بــرغـــي - قصة - يوسف جاد الحق
أقسم "البرغي": لأرتكبن اليوم حماقة كبرى. تتحدث عنها الصحف ووسائل الإعلام أياماً. سأدفعها دفعاً لأن تتخذ من صنيعي هذا خبراً رئيسياً، يتصدر سائر نشراتها وتقرؤه مذيعاتها الجميلات. ناهيك عن التعقيبات والتحليلات في شتى برامجها. عندها سوف يتشاجر المتحاورون مثيرين جلبة وضجيجاً يقسم الجماهير إلى فريقين مشاركين في المعركة المحتدمة الأوار. فريق معارض للرأي وآخر معارض للرأي الآخر، رغم عدم وجود رأي في المحصلة النهائية على الإطلاق..!
يحسبون أني لا أفهم هذا الذي يجري لأني لست إلا برغياً في نظرهم. أجل سوف أفعل ذلك إذْ أن هؤلاء الذين يقومون بإصلاح الطائرة لا يولونني من العناية ما أستحق.
ولماذا يهتمون مثلاً بإصلاح ذلك البرغي الصغير عند باب المدخل، وبتلك البراغي الأصغر عند الأجنحة ينكبون على شدها نحو اليمين، إلى الدرجة التي تؤدي إلى انكسار بعضها بسبب شدة الضغط عليها. ومن ثم يعمدون إلى استبدالها، فيما هم لا يأبهون لي كثيراً ولا يهتمون بأمري وكما ينبغي لمثلي. هم لا يعملون على التأكد من أنني في موضعي الصحيح، وأنني مشدود جيداً كيلا أنحرف نحو اليسار، وأصبح من ثم قابلاً للانحلال جرَّاء دوراني المتواصل حول نفسي، بسبب من حركة الطائرة الدائبة، ومرورها فوق المطبات. بل هم لا يكلفون أنفسهم عناء السؤال: كيف يتسنى لي أن أبقى صامداً في موضعي هذا في مواجهة الرياح والعواصف التي تضطر الطيار إلى التحليق فوق الغيوم المعتمة المدلهمة. هل فاتهم أن هذه الحركات وحدها تكفي لأن تعرضني إلى التفكك والانحلال؟
ومكاني –هم يعرفون- خطر جداً ضمن عجلة القيادة هنا لا يملأ فراغه إلا من كان في حجمي ووزني وقياسي. صحيح أن المسؤول عن هذا هو ذلك المهندس السمين الثقيل الذي لم أشعر نحوه يوماً بغير الضيق. نظراً لعبوسه الدائم ووجهه المكفهر.. ولكن ما شأني أنا بذلك؟
ما شأني إذا كانت زوجته لاتني تصب اللعنات على الساعة التي عرفته فيها، ولا تنفك عن التنديد بالقدر الذي جعل منها زوجة له ومنه بعلاً لها..؟ وهي تُسمعُه هذا الموشح كل صباح قبيل مغادرته المنزل، دون أن تأخذ في اعتبارها انعكاس ذلك على عمله في شد البراغي وفحص الأسلاك الكهربائية.. تلك التي قد تنتقم لنفسها بالتعطل عن القيام بوظيفتها أو مغادرة مواقعها، مفضية في النتيجة إلى كارثة. من المحقق أني سأكون بطل واحدة منها اليوم. قد يكون محقّاً ذلك المهندس في غضبه وقد لا يكون.. أسمعه يتحدث بذلك كله إلى زملائه. ولكن أقوال زوجته، بلا ريب، تخلف لديه كآبة تترك أثرها على حركات يديه وأنامله فيما هو يمسك بإزميل أو مفك، أو على بصره وبصيرته، بحيث يدير البرغي نحو اليسار بدلاً من اليمين إبان شروده ودون وعي منه لما تفعل يداه، ومن ثم لما سوف يترتب على ذلك من أخطار تودي بحياة مائتين وأربعين راكباً فضلاً عن طاقمها المؤلف من عشرة أفراد. وإن كنت آسف لشيء فلسوف آسف على المضيفات الجميلات الثلاث.
