رد: الحلف الاستعماري وقضية فلسطين
ففي الوقت الذي تعرضت فيه لبنان ولسنوات طويلة لهجمات جوية وبحرية إسرائيلية بضرب المنشآت الاقتصادية الحيوية كالكهرباء والبنى التحتية الأخرى وجدنا الموقف الأرعن واللا مسؤول لجوسبان الذي حرَّف الحقائق والوقائع وزوّر الإرادة الفرنسية بتصريحات مشؤومة لم يتفهم فيها ما جرى لـ لبنان وشعبه طيلة السنوات الماضية ورغم أن اعتذاره عن التصريح الذي أدلى به لم يرتح له أحد في المنطقة، لأن الجالية اليهودية واللوبي اليهودي- الصهيوني في فرنسا جعلا الموقف الفرنسي نفسه في حالة انقسام وذهول لما حصل، والسبب يعود إلى الضغوطات الواضحة للحركة الصهيونية المهيمنة في الحزب الاشتراكي الفرنسي والمؤثرة على موقع القرار فيه إذا لم نقل على موقع قرار الحكومة الفرنسية ذاتها في عهد الاشتراكية الفرنسية.
وتجاهل جوسبان بتحريض من رئيس الحكومة الإسرائيلية باراك بأن صلاحيات تحديد السياسة الخارجية الفرنسية وسياسة الدفاع هي من اختصاصات رئيس الجمهورية الفرنسية وفقاً للدستور الفرنسي ذاته وليست من اختصاص رئيس الحكومة، واعتبرت مصادر الإليزيه تلك التصريحات بأنها انحراف صريحٌ عن دور رئيس الحكومة من حيث الشكل والمضمون وتعتبر ضربة قاصمة لسياسة فرنسا الخارجية في المنطقة العربية ومن المؤسف حقاً أن تكون تصريحاته صادرة عن يساري اشتراكي بينما جاء الردع والتوبيخ من رئيس ديجولي ليبرالي، ولا نستغرب مطلقاً التأييد الذي وجده جوسبان من أنصاره ومؤيديه في باريس وبخاصة: "جاك لانج" رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية "البرلمان الفرنسي" والمرشح لعمدة باريس، كما فعل الشيء نفسه، "لوران دوميناتي" بينما أعلن هيرفيه دوشاريت أنه توجب على جوسبان الاعتذار وسحب كلامه الطائش وغير المسؤول واستطاعت العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية والاجتماعية الفرنسية كشف النقاب عن الصراع الخفي بين مراكز القوة في الدولة الفرنسية أي بين القوى المناهضة للصهيونية وبين المؤيدة لها، لأن رئيس الدولة يحق له رسم السياسة الخارجية بينما لا يحق لرئيس الحكومة ذلك مطلقاً الذي حاول تجاوز وتهميش رئيس الجمهورية بأسلوب طائش ومزعزع للجهود الكثيفة التي تقوم بها فرنسا في الاتحاد الأوروبي، وحوض البحر المتوسط، والبرلمان الأوروبي من أجل قضية السلام في المنطقة العربية وبخاصة تجاه الشراكة العربية- الأوروبية.
ومحاولات شيراك دعم موقف فرنسي متميز على صعيد دولي وإقليمي[118].
أما الحكومة اللبنانية فقد طالبت وهي محقة تماماً، بتوضيحات رسمية عما صدر من تصريحات غير موضوعية من (لونيل جوسبان) المؤيدة للإرهاب والعدوان الإسرائيلي على لبنان وشعبه، مما دفع السفير الفرنسي في لبنان السيد فيليب لوكوريته إلى تسلم رسالة من رئيس الوزراء اللبناني السيد سليم الحص من ثلاث صفحات حملت عتباً واستياءً كبيرين وطلب من فرنسا خطوة سريعة لتصحيح مواقفها من لبنان نتيجة ما تعرضت له من تشهير وكذب ونفاق وتضليل على لسان جوسبان، لأن إسرائيل تستغل تصريحاته بالقيام بالمزيد من الأعمال الإرهابية والعدوانية ضد الشعب اللبناني وبنيته التحتية.
في الوقت الذي كان السفير الفرنسي في لبنان لوكوريتيه قبل يوم واحد من تصريحات جوسبان ينقل رسالة رسمية للحكومة اللبنانية وموقفاً فرنسياً متقدماً لإرسال 5000 آلاف جندي فرنسي ضمن نطاق القوات الدولية لنشرها على الحدود الدولية لدعم جهود السلام من هنا نجد أن التصريح الأرعن والأحمق لـ جوسبان قد زلزل بعمق الصداقة العربية- الفرنسية العريقة والصداقة اللبنانية الفرنسية بشكل مؤسف.
