العتمة
[align=justify]
[frame="1 98"]
أعترفبأنها عذّبتني كثيراً، وأنها تركتني لأحزاني البعيدة.. ومضت!!
كانتقد جاءت إليّ في ظهيرة يوم أحد لأعطيها بعض الكتب، وتمشي، غير أنها جلست وأطالتجلوسها. كانت صامتة تنظرُ إليّ بتأمل واضح، وتستمع إلى حديثي بانشداه عجيب. تهزُّرأسها، فيتراجف قلبي، وذؤاباتها تحوّم فوق جبينها كأنها رفُّ عصافير، وتبتسم لأرىحدود شفتيها الرقيقتين، وبياض أسنانها المتشابكة، ما أجملها!!.
[كنت أسمع بها، ولا أعرفها، لكن خيط لهفتي لها امتدّ منذ ذلك المساء العتيق، حينالتقيتها في معرض للرسم. رامقتها، وهي تقف قبالتي مباشرة، ونظرت إليَّ، لكأنما كناعلى استعداد مشترك لتلبية نداء روح واحدة مقسومة نصفين. كانت نظرتها عميقة وبعيدةمثل غابة لا تخوم لها، ولأنني عجول في كلّ شيء، واريتُ نظري عنها بعدما أشعرتُهابأنها بعثرتني، واقتربت. كان لابدّ لها من الاقتراب، فقد تلاقى بصرنا وهي تدلف منالباب واقفة على خطوتها الأولى. كنت مفتتح رؤيتها في ذلك المساء الذي غصّبالكثيرين]
حاولتُ، وقبل أن آتي إلى المعرض أن أمنع نفسي عن الحضور، لأنني لاأحبُّ معارض الرسم في ساعات افتتاحها؛ تلك الساعات التي تكون مرهقة ومربكة وبعيدةعن الفن؛ لكن صديقي الوهيبي، صاحب المعرض، ألحَّ عليَّ، قال: أودّ أن أراك قربي،فأنا أحسُّ بأن الثياب الجديدة والأمكنة الجميلة لا تخفي ارتباك السنين الماضية.تعال أرجوك!! فوافقته، وجئت. أحسست بأن تلامع عينيه، وهو يراني داخلاً، أمرٌ يخصنيوحدي. كان يريدني أن أراه وقد أحاطت به الوجوه الجميلة، والزهور، والروائح الرائعة،ودنيا الألوان. وما أن سلمتُ عليه حتى بادرني قائلاً:
* "أترى.. من كان يتوقع بأننا
سنصيرشيئاً مهمّاً"!!
[كنتأعرفه بالتفصيل، وكان يعرفني تماماً. كنا طفلين في العاشرة نجوب شوارع دمشق في حالةمن التشرد الجديرة بالبكاء الضاج. كنا نبحث عن قطع النحاس والألمنيوم وبقايا العظاموكسر الزجاج.. من أجل بيعها بفرنكات قليلة.
أذكربأننا تعاركنا ذات صباح على عدة عبوات صغيرة من الألوان. كانت يدي أول من أمسكها.حسبتها عبوات (بويا) من النوع القصير، وقد عملت من قبل ماسحاً للأحذية، وعرفها هو،قال:
* "إنها ألوان للرسم. اتركها لي"!
كانتأصابعي متشبثة بها جيداً، لكن قولته الراجية المدفوعة بنظرته المنكسرة، جعلتنيأعطيها له عن طيب خاطر. كنتُ أعرف بأنه يرسم جيداً، فقد كان يرسم لي ولغالبية طلابصفنا. وكان الأستاذ حمودة يمتدحه كثيراً. يقول عنه شاطر، إذا لم تأخذه الفدائيةسيصير رساماً كبيراً وهكذا كان فعلاً.
[ ياالله، مات الأستاذ حمودة، ولم ير الوهيبي في مثل هذا المشهد الباذخ!].
المهم، بعد تلك النظرة الطويلة، اقتربت سوزان! يا إلهي، طولها زينة،مثل حورة كلُّ شيء فيها مضموم إلى الأعلى. اقتربت، فتابعتها بنظراتي السائلة. جعلتمن بصري سياجاً يحفُّ بها لتتقدم نحوي بالضبط. اقتربتْ، وواقفتني مواجهة. كنتأعرفها من مقالاتها في الجريدة. كانت مجنونة بالحقائق، والعمل الميداني، وكانتتعرفني من صوري المنشورة هنا وهناك، ومن الأحاديث التي تثار عن كتاباتي. وقبالتي،على خطوتها الأخيرة وقفت. مدّت يدها نحوي، فأخذت كفها في كفي، وهززتها بلطف شديد،ورامشت هي بأهدابها، لكأنها أمطرت في قلبي. ونسيتْ كفها في كفي، كفها الناعمة كمفرشالعشب. وهمهمتْ، وهمهمتُ. ولم أفهم من كلامها سوى قولها، سأزورك قريباً. فرحّبتُبها. لابدّ أن وجهي الفضّاح كشفني، فأدركت اندفاعي نحوها!! وأفلتتْ كفها، ومضت نحوالوهيبي مهنئة، وحين تركته لتتنقل أمام اللوحات، بدت لي هادئة حالمة مثل طيورالحمام!
