عن ذاك الكلب أحكي
في شوارع باريس , أو لندن أو نيويورك , أو غيرها من بلاد الغرب , لن تعدم رؤية كلب عظيم وراءه امرأة , وهناك , في المناسبات المتوقعة وغير المتوقعة ,إياك أن تتحفظ إذا قدمت لك سيدة كلبها , بل احرص على أن توجه إليه عبارات المجاملة والترحاب , كما لو أنك توجهها لابنها الصغير .واعلم أن السيد الكلب سيجيبك بمثلها , وسيحرك لك ذيله امتنانا وعرفانا . فإن صاح في وجهك : "هاو " فتلك علامة الرضا والرضوان الكلبونية , وإن صاح : "هاو .هاو "فلعله كشف أمرك وعرف أنك مجرد كاذب مخادع . أما إن صاح : "هاو .هاو .هاو " فأطلق ساقيك للريح دون أن تستريح .
حدث يوما أن التجأ "كليب"إلى جوار دار كنت أسكنها بجانب المؤسسة التعليمية التي أدرس بها بمنطقة ورزازات السياحية بالمغرب في نهاية الثمانينات . وبعد أن وجد الكليب الدفء المرغوب , والطعام المطلوب , تكلبن ورابض عند الباب حتى صار سيد الكلاب , إلى أن كان يوم شتوي مطير , سيق فيه كلبي إلى أسوإ مصير , حين ارتمى تحت عجلات سيارة سائحة إنجليزية , طقطقت عظامه وأنهت أيامه .
ترجلت السائحة المسكينة مذهولة مذعورة , وقد غلبها التأثر فأطلقت لنحيبها العنان , وأسالت على الخدين دمعها الهتان , ثم سألت بعض التلاميذ المتحلقين حولها عن صاحب الكلب من يكون ؟؟؟...
سؤال صعب ولاشك .. بل هو أصعب من كل أسئلة التاريخ والجغرافيا والرياضيات وجميع المواد . كيف يكون للكلب صاحب وهو مجرد كلب ؟؟ . لكن أحدهم إهتدى إلى الإجابة فأشار نحو منزلي وقال : مدام , هذا كلب الأستاذ.
تناولت السائحة فوطة كبيرة من النوع الممتاز . غطت بها الكلب الميت , فابتلت أطرافها بالدماء , ثم قصدت باب بيتي تقرعه .
فتحت الباب فإذا بي أمام سيدة خمسينية تخنقها العبرات . كان على لسانها جملة واحدة ترددها بين شهقة وأخرى : "أنا آسفة , أنا آسفة , لم أكن أريد قتله ". مددت بصري نحو الطريق , فرأيت مايشبه الجثة مغطاة بفوطة تكسوالحمرة جوانبها .كاد يغمى علي أنا الآخر لظني أن الأمريتعلق بواحد من تلاميذي , لولا أن أحدهم عالجني قائلا : أستاذ , هذه السائحة دهست كلبك بسيارتها .
إلتفت نحو المرأة أهدئ من روعها , وأنا في حيرة من أمري وأمرها : لاعليك سيدتي , أنا متيقن أنك لم تتعمدي ذلك . وبعد أن استعادت بعضا من توازنها , ومسحت خديها من بقايا دمع سكيب , أخرجت قلما ودفتر شيكات ويداها ترتعشان , ثم قالت في استحياء : سيدي الأستاذ , أعرف أن هذا الأمر مؤلم بالنسبة لكم , وأنا على استعداد لدفع أي مبلغ مقابل جبر الضرر الذي لحق بكم جراء فقدانكم لكلبكم .
أسقط في يدي فعلا , واختلطت علي كل المشاعر حتى أنني أحسست بمزيج من العواطف لم أستطع إلى اليوم لها تفسيرا .
كم هي طيبة هذه المرأة , لاشك أنها لاتعلم شيئا عن مكانة كلابنا . لا تعلم أننا من فرط محبتنا للكلاب , نذبحها ونصنع من لحومها نقانق رخيصة تباع للسكارى وللسياح المغفلين من أمثالها في ساحات مكناس ومراكش وغيرها من مدن مغربنا الجميل .
لا تعلم أن وصف الكلب هو أقل ما يمكن أن يشنف به أذنيك شرطي واقف في المدارة , لو أنت تأخرت لحظة عن الإقلاع عند إشارة المرور . لا تعلم أننا نحسد الكلاب كلما وقفنا في طابور الإهانة لاستصدار وثيقة أو جواز سفر يسمحون لنا بموجبه أن نسافر , تماما كما هو مسموح للسادة الكلاب .
إعتذرت بلباقة للسائحة التي كانت تنظر إلي بإعجاب وكأنني تنازلت لها عن دية قائد عظيم . رافقتها إلى سيارتها مودعا , فإذا بها تنفح أحد التلاميذ ورقتين من فئة مائة درهم راجية أن يتم دفن الميت بكل الإحترام الذي يليق بالكلاب . وعدوها بذلك , وقبل أن تغيب السيارة عند أول منعطف , كانت معركة حامية قد اندلعت بين تلاميذي حول اقتسام النقود . أما أذكاهم فقد اهتم بأمر الفوطة ,التي نزعها عن الكلب وولى هاربا لا يلوي على شيء.
***
حدث ذات يوم أن فاض الكيل بأمة لطالما قيل لها أنت أم الدنيا , وحين هدرت الأصوات الغضبى في ساحات الحرية , طلع عليها من ينعت أبناءها بالكلاب .
***
حدث ذات ربيع أحمر , أن تجرأ أحفاد المختار فقالوا : نريد خبزا وكرامة , لكن كلب الكلاب طاردهم بيت بيت , دار دار , زنكة زنكة .
مكناس في 28 أبريل 2011 : حسن بيسي الحاجبي
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|