والمشكلة الأساسية التي استفزت الشعوب العربية ودولها ومسؤوليها وبالأخص المعنيين بتصريحات جوسبان النارية- الخطيرة أنها جاءت بعد تصريحات ديفيد ليفي وزير خارجية (إسرائيل) الخطيرة التي هدد فيها بأنه سيقوم بإعطاء الأوامر بحرق الأرض والأطفال اللبنانيين، وواجهت تلك التصريحات لديفيد ليفي الاستنكار العربي- والعالمي الواسعين وحتى في داخل "إسرائيل" نفسها حيث أيد أمنون شاحاك واسحق ليفي تهديدات ديفيد ليفي من على مبنى الكنيست الإسرائيلي وقد طالبت الأمهات الأربعة، والوزيران يوسي بيلين ويوسي ساريد ومنظمة أو حركة (ميماد) بإقالة ديفيد ليفي من الحكومة فوراً لأنها تذكر بتصريحات الفاشيين والنازيين أيام الحرب العالمية الثانية، مما يؤكد على التناغم المقدس لحلف مقدس صهيوني وأوروبي- متشابك المصالح والأهداف تحت النجمة الصهيونية المعبرة فعلاً عن أن عصر الكيان الصهيوني بعد 52 عاماً على اغتصاب فلسطين الذي هو عصر أدولف هتلر وهولاكو وجنكيز خان الذي لا ترضى به بأي شكل الشعوب والشخصيات المناضلة ضد العنصرية والفاشية، الأمر الذي يؤكد أن (محكمة العدل الدولية) وهيئة الأمم ومنظماتها لحقوق الإنسان تصم آذانها وتغمض عينيها وتغلق فمها مما تسمعه من هؤلاء مجرمي الحروب الداعين إلى القتل وسفك دماء الأبرياء من النساء والأطفال[119] ، إنها نغمة (ليفي-جوسبان) التي تجري على الملأ في عصر ما يسمى عصر العولمة الأمريكي، الذي يفرض ظلاله الجديدة بمنطق متطرف لهتلر الصغير على منطقتنا وعلى أوروبا قبل أية منطقة أخرى[120].
3 رؤية فرنسية للقرن الحادي والعشرين:
(أوروبا والتبعية المشروطة لأميركا)
أما وزير الخارجية الفرنسية "هوبير فدرين" أكد في حديث له في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، في معرض تحليلاته السياسية عن الدور الأمريكي المركزي في السياسة الدولية واصفاً إياها بأنها قوة مفرطة في النفوذ والسيطرة، فرغم أنها كذلك فهي أمة لا غنى عنها بالنسبة لأوروبا والعالم كله، فحسب رؤياه يجب أن تبقى هي الأمة المتفوقة، وأنه لا بد من إخماد جذوة أية قيادة جديدة ضاغطة ومؤثرة عليها، فإن الأميركيين الذين لهم دورهم في نسج خيوط الحياة السياسية والإعلامية على صعيد البشرية لا ينكرون الإفلاس التام لا بل والكامل لأوروبا أكان ذلك في إدارة شؤونها الداخلية الخاصة أو في إدارة العلاقات الدولية، إلا أنه يؤكد بأن الأوربيين والفرنسيين يعملون بجهد كبير ليشكلا قوة عظمى ويظهر هنا الدور الفرنسي جلياً وعلى أن أوروبا تتجاهل التناقض فيما بين دولها وإعادة تعزيز دور أوروبا الموحدة في وجه ليس الولايات المتحدة الصديقة الحميمة لها بل في وجه قوى وتحالفات دولية أخرى قد تشكل خطراً عليهما معاً معللاً أن مجرد التفكير بقيام شراكة أوروبية – أمريكية غير مؤقتة والانتقال إلى التعددية في النظام العالمي ذي القطب الواحد أمر يحتاج إلى برهنة عميقة وبخاصة أن السياسة الخارجية لأوروبا الموحدة والدفاع الأوروبي المشترك وتشكيل قوة الردع الأوروبية، تتمحور حول أهمية الخروج من القطب الأمريكي نظرياً وعملياً، وهو بهذه الصورة ينتقد ما توصل إليه صاموئيل هنتغتون[121] وغيره مثل هنري كيسنجر وزبيغينو بريجنسكي حول "صراع الحضارات" أو ما فكر به فوكوياما حول "نهاية التاريخ" أو التقاطع الشامل للمصالح بين الشرق والغرب مع بقاء الولايات المتحدة القطب المهيمن على أوروبا والعالم، بهدف تدعيم التصورات الكونية الشاملة للرؤيا الأمريكية الشمولية (Universalite) والتهديد ينبثق هنا من دول مثل روسيا، والصين ودورهما في مجلس الأمن، والدول الصناعية الكبرى، كيف يمكن للعالم الحر المضي في قرن جديد انطلاقاً من المبادئ والقيم الرئيسة حول الاقتصاد الحر، والديمقراطية، والحريات العامة، ودولة القانون والانتخابات الحرة والنزيهة والإعلام الحر وقضاء مستقل واحترام حقوق الإنسان بعد أن أجبر التاريخ للرضوخ وتدجين الشعوب و (التاريخ بالمعنى الذي يريده العالم الحر إزاحة النظام الاشتراكي العالمي عن طريقه).