وعدتإلى البيت فرحاً. كنت ممتلئاً بها، فقد رافقني طيفها طوال ذلك المساء. ظلَّ معيأياماً عديدة. صرتُ أراه قبالتي، وإلى جواري، وفي مرآتي. كان معي في كل شيء. أحسستبأنها أغلقت عليَّ نهاراتي، بل إنها، راحت تعذبني في الليل أيضاً، فهاتفتها مراتعديدة، ولم أجدها. أخبرت زملاءها في الجريدة ورجوتهم أن تتصل بي لأمر هام جداً،ودون نتيجة. حاولت أن أنساها، وأن أقنع نفسي بأن ما حدث ليس سوى لحظات عابرة، وأنحديثها كان للمجاملة وحسب. لكنني ما استطعت. كانت معي، داخل روحي؛ امرأة تأتي بعدألف عام من الغياب، فتوقظني على وحدتي المرعبة، والسنوات التي تكرُّ بلا حساب،ومضيت إليها. سألت عنها في الجريدة، فقالوا لي: هي تكتب للجريدة، وليست موظفة فيها،ترسل مقالاتها وتحقيقاتها بالبريد فتنشر، وهم لا يعرفونها أصلاً، وحرت بأمري.وندمت، لأنني لم آخذ رقم هاتفها، أو عنوان سكنها، وما كان لي سوى أن أنتظرها، لعلهاتأتي!!
وجاءتني فعلاً في ظهيرة يوم أحد لتأخذ بعض كتبي، قالت لي إنها مقصرةفي قراءة كتبي بعدما تكاثر الحديث عني مدحاً وقدحاً. تمنيت، وهي لا تزال واقفةأمامي، لو كان بمقدوري أن آخذها إلى صدري في مرجحة لا تنتهي. أتت غفلة، دون أنتخبرني، بعدما يئست من حضورها، وقد حسبتها خيالاً ليس إلا!!
[لوأخبرتني، لتقيفت لها بأحسن ما لديَّ من ثياب، ولنقعت كفي في الماء الساخن، ودلكتهمابالكريم بحثاً عن طراوة مضاعفة، ولرفعت زغب خديَّ، وشربت برميلاً من القهوة لأبنيلها صحواً خاصاً بها. لا أدري لماذا علقت حياتي عليها، وأنا النفور الملول]!
حينجلستْ، حاولتُ أن ألغي كل شيء، رنين الهاتف، ومقابلة المراجعين، وتسجيل المواعيد.لكنها رفضت. قالت لي:
* "أريد أن أراك وأنت تعمل..
أرجوك" !!
فعلاً، كانت محقة، فالهواتف المتقطعة، ودخول المراجعين وتسجيلالملاحظات، كل هذا منح اللقاء لطفاً وحلاوة. كنت فرحاً بها، أتأملها، وكانت تكتشفنيعلى مهل بكل حواسها وصارحتني بأن هذا اللقاء تأخر خمس سنوات فقط، فقد عزمت أن تتعرفإليَّ منذ قرأت مقالة مكتوبة عني، كان صاحبها يشتمني. آنذاك انزعجت جداً لأنهاأحستْ بأنني مظلوم؛ وفتحت حقيبتها، وأخرجت جريدة قديمة، ونثرتها أمامي، فرأيتُالمقالة تلك، وتعليقاتها المكتوبة بالحبر الأخضر؛ كانت تدافع عني بكلماتها الصريحةالحادة دون أن تعرفني؛ فأحسست بأنها تضع اللمسة الأخيرة على امتلاكي؛ ودونما وعيمني، وصفحة الجريدة بين يديَّ ويديها، ونظري ونظرها متوحدان فوق السطور والحروف..أخذت كفيّ بين كفيها وضمّتهما إلى صدرها، وضغطت عليهما، فتلامعت عيناها لكأنهماتدمعان، وسرت في وجنتيها حمرة شفيفة كحمرة الرمان. وشعرت بها تدنو مني أكثر، لربمازاغ بصري، فأنفاسها الحارقة تتلاهث قرب أنفي تماماً. وهمهمتْ وهي تنهض:
* "نلتقي في المساء"!!
ومشت،وهي تترك وراءها نثاراً من الضوء المُذاب، دون أن تلتفت أو تستدير! وعدتُ إلى عمليمدهوشاً، فقد أوقدتني المخلوقة، ومضت!!
