رد: رواية تبحث عن مؤلف
( تابع )
يفتح عينيه ،فلا يرى سوى الضباب .. ثم شيئا فشيئا ينجلي عن وجه صبوح يبتسم له .. عصر ذاكرته فلم يفلح في لملمة أفكاره وإدراك سبب وجوده هنا .. " أين أنا ؟ " .
- استرح .. جرح رأسك بليغ .. ماذا كنت تفعل في ذالك الجبل وحيدا ؟.. أليس لك أهل ؟
آه .. الجبل .. نادرة .. الأولاد .. رحلة القنوط .. لا شك أنهم لم يعثروا على بطاقة الهوية .. نسيها في جيب سترته التي احتفظ بها رغم قدمها و لونها الباهت .. تعلقه بها يثير التعجب .. بل والاشمئزاز .. هي ما تبقى له.. شاهدة على عهد كان ينعم فيه بالطمأنينة و راحة البال .. بطاقة الهوية ؟ .. و أية هوية بعد أن لفظته المدينة وصار يحس بالغربة بين دروبها ؟ .. منذ متى لم يطالبه أحد بها ؟ .. ومع ذلك احتفظ بها في سترته حتى خيل إليه أنها التصقت بالجيب .
- سيأتي الطبيب بعد قليل لفحص جرحك .. عليك بعدم الحركة .. طاب يومك ..
وجه مشرق .. وقوام معتدل .. ذكرته الممرضة الشابة ب نادرة زوجته .. من ذا الذي حمله إلى هنا ؟ .. لا شك أنه أحد المقامرين الذين سمع عنهم .
- كيف الحال يا أخي ؟
التفت ليجد كهلا متكئا على السرير المقابل لسريره .. رد التحية بإيماءة من يده وابتسم ..
- الحمد لله .. لقد قيل لي إنك نجوت من الموت بأعجوبة .. لو بقيت تنزف لما كنت الآن هنا ؟.. هل كنت تريد ... ؟
أشار بأصبعه بالنفي وتمتم :
- أعوذ بالله ..
- أنا نفسي قلت هذا لما رأيتك .. وجهك يدل على طيبوبتك وإيمانك .. قل لي .. أين تقطن ؟
ما لهذا ينكأ الجرح المندمل ؟.. ما ذا يقول له ؟ .. إنه لا مأوى له بعد أن هجر البيت والمدينة ؟.. لكنه عاد إليها مرغما .
- لا أدري .. لا أدري .
أحس فجأة بالتعب.. وبرغبته في النوم .. على الأقل ،سيخلو للأحلام ولو أنها كوابيس ..لا أحد يقض مضجعه بالسؤال .
- محسوبك أبو العز.. من القرية المجاورة التي مربها الطريق السيار والتهم الكثير من دورها . حاولت أن أحتفظ ببيتي لكنهم أبعدوني بحجة أن موقعه سيستعمل مركزا للأداء .. تشاجرت مع أحد رجال الأمن فضربوني .. لكنهم الآن يتوددون إلي .. قيل لي إن التعويض سيكون هاما .. يمكن أن أشتري به منزلا أفخم وفي أي مكان أختاره خارج القرية البائدة .
يحس أمجد برغبته في أن يواصل الآخر حديثه .. فيبتسم من جديد مشجعا إياه على الاستمرار .
- الأهل هناك انقسموا .. منهم من يتشبث ببيته أو على الأصح بموقع بيته بعد أن دمرته الجرافات ،ومنهم من قنع مثلي بالتعويض .. وآخرون انصرفوا متوعدين بعرقلة إحداث الطريق السيار وتخريبه إذا أنجز.. ما الفائدة من ذلك ؟
يشعر في قرار نفسه بالخجل .. لم غادر البيت ؟ .. هؤلاء فقدوا دورهم ولا يزالون متمسكين به .. وهو ؟ .. أية لعنة حلت به ؟ .. الآن أدرك أنها كانت نزوة .. ربما كانت رغبة في تغيير الجو الرتيب وليس شعوره الكاذب بغربته في هذه المدينة .. عليه العودة بأسرع ما يمكن .. لن ينتظر حتى يشفى .. آه يا درية ..كم سببت لك من الألم .. لم تكفك معاناتك مع الأولاد و قساوة الجارات وضنك العيش ..
انتبه إلى الآخر و هو لا يزال يتحدث .. ربما كان يضع مشاريع لما سوف يقوم به بعد تسلمه لمبلغ التعويض .
- ولكن ... قبولك بـ...التعويض ربما ... يحرج الأهالي الـ..متمردين .. ألا يسبب ... لك هذا ...
- شعورا بالذنب ؟..ولكن ما جدوى التمرد ونحن أمام الأمر الواقع ؟..الأهالي أنفسهم لم تفتر صراعاتهم على الأراضي .. و لا أخفيك سيد ...
- أمجد .
- لا أخفيك سيد أمجد أن ما شجع هؤلاء على مشروعهم بإقامة الطريق السيار هو هذا الصراع نفسه .. أنا رأيي أن يأخذوا التعويض حتى لا يخرجوا من المسألة " بلا سلة و لا عنب " .. ألست محقا يا .. سيد .. قلت ماجد ؟
- أمجد ..
في هذه المرة ود لو يسكت صاحبه .. أحس بالتعب .. عليه أن يستجمع قواه كي يكون قادرا على مغادرة المستشفى متى رأى الفرصة سانحة . و كأن الآخر فطن إلى ذلك ،فانصرف عنه متشاغلا بقضم حبيبات اللوز المقلي . يدخل في تلك اللحظة مجموعة من الشبان المصابين بجروح .. يكثر اللغط وتتدخل الممرضة آمرة الجميع بالتزام الصمت .. لم يميز من الجدال سوى كلمات .. خونة .. عصابة .. جواسيس ..
التفت إليه الرجل المجاور لسريره ولسان حاله يقول " ألم أقل لك ؟"
- ما ذا جرى ؟
- هؤلاء ممن رفضوا التنازل عن أراضيهم .. يقال إن بعضهم قتل في اشتباكات مع الحراس .. إنهم يتهموننا بالوشاية .
- ألا يكون ذلك حقيقة ؟
- ربما ولكني أقسم لك أنني لست ضالع في كل هذا .. لا ناقة لي و لا جمل ..
- ولكن هذا يهمك .. أليسوا أهلك ؟ .. من المفروض أن تنصر المظلوم و تردع الظالم ..
- كان ذلك من زمان .. تغيرت الأحوال .. الكل يقول.. نفسي..نفسي .
في هذه المرة أحس بالغثيان .. كان محقا حين فكرفي مغادرة المدينة .. كيف يستطيع العيش في هذا الجو الموبوء ؟ .. هل يأتي يوم ينعته الأولاد بالجبن كما ينعت هؤلاء المستفيدين من التعويض ؟ .. مرة أخرى يلغي فكرة العودة إلى البيت . أين يذهب ؟.. هذه المدينة تشده إليها بإصرار.. يحس بها تستغيثه وتترجاه أن يبقى.. تزداد حيرته فيقرر أن ينام ليرتاح قليلا .
صوت المذياع الخافت يعلن عن مؤتمر للقمة .. عليكم اللعنة .. قمة بلا همة .. ماذا جنينا من القمم سوى مزيدا من الخنوع .
|