فانهيار الاتحاد السوفييتي كان بمثابة انكسار للمعادلة التطورية للنهوض البشري وبخاصة أن السوفييت بمساعدة أوروبا وأمريكا قضوا على النظام النازي الهتلري وكلف ذلك عشرات الملايين من القتلى، كيف ترسم السياسة الدولية بعد ذلك بلوي عنق التاريخ وإقحام (إسرائيل) والحركة الصهيونية العالمية لتصحيح مسار التاريخ على أهوائهما وأهواء هوبير فيدرين، ولونيل جوسبان، فلا ننسى أنه في إحدى تصريحات الأول على ما تلقاه جوسبان من استخفاف وازدراء وطيشه غير المحدود، أكد فيدرين أن من حق رئيس الحكومة الفرنسية (جوسبان) التصريح بما يريده ضد الشعب الفلسطيني واللبناني أي من حقه أن يتفوه بكلمات هي أساساً رؤيا لتصحيح مسار التاريخ بالمفهوم الأمريكي الصهيوني على قياسات الرغبة والمصلحة الأوروبية- الأمريكية- الصهيونية، لكن عن أية قيم يتحدث فيدرين؟ وهل أخلاقيات الاقتصاد الحر وديمقراطية الغرب والنظر لحقوق الإنسان هي بداية المقياس لفهم التاريخ وحركته وصيرورته؟
إنها بلا شك قيم ومبادئ تتمخض عنها ازدواجية المعايير وتقاطع المصالح والرغبات، فيدرين وغيره في أوروبا أو الولايات المتحدة يحللون الأحداث والمسائل على أهوائهم ورغباتهم دون النظر بدقة إلى ماهية التاريخ وحركته، ولا يحتمل تأويلات منافقة ووصولية تبقى تدور في الفلك الأمريكي وكأن المسألة قدر محتوم ليس إلا[122].
من هنا لا يعني أن جوسبان صحح بخطاباته المعادية إلى شعوب المنطقة مسار التاريخ لمنطقة الشرق الأوسط كما لا يمكن لهنري كيسنجر وباعترافاته أن يضمن النتائج لمباحثات سلمية على شاكلة مباحثات (بيغن- السادات- كارتر) وإن تم التخطيط لها في البيت الأبيض؛ لتحويل مسار التاريخ في مصر من قبضة عبد الناصر والناصرية وما تعنيه شموليتها العربية إلى قبضة أنور السادات، والساداتية، برؤياها الصهيونية لإقامة الصهيونية العربية، كما قامت الصهيونية الأوروبية، وإلا ماذا نفسر مشروع شمعون بيريز في الشرق الأوسط الجديد ألا يعني هذا المشروع، مشروعاً أوربياً أمريكياً مشتركاً لتغيير المسار التاريخي للمنطقة لصالح إسرائيل ومشاريعها العدوانية والاستيطانية.
أولاً-الغرب بعرف هوبير فيدرين إذاً قاهر التاريخ المعاصر؟!