[والتقيتها مساءً. كانت مثل طائر يهفو إلى عشه، وكنت كالطائشالحيران. حسبتها ستأخذني إلى مكان ما، أو أن تترك لي الخيار، لكنها لم تقترح شيئاً،فقط، حاذتني مخاصرة، وراحت تقصُّ عليَّ أخبارها المحزنة، فواسيتها. عرفت بأنهاوحيدة مثلي تماماً، وأن الأحلام بعدت، والرغائب ولت، ولم يبق لها سوى نافذة صغيرةعلى قدها، ترى الدنيا الكبيرة منها، وتغصّ.
مشينافي شوارع عديدة، واسعة وضيقة، والحديث يلفّنا، كنا كلما تعبنا، مررنا بحديقة،واسترحنا فيها. كان القمر كبيراً وقريباً جداً، جعل السماء صحناً واسعاً من الفضةالمشتهاة. وامتد الليل، ونحن نمضي من شارع إلى شارع، ومن مكان إلى آخر. وأشرقتالشمس دون أن نعبأ بها، ثم غابت. وعاد القمر فآنسنا قليلاً ثم غاب. كانت تحكي ليوأحكي لها، دون أن نرى أحداً من الناس في الشوارع، والحدائق، والأمكنة الأخرى، شعرتبأنني غني بها عن كل شيء. لا أريد أحداً غيرها، ولا أشتهي شيئاً بوجودها ، لكأننيعشت هذا العمر الطويل منتظراً قدومها. وصارحتني بأنها ومذ رأتني تتعذب، لكأنها كانتتبني عشاً لي في صدرها. وما أن انتهى حتى التقينا. وأن غيابها الطويل لم يكن سوىامتحان لها. أشعرتني بأنني أعرفها منذ أمد بعيد، لذلك اقترحتُ عليها أن نمضي إلىالبيت، بيتي أو بيتها، لا فرق، فرفضت بشدة، ومشينا مرة أخرى. مررنا بطيور، وأزهار،وحيوانات، ومحطات لقطارات مهجورة. وحين هدّنا الجولان، جلسنا على الرصيف البارد.وما أن شرعنا بالحديث، حتى أحسسنا بأن الرصيف راح يتحرك تحتنا، وقبل أن نفعل شيئاً،سَحَبنا الرصيفُ كبساط متحرك شديد الانزلاق نحو منخفض فسيح. فتشبث أحدنا بالآخروانشدَّ إليه، لكن السرعة الشديدة طوّحتنا. فمضت سوزان في اتجاه، وأنا في اتجاهآخر؛ كان المنخفض كهفاً واسعاً، بارداً ومعتماً جداً. ناديتها بملء الصوت، فمااستجابت إليَّ. ناديت مرات ومرات ودون جدوى. وطفقت أبحث عنها في كل الأرجاء،فصادفتني دروب، وأشواك، ومنحدرات، وجرذان، ولم أجدها. لابدّ أنها كانت تنادينيأيضاً فلا أسمعها، وتبحث عني فلا تجدني، وظللتُ ألوَب وأبحث عنها، ولم أعثرعليها!!
فجأةرأيت، وسط العتمة المديدة، فانوساً يدنو مني. وقبل أن يقترب أكثر. جفَّ حلقي،ولفتني الحيرة، وضجَّ قلبي، وثبتت عيناي، كان وقع خطا حامله يتعالى في صخب وضجيجكالخيل في ساعة الغضب. واقترب أكثر. صار بمحاذاتي تماماً. فرأيته معلقاً بيد رجلضخم، بطنه كبيرة، على رأسه قبعة من القش ، وعلى صدره ألوان زاهية، حذاؤه ثخينومدبب، وحزامه الجلدي رفيع جداً ينتهي بحبات خرز لامعة. وإلى جواره سوزان، ذابلةالوجه، شاحبة. ترامقني من خلف كتفه بأسى!! ولم يتوقفا. تقاويت على نفسي وصرختبالرجل، وناديت سوزان فلم يحفلا بي. تقدمت من الرجل وتشبثت به لكنه عبرني وكأننيأتشبث بالهواء. ناديت وصرخت، وبكيت.. ودونما رجاء أو أمل. ركضت وراءهما فخانتنيرجْلاي، ولم ألحق بهما. ولا أدري من أين خرج إليَّ نمل كثيف لايُعد، وراح يحيط بي..لكأنني استنفره عليَّ كلما ناديت سوزان، أو صرخت بالرجل. وواصلت ركضي وراءهما،والنمل يطردني، وقد تسلق جسدي، وراح يمتصني، فأصابني بحالة من الخدر اللذيذ،ورويداً رويداً خارت قواي، وغاب صوتي، وانطفأت رؤيتي، فوقعتُ على وجهي فوق صخرةكبيرة مسننة حادة. فسال دمي، وشهقت جروحي، وعلى الرغم من ذلك، ظللتُ أفرُّ منالنمل، وأزحف باتجاه الرجل الضخم وسوزان الباكية في عتمة لا أول لها ولا آخر..
[/frame]
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|