرية الفكر والتعبير؟
-أين الجيوش العربية التي تُوقِفُ عربدة الطامعين في أراضينا؟
وغير ذلك من الشعارات التي لم يكن أحد ليجرؤ قبلاً على النطق بها، إلا همساً، ومن وراء جُدُرٍ سميكة عالية.. ومع أن رجال الأمن والشرطة، في جميع الأقطار التي شهدت شوارعها مثل هذه المظاهرات، كانوا يحيطون بالمتظاهرين، ويسمعون شعاراتهم، لم يتعرض أي متظاهر أو هاتف لاعتداء أو ضرب أو اعتقال، ولا حتى لمضايقة من أي نوع، كما شهدت بذلك جميع وكالات الأنباء المحلية والعالمية التي رافق مراسلوها ومصوروها تلك المظاهرات، مؤكدين في نهايتها أن تحولاً نوعياً حقيقياً، باتجاه الديمقراطية، قد حصل فعلاً في الأقطار العربية!
لكن ما حدث في هذه الأقطار، صبيحة اليوم التالي، كان مفاجئاً أكثر مما حدث في سابقه.. فقد شهدت الشوارع العربية ذاتها، مظاهرات أكبر بكثير، ولكن لم يكن بين الخارجين فيها أيٌّ ممن خرجوا في اليوم السابق، بل كانت حشوداً هائلة ضمت آباء متظاهري الأمس وأمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم الذين خرجوا باكين نادبين متوسلين صائحين بصوت واحد يقطع نياط القلوب:
-أين أولادنا وبناتنا؟
-أين أزواجنا؟
-أين آباؤنا؟
-أين إخواننا؟
- أين أخواتنا؟
-أين أصدقاؤنا؟
-أين جيراننا؟
وكان من اللافت في هذه المظاهرات، كما ذكر مراسلو وكالات الأنباء العالمية، عدم وجود أي أثر لرجال الأمن والشرطة تُرافق المتظاهرين الباكين في اليوم التالي، مما يؤكد استمرار التزام الأنظمة العربية بمنح حرية التعبير لمواطنيها الكرام، بل رفع أي رقابة على ممارسي هذه الحرية!!
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|