أما فيما يتعلق بالعدالة الدولية فإنه يؤكد على ارتقاء الحق والعدل وتقدمهما، لكن بدون ذكر أين ذلك العدل والحق يتقدم؟ وعن أي عدل وحق يتحدث فيدرين أهو عدل أميركا أم عدل إسرائيل أم عدل حلف الناتو في البوسنة والهرسك ضد الإسلام والمسلمين أو ضد الأقليات؟
ولا بد من معاقبة الخارجين عنهم إذ توجد دول كثيرة موقعة على إنشاء محكمة الجنايات الدولية (محكمة العدل الدولية) باعتبارها سلطة جديدة في العالم لإبراز الحق، الممنوح بداية فقط، للقضاء الغربي الذي يمارس سلطة فوق قومية وهي تماماً كسلطة الشركات فوق القومية التي تتحكم بهيئات وصناديق مالية دولية، والأمر لا يختلف هنا كثيراً لأن الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) يريدون أحكام الهيمنة والسيطرة حتى في مجال محكمة العدل الدولية، ولنلاحظ هنا ما هي الدروس المستفادة إذاً من آراء وزير الخارجية الفرنسي وهو يتكلم عن الغرب كلوحة شاعرية رومانسية تريد تحقيق الحق والعدالة في العالم عن طريق تعريفاتها مثلاً للإرهاب فيتهم المناضلون والشرفاء الذين يسعون لتحرير أوطانهم من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني أو من الوجود العسكري الأمريكي بأنهم إرهابيون، كي تتسلط محكمة الجنايات الدولية بدلاً من (محكمة العدل الدولية) في معاقبة مجرمي الحرب وتجار السلاح والقتلة والسفاحين في يوغسلافيا ليس في "إسرائيل"، أقول بصراحة إذاً ليعاقب أصحاب مجازر صبرا وشاتيلا ومجزرة قانا ومجازر انتفاضة الأقصى وأولهم السفاح والمجرم الدولي أرئيل شارون فهل تستطيع أوروبا وأمريكا تعقبه وأمثاله ومعاقبتهم، وبخاصة أنه لم يحترم المقدسات الإسلامية في القدس، أي فخر هذا الذي يتحدث عنه هوبير فيدرين إذا ما نظرنا للدور الفرنسي التاريخي في دعم وعد بلفور 1917م بوعد كامبو (1917م) وبالتالي إنجاز اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916م وأي مستوى لتلك الديمقراطية والعالم الحر في أوروبا والولايات المتحدة الذي يسمح بتصدير المسألة اليهودية كلية إلى فلسطين وطرد سكانها لصالح يهود العالم ليحلوا محلهم وأولهم يهود فرنسا وأوروبا الغربية والشرقية ويهود أمريكا، إنها ديمقراطية مزيفة إذا ما نظرنا إلى تواتر التخلف الأوروبي في معالجة الأزمات الدولية والإقليمية وتبعية ذلك الموقف وتذييله لصالح الاستراتيجية الصهيونية -الأمريكية[123]، إذاً أين تكمن المأثرة الحقيقية في الموقف الحالي لدول أوروبا والولايات المتحدة بين (المأثرة الحقة) وبين (الصفاقة والوقاحة) للحلف المقدس تحت أقدام الصهيونية العالمية، وتتوضح هنا تساؤلات المسؤول الفرنسي في أوجها الحقيقي إلى أبعد من ذلك بكثير من المعاناة والضغوط التي تعانيها الثقافة الفرنسية مثلاً من الهيمنة الرهيبة للثقافة الأمريكية والصهيونية عليها رغم أن التراث، والثقافة الفرنسية متوغلان في التاريخ كحضارة ولغة وحضوراً عميقاً في التاريخ الثقافي العالمي أو الفرانكفوني، فالسياق التاريخي وروح الزمن، والحتمية التاريخية لا يمكنها أن تجعل الغرب غرباً والشرق شرقاً والعكس صحيح بعيداً عن المؤثرات الحضارية المتبادلة، ودعوة فيدرين هي نفسها العقلية الأوروبية المنغلقة بأوهام الماضي وبالتأكيد أن تفوق وتقدم أوروبا في مجالات عديدة لا يمكنها بشكل قسري وبفلسفة صورية أن تضع تطورها الشامل وبالأخص الصناعي والعلمي أمام باكستان والهند والصين لتقول بأن الدول والشعوب الأخرى لا تستحق أن تكون متحضرة، فالإصلاح والتغيير يعني التطور والسلفية والعقليات الجامدة تريد الانغلاق وإيقاف عجلة التاريخ، فالشجاعة الفكرية والسياسية مهمة للتخفيف من القيود والضوابط والاستبداد والطغيان، لكن كيف يمكننا تصديق حكومات غربية في أوروبا وأمريكا يتنصلون عند أول منعطف من جملهم وحواراتهم وكلامهم عن الحق والعدالة والديمقراطية والتقدم والتطور إذا كانت فرنسا نفسها هزأت بقدر لم يسبق له مثيل من مواقف رئيس حكومتها جوسبان في معرض ترجيح كفة الاحتلال الصهيوني العنصري على كفة الحكومة والشعب اللبناني ومقاومته الباسلة في شباط 2000م إثر زيارة جوسبان للمنطقة.
