رد: فلسطين عبر التاريخ ـــ عبد الرحمن المزين.
قبـة الصـخرة، والمسـجد الأقصى.
1- قبـة الصـخرة:
تعتبر هذه القبة من أقدم نماذج الفن المعماري الإسلامي، وقد أمر ببنائها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 72هـ- 691-692م. بقي في الصندوق الذي توجد به الأموال الخاصة ببناء القبة بعد الانتهاء من بنائها ما يعادل 100.000 دينار.
وقد أمر الخليفة بإعطاء هذا المبلغ مكافأة للرجلين اللذين أشرفا على عملية البناء، ولكن الرجلين اعتذرا عن أخذ المبلغ، فأمر الخليفة عبد الملك بن مروان بأن تسبك المائة ألف دينار وتوضع على القبة والأبواب.
وهذان الرجلان هما يزيد بن سلام وهو فلسطيني من مدينة القدس وكان من موالي الخليفة، والآخر رجاء بن حيوه الكندي، وكان من العلماء المعروفين في تلك الأيام.
وقد اعتمدوا في الغالب على بنائين ومعماريين محليين، كما أن العمال الذين ساهموا يف بناء هذه القبة هم عرب فلسطينيون من مدينة القدس ومن بينهم كثرة من النبطيين(4) وهم عرب كنعانيون.
تم بناء قبـة الصخرة في مدة تتراوح ما بين 3 إلى 5 سنوات، هذا وقد روى الكثير عن سبب بناء قبـة الصخرة، فقد كتب اليعقوبي الذي توفي في عام 284هـ، عن سبب بناء هذه القبة فقال: (إن عبد الملك منع أهل الشام من الحج، وذلك أن عبد الله ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس وقالوا، تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا!
فقال: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسـجد الحرام وي ومسـجد بيت المقدس- وهو يقوم لكم مقام المسـجد" وهو الصخرة وضع قدمه عليها رسول الله لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة. فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سدنة وأخذ الناس يطوفون حول القبة(5).
ويتكون التخطيط المعماري لقبـة الصـخرة من بناء حجري مثمن يتكون من مثمن خارجي يتكون من ثمانية جدران طول كل منها حوالي عشرين متراً ونصف متر، وارتفاعه حوالي تسعة أمتار ونصف متر، وفي أعلى كل جدار من هذه الجدران توجد نوافذ يدخل منها النور إلى داخل المسـجد. وفي الجدران المقابلة للجهات الأربع الأصلية من المثمن توجد أربعة أبواب. ويقسم كل جدار من هذه الجدران إلى قسمين، علوي مبلط بالقاشاني الصغير الحجم نسبياً وسفلي وهو مغطى بالرخام.
ويلي المثمن الخارجي دائرة تتكون من أربعة أكتاف واثني عشر عموداً تحمل فوقها ستة عشر عقداً مدبباً. ويلي العقود رقبة أسطوانية بها ست عشرة نافذة وفوقها قبة. وهي القسم العلوي المذهب من قبـة الصـخرة، ويبلغ قطرها حوالي عشرين متراً وأربعة وأربعين سنتمتراً. وقد شكلها الفنان من طبقتين من الخشب الداخلية تغطيها طبقة من الجص المزخرف بمجموعة من الفصوص الذهبية الخارجية مغطاة بطبقة من الرصاص المطلي بالذهب(6).
جعل الفنان المعماري بين طبقتي الخشب فراغ حتى يسهل الترميم، وكذلك العزل الحراري. وتتراوح سعة هذا الفراغ من عند العنق حوالي 75 سم، ثم يزداد هذا الفراغ تدريجياً ويصل إلى 118 سم ثم إلى مترين في وسط القبة، ولقد استبدلت أخيراً الطبقة الخارجية الرصاصية المذهبة، بطبقة من معدن الألومنيوم المذهب.
وسط هذا البناء وأسفل القبة مباشرة تقع الصخرة المقدسة وقد وصفها كريزول:
"إن طولها 18 متراً من الشمال إلى الجنوب وعرضها 13 متراً من الشرق إلى الغرب وأن أقصى ارتفاع لها حوالي متر ونصف المتر".
وتحت الصخرة المقدسة مغارة يوصل إليها سلم ضيق عدد درجاته 11 درجة.. وهي مربعة طول ضلعها حوالي أربعة ونصف متر، وهذه الصخرة زارها الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عندما فتح أبو عبيدة الجراح فلسطين، وقد كانت مغطاة بالقاذورات فأمر الخليفة واحداً من أهل المدينة بأن ينظفها وكان من الأنباط العرب وقد نظفها، واتفق أن هطلت الأمطار بعد ذلك وقد أذن عمر بعد ذلك للصلاة فوقها(7) وقد أقام عمر مصلى من الخشب بعد ذلك قبل أن يقيم عبد الملك بن مروان على أنقاض البناء الحالي وهو قبـة الصـخرة.