يتناسى هذا المهندس الأريب أن لكل من ركابٍ الطائرة حياته الطويلة العريضة.. أحلامه.. طموحاته.. قضاياه.. حلوها ومرها.. فمنهم من استقلها بغية قضاء إجازة طال انتظاره لها.. أو شهر عسلٍ مع عروسٍ لم ينلها إلا بشق الأنفس، وبعد مداولات ومحاولات ومعارك طاحنة مع الأهل والتقاليد والظروف.. ومنهم من استقلها من أجل تجارة ممنيّاً النفس بربح وفير يُمكِّنه من شراء سيارة (شبح) أو حتى (نملة).. ومن امتطاها من أجل دراسة أو لتقديم بحث ينال من روائه شهادة يتباهى بها بعد ذلك عند كتابة اسمه مسبوقاً بحرف (الدال) ونقطة. هذه التي ستضفي عليه الكثير من أسباب الوجاهة والاحترام لدى الآخرين، حتى لو لم يك وجيهاً من قبل، وهو من ثم غير جدير بذلك الاحترام. ومنهم من حملته الطائرة نحو طبيب نطاسي في دولة بعيدة لعلاج قرحة اثني عشرية.. ولكنه سوف يندم ا"لآن لمغامرته بحياته كلها من أجل الإثني عشرية وحدها بين سائر أعضاء جسده.. هذه الإثني عشرية التي لم يكن يعيرها اهتماماً أصلاً وقلما تذكرها أو شعر بوجودها في سالف الأيام.. يتساءل الآن ألم يكن حريّاً به أن يتعايش مع قرحتها هذه عوضاً عن فقده الحياة برمتها من أجلها..؟
ألا إنه لخليق بي أن أحس بالاعتزاز إن لم أقل بالغرور.. فأنا لست أكثر من برغي، كبيراً حجمه كان أم صغيراً.. ومع ذلك فها أنذا سوف أقيم الدنيا وأقعدها.. من ذلك أن يقام غداً بفضل انسلالي خفية من مكاني مائتان وخمسون مأتماً وقوراً.. ولسوف تمشي في شوارع مدن وقرى شتى من هذا العالم مثل هذا العدد من الجنازات، بمختلف اللغات وتباين العادات.. أما الزوجات –للمتزوجين منهم- فمنهن من سوف تندب حظها العاثر وتلعن سوء طالعها. إذ فقدت معيلها الذي كان يؤمن لها حاجاتها كافة.. ولعله خدعها بزواجه منها هو الذي لم يكن ينوي أن يعمر طويلاً..! ومنهن من سوف يعتريها السرور الذي سوف تعمد إلى إخفائه عن لداتها ورفيقاتها إذ إني خلَّصتها من زوج بغيض كانت تتمنى لـه ذلك المصير. لاسيما بعد أن عرفت أن لـه علاقة مع سكرتيرته..! أجل ها أنذا أطلق سراحها، ويمكنها من ثم أن تلحق بصديقها أو أن تبحث لها عن زوج مناسب بعد أن اكتسبت خبرة يُشهد لها بها في مضمار المعاشرة الزوجية.. أتساءل لماذا لم أفعل ذلك من قبل.. وها أنذا أدرك الآن أنني لن أزيد عن كوني (برغياً) في كل الظروف، فما جدوى أن أواصل ما كنت فيه طوال الوقت.. ولوقت قادم لا أدري مداه.؟
كبرغي عريق وقديم، حتى الصدأ، في هذه الطائرة.. أعرف هذا كله. ولقد بقيت زمناً طويلاً مسايراُ ومهادناً ومقدراً للظروف التي يمر بها العاملون في الطائرة جميعاً بمن فيهم هذا المهندس السمين العابس على وجه الخصوص، ولكني وقد مللت التجاهل وسئمت الإهمال سوف أعمل الآن على جذب الانتباه إلى موضعي ومكانتي ووظيفتي.. فأنا لست برغياً آخر من تلك البراغي الكثيرة التي لا هي في العير ولا في النفير.. كثير منها للديكور لا لسبب آخر.. أو لاحتياط لا مبرر له من قبيل لزوم ما لا يلزم.. ووجوده عبء على الطائرة أكثر منه جدوى لوظيفة ما فيها.