ثانياً: دور اللوبي الصهيوني الفرنسي:
إضافة إلى ذلك علينا أن ننظر إلى دور اللوبي الصهيوني الفرنسي ودور الاستخبارات الفرنسية وتعاونها مع إسرائيل وأجهزتها الأمنية في تأمين الدعم المادي والمعنوي والعسكري والسياسي لحكام إسرائيل وتجديد (مفاعل ديمونا) الذي بنته فرنسا كهدية سخية لإسرائيل أو بتقديم طائرات الميراج وغيرها لدعم ديمقراطية الكيان المزعومة وليدة الديمقراطية الأوروبية ووريثتها في المنطقة العربية رغم الناقضات بين أصحاب القرار والنفوذ في فرنسا وسلوكهم تجاه العلاقات الإقليمية والدولية أليست تصريحات جوسبان مأخوذة عن الحقد الدفين للصليبية التي كانت ولا تزال حرباً همجية ولكن بوسائل سياسية أخرى ضد دولنا وشعوبنا[124]
4
الاستراتيجية الفرنسية
هل هناك صوت واحد لفرنسا تجاه المنطقة؟!
لاحظنا أنه في السياسة الخارجية الفرنسية تفاوتٌ ملحوظٌ في المواقف الرسمية بين جهة الديغوليين ومواقفهم تجاه المنطقة العربية في قضايا عديدة، وبين جهة الاشتراكيين الفرنسيين وعلى اعتبار أن الاشتراكية الفرنسية لا تنتمي للاشتراكية الدولية فحسب بل ولها دور مميز فيها تاريخياً أكان على صعد السياسات الداخلية والحزبية أم على صعد السياسات الخارجية والدولية، وتاريخ الاشتراكية الفرنسية هو تاريخ متعدد وانتهازي في كثير من الأمور لا بل ومضلل في كثير من الأحيان؛ بما فيها انتماؤها ودفاعها عن سياسة الاحتكارات الفرنسية والعالمية على السواء ودورها في المنظومة الاستعمارية في العالم.
يظهر هنالك تناقضاً صارخاً في كثير من المواقف بالنظر إلى الأوضاع المعيشية، والوجود العربي في فرنسا والنظرة إليه نظرة فوقية متعالية تتوافق مع التحدي العنصري المتفاقم في أوروبا ضد "الأجانب"، وبين سياساتها الموزعة بين تأييد النظم الاستعمارية الاستيطانية كالكيان الصهيوني وبالأخص في التعاون الفرنسي الإسرائيلي ببناء مفاعل ديمونا عام 1956م وما بعدها، وهي جزء مكون من سياسة الدولة الاشتراكية في سياستها الخارجية حيث تقف مع الكيان الصهيوني وحزب العمل باعتبارها سعياً إلى إطلاق منظومة الشرق أوسطية ومشروعها الاقتصادي الذي طرحه شمعون بيريز، وشبكة العلاقات الاشتراكية الدولية في أوروبا لها آفاقها الخاصة جلها خيانة الطبقة العمالية الأوروبية والعالمية ولجوؤها إلى أساليب السمسرة والوكالة لمصالح الاحتكارات الأوروبية والعالمية مما أثر بشدة على الطبقة العاملة الأوروبية منذ الأممية الثانية والأممية الثانية والنصف التي وصفها زعماء كبار مثل روزا لوكسمبورغ بأنها أممية صفراء!.
وهنالك بعض الدلالات السياسة الهامة التي لا بد من تسليط الأضواء عليها:
*عدم وجود رؤية مبدئية تجاه قضايا الشعوب وحركات التحرر الوطني والديمقراطي في الدول النامية والفقيرة.
*التضليل السياسي والإعلامي والثقافي البشع في منظومتها الأيديولوجية تجاه الحركة العمالية والنقابية وأحزابها وموقفها من الأحزاب اليمينية المتداخلة والعقيمة ضد الجاليات العربية التي تتخذ ضدها أساليب غير إنسانية ولعل الأحداث الأخيرة في مدينة (ليل) ضد الجزائريين والمغاربة والتوانسة أي ضد الشعب العربي المغربي المهاجر وقتل الطلبة الجامعيين عمداً أثر بعمق على المواقف المخزية للاشتراكيين الداخلية حيث طالبت رئيسة لجنة حقوق الإنسان في فرنسا معاقبة رجال الشرطة الذين عمدوا قصداً وعن سابق إصرار على قتل بعض الطلبة أو أحدهم دون أي مبرر، حيث تشهد المدن الأوروبية في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وغيرها ظاهرة العنف والعنصرية ضد الشعوب المضيفة لديها.