يشاهد الناظر للقبة من الداخل أن الأقواس الداخلية نصف دائرية، وكذلك أقواس النوافذ، أما الأعمدة فهي من مباني قديمة دمرتها جيوش كسرى عام 614م ومعظمها من الكنائس وعددها داخل المسـجد حوالي 12 عموداً، وهي تختلف من حيث طرزها المعمارية وقد استخدمت روابط خشبية لربط التيجان.
تعتبر قبة الصخرة من أبدع العمائر الإسلامية وأقدمها، كذلك من أقدم نماذج القباب الإسلامية. وقد بني مسـجد قبـة الصـخرة في وسط قطعة من أرض القدس منبسطة ومرتفعة نوعاً عما حولها، وتبلغ مساحة الأرض المقدسة التي تضم قبة الصخرة والمنطقة المحيطة بها، والتي تعرف بفناء الصخرة وكذلك المسـجد الأقصى حوالي 260.000متر مربع. ويوجد في فناء الصخرة ثمانية قناطر تكلل الأدراج أو المراقي التي يصعد عليها المرء إذا ما أراد الانتقال من أرض الحرم الشريف إلى فناء الصخرة.
وقد انتقل تأثير قبة الصخرة إلى الطرز المعمارية الإسلامية ففي العصر العباسي اتبع الأسلوب المثمن المتبع في تخطيط مبنى مسـجد قبة الصخرة وخاصة في بناء الأضرحة.
فضريح قبة المنتصر والتي تعرف باسم قبة الصليبيين في سامرا، كان تخطيطه مثمناً وفي وسطه حجرة الدفن وتعلوها قبة، وفي العصر المملوكي اتبع نظام تشكيل مسـجد قبة الصخرة، وذلك في تشكيل قبة مسـجد السلطان حسن حيث كانت القبة من الخشب ومغلفة بالرصاص.. كما استخدم تخطيط قبة الصخرة في العصر المملوكي وخاصة في قبة قلاوون من فناء مكشوف تحيط به أروقة معقودة بقبوات وهي تحيط به على تخطيط مثمن مثل تخطيط مسـجد قبـة الصـخرة"(8).
1-خلاصة القول أن مبنى مسـجد قبة الصخرة الذي يعتبر من أبدع وأقدم العمائر الإسلامية هو من عمل فنانين عرب من فلسطين وقد أشرف على بنائه رجلان عربيان هما يزيد بن سلام وكان من المقدسيين ومن موالي عبد الملك بن مروان، ورجاء بن حيوه الكندي، وكان من العلماء المعروفين في تلك الأيام وقد اعتمدا في الغالب على بنائين ومعماريين محليين، كما أن أكثر الذين ساهموا في بناء مسـجد الصخرة كانوا كما ذكر المؤرخون من أهل القدس. "لقد كان جل اعتماد المسلمين في البداية على الصناع والفنيين من المسيحيين السوريين وكلمة سوري تعني شامي والمقصود بها سكان (سورية-لبنان-فلسطين- الأردن).
كما يرد أيضاً أنهم "كانوا أساتذة المسلمين في هذا الميدان". ونشأ على يد الجميع الطراز الأموي في الفنون الإسلامية، ونقل القواد والولاة وأتباعهم أصول هذا الطراز من الشام إلى سائر الأقاليم الإسلامية فتأثرت بها الأساليب الفنية القديمة في تلك الأقاليم"(9).
2-كما أن الشكل الثماني قديم بفلسطين وقد عبد منذ 4500 سنة ق. م.
3-كذلك القبة التي ظهرت في البناء في فلسطين منذ 12000 سنة ق. م.
وبهذا نستطيع أن نرفض الآراء المغلوطة والتي يقولون فيها بأن قبة الصخرة متأثرة بالفن البيزنطي والساساني. إذ إن النظام المعماري لقبة الصخرة قديم بفلسطين وكذلك الشكل المثمن وأن العمال والبنائين والمشرفين على عملية البناء هم عرب من فلسطين وسوريا.