إذن سوف أقترف جنايتي بضمير مرتاح.. لقد أنذرتهم أكثر من مرة، بصرير أصدره من مكاني، فلم يستجيبوا وقد أعذر من أنذر.. أما ركاب الطائرة وطاقمها فذنوبهم على جنوبهم.. من قال لهم أن يفضلوا امتطاء الطائرة على ما عداها من وسائل النقل الأخرى؟؟
هل أصبح كثير على هؤلاء السادة أن يتخذوا من السيارة أو القطار أو الباخرة وسيلة لتنقلهم..؟ هل نسوا أن آباءهم وأجدادهم الأولين كانوا يركبون الجمال والبغال والحمير..؟ لعل أولئك كانوا أكثر سعادة منهم، أو على الأقل راحة بال كما كانوا يقولون، إذ كان من شأن ذلك أن يحقق لهم (الأمن السفري)، الأمن الذي هو مبتغى الدول والأفراد في عالم اليوم..! بل من ذا الذي أشار عليهم بالركون إلى سلامة البراغي، وإلى الثقة العمياء في ذلك المهندس السمين الثقيل؟ بلى إن ذنوبهم على جنوبهم، فهم رغم ذلك يصرون بغباء فائق على مواصلة اتخاذها وسيلة للسفر.. إلى أن تحين ساعتهم على متن إحداها.. وهاهي ذي تحين ساعتهم فعلاً دون علم منهم بأن ذلك يحدث على يدي تحديداً، بلغتهم ومصطلحاتهم.. ولكن على "مسنناتي" حسب قاموسنا نحن معشر البراغي وعشيرة الأدوات..!
عندما يحدث ذلك سوف أدعهم يتفننون، بل ويتبجحون ما شاء لهم التفنن والتبجح، مالئين الدنيا مزاعم حول قدرتهم على معرفة السبب الكامن وراء الحادث. هذا بعد أن يعمدوا فور حدوثه –بطبيعة الحال- إلى توجيه أصابع الاتهام إلى ما يسمونه (الإرهاب). هكذا لله في الله. سوف يؤلفون لجاناً للتحقيق وللبحث في الصندوق الأسود، ولكن حتى لو استعانوا بالـ (سي آي إي) نفسها، فماذا ستقول تلك اللجان!؟ وأنّى لها أن تعرف أن الفاعل لم يكن سواي أنا (البرغي المجهول)؟. وإذا كان للجان الـ "السي آي إي" أن تفعل شيئاً فلن يكون سوى قبض مكافآت مجزية على حساب الضحايا، أو شركات التأمين. وماذا يمكن أن يقول لهم الصندوق الأسود.. ما علاقته بما حدث؟ فأنا حينما أكون قد تسللت من موضعي لن أخبر أحداً ولن يعرف ذلك بطبيعة الحال صندوق أسود أو أبيض أو بنفسجي..! بيد أنهم، تغطية لفشلهم الذريع واستسهالاً للأمور، ثم اطمئناناً إلى أن أحداً لن يتهمهم بالجهل والقصور والغباء، فلسوف يعمدون إلى الزعم الذي طرحوه في البداية"عمل إرهابي".. وشماعة (ابن مازن) جاهزة على الدوام..! أما شخصي الضعيف.. أو الذي يحسبونه كذلك فلن يخطر ببال أحد.. أجل من ذا الذي سوف يخطر لـه أن برغياً.. ومهترئاً أيضاً، قادر على القضاء في لمح البصر على مائتين وخمسين حياة آدمية.. بعض المعارك بين الجيوش المتحاربة لا يقع فيها مثل هذا العدد من الضحايا أحياناً.. ولكن أليس هذا مدعاة لمزيد من الغرور وباعثاً على المباهاة بالنسبة لي؟.. نعم إنهم في هذه الأيام (الحديثة) يحتقرون البراغي تحديداً فيولون اهتمامهم للأزرار والأضواء ذات الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء.. مما يسمونه تكنولوجيا.. أما البراغي فما هي سوى (موضة) قديمة عفى عليها الزمن.. لماذا يستخدمها هؤلاء الحمقى إذن؟ لسوف أرغمهم إرغاماً على معرفة قدري ومكانتي إذا ما أتيحت لهم معرفة الحقيقة..