*ضرب الحقوق المشروعة والعادلة العربية ضمن استراتيجية استعمارية متفق عليها مع سياسات الاحتكارات العالمية لمنع تطورها الاقتصادي والاجتماعي وتقدمها العلمي وأدى إلى تعاونها المخزي السياسي والأمني مع إسرائيل وبالأخص مع حزب العمل، ولعل اتصالات زعماء إسرائيل مثل بن غوريون وييغال آلون مع زعماء الاشتراكية الفرنسية كرس عملياً التفوق الصهيوني في المنطقة العربية، وهي سياسات وظيفتها الاستراتيجية خدمة أطماع الكيان الصهيوني وتحقيق مآربه المباشرة وغير المباشرة.
*جعلت الاشتراكية الدولية عموماً والاشتراكية الفرنسية –والصهيونية بخاصة إسرائيل البلد المدلل في وظائفها الاقتصادية، ودعمه لهيمنتها على دول وشعوب المنطقة ولعل الاتصالات السرية والعلنية بين شمعون بيريز الزعيم السابق لحزب العمل مع القيادة الاشتراكية الفرنسية حمل مبررات صهيونية مؤكدة أسبقية الدعم الأمريكي وأهميته بالنسبة لإسرائيل على الدعم الأوروبي –الفرنسي ورغم ذلك فإن لأوروبا وأحزابها الاشتراكية أو قل نصف الاشتراكية، دوافع استراتيجية لتطوير علاقاتها واستمرارها مع حزب العمل والكيان الصهيوني، ولعل بناء مفاعل ديمونا النووي في صحراء النقب دليل ساطع على طبيعة التعاون الفرنسي –الإسرائيلي والتغاضي عن امتلاك إسرائيل لترسانة من الأسلحة النووية الخطيرة.
*قدمت الاشتراكية الفرنسية أكثر من غيرها الخيارات الهامة والواسعة لتطوير الكيان الصهيوني ودعم ما يسمونه بالمنشآت الزراعية والصناعية الاشتراكية المسماة بـ (الكيبوتس) و (الموشاف) ولعله من المؤسف حقاً أنه حتى بعض الزعماء من الاتحاد السوفييتي زاروا إسرائيل في بداية الخمسينات وأثنوا على تلك المنشآت الاستيطانية القائمة على أنقاض شعب آخر تم طرده وتشريده ومن هؤلاء الزعماء حسب قراءاتي أندريه غروميكو وزير الخارجية السابق السوفييتي في عهد بريجينيف.
*تسعى الدول الأوروبية لكي تكون إسرائيل دولة متفوقة عسكرياً وتكنولوجياً ملحقة بمنظومة الاستراتيجية الغربية وجعلها مركزاً إقليمياً أمنياً في المنطقة العربية.
*كذلك فإن رئيس البرلمان الفرنسي الاشتراكي له دور مميز في منظومة عمل اللوبي الصهيوني الفرنسي والعالمي وعلاقاته المكرسة خصيصاً لدعم تصورات إسرائيل الاستعمارية وتصورات اليهودية العالمية واللوبي الصهيوني الأمريكي، لكن وزير الداخلية الفرنسي له توجهاته الحيادية تجاه العرب باعتباره متفهماً للمواقف العربية والبعد الحقيقي للقضايا العربية ويطالب مراراً بتعديل الاستراتيجية الفرنسية كي تكون أكثر حيادية تجاه العرب وقضاياهم العادلة.
لنلاحظ أن في فرنسا نقيضين يعملان باتجاهين مختلفين تماماً إزاء مصالح ومشاكل وهموم المنطقة العربية لكن يبدو أن التأثير الصهيوني آخذ بالاستمرار نتيجة التفكك والتشرذم في داخل الجاليات العربية وعدم وجود مواقف موحدة لها باتجاه العديد من القضايا وتقصيرها في مواجهة كل أشكال الدعاية والابتزاز الصهيوني ولعل كتاب روجيه غارودي كمفكر وكاتب فرنسي "الأساطير المؤسسة للصهيونية"[125] الذي وضع في إحدى مكتبات باريس، نجح الصهاينة في إزاحته من المكتبة بعد سلسلة تهديدات وممارسات عنصرية حاقدة لا ترى الأمور إلا من منظارها الخاص فقط.
لقد أكد السيد رئيس الجمهورية الفرنسية جاك شيراك أنه من مصلحة فرنسا التحدث بصوت واحد وينبغي أن ينتبه السياسيون الفرنسيون من المغالاة التي تدفع بهم إلى تأييد الصهاينة "وإسرائيل" غالبة أو مغلوبة، ولعل جولته في الضفة الغربية ومدينة القدس قبيل سنوات وتعرضه للإهانات على أيدي أجهزة الشرطة الإسرائيلية ومخابراتها في القدس. عرّضت فرنسا بكل ما تحمله من دور هام في دعمها لإسرائيل منذ بداية الخمسينات إلى إهانة تاريخية سيسجلها التاريخ السياسي للمنطقة، عوضاً عن الإهانات المثيرة التي تلقاها أيضاً وزير خارجية بريطانيا العظمى على أيدي رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو.
وإذا رجعنا قليلاً إلى الوراء لقراءة صفحات التاريخ السياسي لفرنسا وللرئيس ديغول، فإننا نجد أن الجنرال ديغول أدرك بعمق أهمية علاقات دولة تمثل ركيزة في أوروبا مثل فرنسا مع الدول العربية وشعوبها حتى مع الدول الإسلامية وشعوبها بعد موقفه التاريخي عام 1967م، وقدرته الفكرية والعسكرية والاستراتيجية في فهم ظروف المنطقة العربية، بعيداً عن العقدة الأوروبية تجاه اليهود والمسألة اليهودية والصهيونية وكيانها ويختلف كل من الديغوليين عن الاشتراكيين بواقعيتهم في الكثير من الأمور، والرئيس الحالي لفرنسا يتبع الاستراتيجية الديغولية نفسها، إلى حد كبير، وهو يؤكد بعد زيارة جوسبان رئيس الحكومة إلى الكيان الصهيوني 2000م بأنه من مصلحة فرنسا التحدث على صعيد السياسة الخارجية بصوت واحد وينبغي أن ينتبه جوسبان نفسه إلى هذه الناحية الحساسة جداً".
لقد استندت الحركة الصهيونية منذ مؤامراتها الأولى في بولونيا (كاتوفيج) وفي سويسرا (بال) على الدور الأوروبي بشكل عام على اعتبارات أن المسألة اليهودية كانت مشكلة المشاكل في أوروبا وأن الفقراء والكادحين اليهود استغلوا أبشع استغلال أكان بالنظر إليهم كفئة اجتماعية أو كديانة تنغلق على نفسها في (الغيتوهات) بينما المجتمع الأوروبي يدبر لهم الاندماج في عملية التطور والنهضة الصناعية، أو في دور الرأسماليين اليهود الكبار محتكري البضائع والمواد الأولية والأموال والذهب في روسيا، وبريطانيا، وفرنسا نهاية القرن التاسع عشر حيث زجت النساء والفتيات اليهوديات بشكل خاص في أتون أعمال وصراعات كانت تقف وراءها الحركة الصهيونية الوليدة في ذلك الحين أو الحركة الصهيونية غير اليهودية (المسيحية) والوعود والنشاطات السرية والعلنية التي قطعت العهد لإنقاذ البؤرة اليهودية من العزلة الداخلية في داخل أوروبا وما تعرضوا فيها للقتل التنكيل وبالأخص في أوروبا الشرقية والنمسا وإسبانيا وروسيا.