وعلى هؤلاء السادة ألا ينسوا أننا معشر البراغي نملك زوجات وأبناء أيضاً. البرغي الصغير هو ابن البرغي الكبير والبرغي الأصغر هو حفيد له..! أما الزوجة فهي المكان الذي يستقر فيه واحدنا ولا يبرحه. ونحن نخلص لزوجاتنا أكثر مما يفعل البشر، فنحن نلازمهن على الدوام فلا نبرح أماكننا أبداً حيث نظل على التصاق دائم بهن. وعندما تحين ساعة أحدنا فيبرح مكانه –تلك الفجوة-، فهذا هو الموت بالنسبة لفئة البراغي، كما سأفعل أنا الآن، وسوف تصرخ الزوجة وتعول.. وما الصرير الذي ينبعث من البراغي سوى عويل الزوجات المترمِّلات..! إنهم لا يعرفون أيضاً أننا نعرف أن الله خلق من كل زوجين اثنين.. كما أنهم لا يعرفون أننا معشر الجمادات شأننا شأن سائر الكائنات، لنا معارفنا ولنا لغاتنا.. فضلاً عن وجودنا المتجسد أمام أعينهم.. كيف لا يكون لنا وجود وهم أولاء يروننا بأعينهم ويلمسوننا بأيديهم.. ويحركوننا بأدواتهم.. ومن دوننا لا تسير أمورهم على السوية أبداً. بل أن برغياً عنيداً واحداً يحلو لـه أن يتشبث بمكانه يُعجز الكثيرين أمره، فيستعين واحدهم بآخر، ثم آخر كي يساعده على تحريكه من مكانه، مستبدلين أداة بأخرى ثم أخرى.. وعندما يحدث أن يفلحوا في ذلك يهتفون مهللين مكبرين.. لقد انتصروا على (برغي)..! أرأيتم بربكم كم هي غريبة ومضحكة هذه المفارقة..؟ الفرق بيننا وبينهم أننا نقيم على الصمت لأننا لا نملك ألسنة، أو لأنهم لا يفقهون لغتنا فيما هم يثرثرون كل الوقت.. لهم قدرة على طرح سخافاتهم التي يسمونها (أفكاراً) عن طريق الإسهاب في الكلام.. يتكلمون عما صنعوا.. وعما لم يصنعوا يتكلمون أكثر.. أما نحن فنعمل في صمت، كجنود مجهولين لا نثير لغطاً ولا نباهي بمآثر كاذبة كيلا يحاسبنا الله عليها يوم القيامة.. يوم لا ينفع مال ولا بنون..! من ثم هم يحسبوننا مجرد جمادٍ أصم لا يفقه شيئاً، مع أننا نسبِّح ربنا آناء الليل وأطراف النهار، فما من شيء إلا يسبح بحمده.. بل إنهم بجهلهم يعمدون إلى تشبيه الجاهل من بينهم بالجماد الأصم.. وإن هم رفعوه درجة فبالحيوان الأبكم أو الأعجم، غير مدركين أن الحيوان والجماد أكثر إخلاصاً ووفاءً للكون إذ ليس لدى هذا ولا ذاك ادعاء، ولا هو بالذي يجرؤ على الافتئات على بني جنسه والتعالي عليهم حين يكون من الطينة نفسها والعجينة إياها.. ولكن لا شك في أن لله في خلقه شؤون.. كما يقولون هم أنفسهم..!
وأخيراً فليسامحني السادة والسيدات من ركاب هذه الطائرة وطاقمها، وعلى نحو خاص تلكم المضيفات الثلاث الجميلات.. وإني لأرثي لهن ولآخرين من أجلهن، لاسيما أنهن لم يفرحن بشبابهن فهنَّ لم يتزوجن بعد.. ولكن كان قدرهن أن تنتهي حياتهن الواعدة على يد برغي مجهول.. مجرد برغي في مكان ما من طائرة بوينج
(747)..! رحلة (113)..!
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|