لذلك تعتبر كل من الاستراتيجية الفرنسية والاستراتيجية البريطانية كل على حدة أو مجتمعتين المنقذ الحقيقي لما يسمى بالمسألة اليهودية في أوروبا، ولا ننسى هنا دور نابليون بونابرت بإحيائها وقبله دور بابوات روما وباريس في الحروب الصليبية، وحتى أنهما توحدتا تجاه ضرب وتقسيم المنطقة من خلال (اتفاقية سايكس-بيكو) على وجه التحديد التي قدر لها أن تقسم سوريا الطبيعية والمنطقة لمصلحة إنشاء ما يسمى (الوطن القومي-اليهودي)، إضافة إلى الدوافع استعمارية متعددة لا تزال تنظر إلى المنطقة على أنها منطقة مصالح حيوية للدول الأوروبية عداك عما عبر عنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عند زيارته للأراضي الفلسطينية المقدسة وتصريحاته باعتذار الكنيسة الكاثوليكية عن أخطاء ارتكبتها عبر التاريخ تجاه اليهود، ورده على بعض المقالات والدراسات والنداءات التي نشرت في الصحف اللبنانية والعربية لفضيلة اعتذاره ليس لليهود فحسب بل لشعوب المنطقة وبالأخص لضريح صلاح الدين الأيوبي وما فعلته الحملات الفرنجية التي وصمت نفسها بـ (الحملات الصليبية)[126] ولعل زيارته الدعم الكبير لقضايا الشعوب والإنسانية العادلة الآن، وما يمكن لفرنسا أن تقوم به أيضاً بتقديم اعتذار رسمي تجاه سوريا وشعبها بالتحديد مما قام به الجنرال غورو وتهجمه على ضريح صلاح الدين الأيوبي الرمز الإسلامي العظيم في تاريخ شعوب المنطقة، وبخاصة أن اعتذار فرنسا الرسمي ومن قبل حكومة جوسبان نفسها تعيد للأذهان حقيقة الانتدابات الاستعمارية الفرنسية- البريطانية التي نذرت نفسها لخدمة الأطماع الصهيونية ودورها في بناء الكيان الصهيوني واعتماد الرؤية التوراتية في إيقاظ الفتنة داخل المنطقة العربية على أسس عنصرية واستيطانية أثرت ولا تزال على معالم الخريطة السياسية والجغرافية والاقتصادية والبشرية للمنطقة كما خططت له الضواري الاحتكارية- والاستعمارية لإبقائها رهينة في الاستراتيجيات الكونية للدول الإمبريالية الصناعية الكبرى.
ونعيد للأذهان أن دور بريطانيا والانتداب البريطاني على فلسطين ومصر والعراق لم يحل مشاكل المنطقة بقدر ما زرع فيها المشاكل المتتالية كسلسلة المتواليات الهندسية التي ضربت بالعمق استقرار وأمن شعوب ودول المنطقة وأن مصير وحياة الشعب الفلسطيني وغموض مستقبله والمؤامرات التي تحاك ضده بالأخص الآن في تشتيت قضيته وملفات القدس والسيادة واللاجئين الفلسطينيين يعود بالأساس إلى الدور البريطاني- والفرنسي بالتآمر المقصود والمخطط له مسبقاً على الشعب الفلسطيني مع زعماء الحركة الصهيونية العالمية فضلاً عن التآمر مع كبار الرأسماليين اليهود في أوروبا وأمريكا، من هنا فإنه إذا نظرنا بكل موضوعية إلى التوقعات الحالية في فرنسا على صعيد داخلي فإن ترجيحات معينة تؤكد أن جوسبان[127] في حملاته الانتخابية القادمة لرئاسة الجمهورية الفرنسية سيضمن أصوات التجمعات اليهودية في فرنسا والاستيفاء أيما فائدة من دعم اللوبي اليهودي- الصهيوني في فرنسا وأوروبا من أجل تشجيع سياسته لأجل ضمانة "أمن إسرائيل" ومساندتها مالياً واقتصادياً ودبلوماسياً، وهنا على الدول العربية وشعوبها أن تتنبه جيداً وتسعى بكل إمكاناتها لدراسة دور جوسبان السياسي القادم والعمل على عدم الاستهانة من دوره المؤثر على العلاقات العربية مع فرنسا.
كذلك فإن اللوبي الصهيوني الفرنسي له استراتيجية تختلف عن غيره من إيباك وبناي بريث في الولايات المتحدة الأمريكية فهو يدعم بالمطلق:
أ*مشروع شمعون بيريز في الشرق الأوسط الجديد على أسس المشاريع الاقتصادية العملاقة المستحدثة.
ب*تشجيع الدور الأمني والعسكري الإسرائيلي الجديد الذي يقدر له الدفاع عن إسرائيل (ظالمة أو مظلومة).
ج*تطوير المركز الإقليمي لإسرائيل بدعم الدول الأوروبية وفرنسا لتوسيع مشروع الشرق الأوسط ليطال آسيا الوسطى والهند.
وإذ كان ماهو مطروحاً مع دول المنطقة الشراكة الأوروبية[128].
الباب الخامس
أكذوبة ضحايا الهولوكوست
((الصهيونية تبتز ألمانيا وفرنسا وأوروبا))
1
أكذوبة الهولوكوست والدعاية اليهودية
|