2-المسـجد الأقصى:
ويقع جنوب مسـجد الصخرة على بعد 500 متر من رقعة الحرم الشريف، وقد أنشئ أول الأمر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك سنة 17هـ- 638م، وقد زاره أركولف وهو سائح أوروبي حوالي عام 670م، وقد وصفه بأنه بسيط للغاية، وقد شكله الفنان من الخشب واللبن، وهو مستطيل الشكل ويتسع لحوالي 3000 من المصلين. وقد أمر بإعادة بنائه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. وكان قوامه الأروقة موازية للقبلة يعترضها رواق عريض.
وقد أتم بناؤه ابنه الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ- 705م(10)، يبلغ طول المسـجد الأقصى حوالي 80 متراً وعرضه 55 متراً وارتفاعه 15 متراً، ويقوم الآن على مساحة تبلغ نحو 4500 متر مربع. وبه ثلاثة وخمسون عموداً من الرخام، وتسع وأربعون سارية مربعة الشكل. وبه مائة وسبع وثلاثون نافذة. وكانت أبوابه الإحدى عشرة زمن الأمويين ملبسة بصفائح الذهب والفضة، ولكن أبا جعفر المنصور أمر بقلعها وتسييجها إلى دنانير تنفق على المسـجد وفي أوائل القرن الحادي عشر في زمن الفاطميين أصلحت بعض أجزائه، كما تشكلت قبته وأبوابه الشمالية وعندما احتل الصليبيون بيت المقدس عام 1099م حولوا قسماً كبيراً من المسـجد إلى كنيسة، كما جعلوا القسم الآخر إلى الكنيسة مسكناً لفرسان الهيكل ومستودعاً لذخائرهم. ولكن عندما استعاد صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين بيت المقدس، أمر بأن يصلح المسـجد الأقصى، وبتجديد المحراب، كما أمر بأن تكسى القبة بالفسيفساء، وقد وضع فيه منبراً خشبياً وعرف باسمه، وقد عني بعد ذلك سلاطين المماليك، وسلاطين بني عثمان بالمسـجد.
هذا ويوجد داخل الأقصى جامع يعرف باسم جامع عمر، وهو مستطيل الشكل وإيوان كبير يعرف بمقام عزيز وإيوان صغير يعرف بمحراب زكريا، ويوجد رواق كبير أمام المسـجد من الشمال، وقد أمر بإنشائه أحد ملوك الأيوبيين وذلك سنة 1217م.
ويتألف هذا الرواق من سبع قناطر مقصورة كل واحدة تقابل باباً من أبواب المسـجد كما يوجد تحت الأقصى القديم أو الإسطبل وقوامه سلسلة عقود تقوم على أعمدة ضخمة(11).
تعرض المسـجد المقدس (الأقصى) والتحفة الفنية التي تجمع مدارس الفن الإسلامي (الأموي-العباسي-الفاطمي-الأيوبي- المملوكي-العثماني) للحريق في 21-8-1969م على يد السلطات الصهيونية وألصقت التهمة بشاب أسترالي.
"وقد ثبت من خلال التصريح الذي أعلنه سماحة الشيخ حلمي المحتسب رئيس الهيئة الإسلامية بالقدس في مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد الحريق ونشرته جريدة "القدس" بتاريخ 22-8-1969م.
ومن خلال التقارير التي وضعها المهندسون العرب، الذين انتدبتهم الهيئة الإسلامية في القدس للكشف عن الحريق، كذلك الصور التي أخذت للمسـجد من الداخل والخارج بعد الحريق.. إنه حريق مفتعل وغير طبيعي، وليس من جراء خلل في شبكة الكهرباء، ومما يثبت تعمد الحريق أن مياه البلدية لدى سلطات الاحتلال قد قطعت عن منطقة الحرم الشريف فور ظهور الحريق، كما أن سيارات الإطفائية التابعة لبلدية سلطات الاحتلال تأخر وصولها ومباشرتها لعملية الإطفاء كي يتم الحريق. كما أن الذي ساهم وساعد على إطفاء وإخماد الحريق هو وصول سيارات إطفاء بلديتي رام الله والخليل ولكن بعد أن أتى الحريق على منبر صلاح الدين والسطح الشرقي الجنوبي للمسـجد، حيث أتى على سقف ثلاثة أروقة، وعلى جزء كبير من هذا القسم(12). كما يبين أمين القدس روحي الخطيب، أن الحريق كان معتمداً من سلطات الاحتلال الصهيوني من خلال صور الحريق، والتي يبدو فيها أن حريق المنبر لم يلتق مع حريق الأروقة.
فيقول: "أما الصور التي أخذت للموقع بعد الحريق مباشرة، فإنها تكشف عن الحريق الأول الذي أتى على المنبر، لم ترتفع إلى السقف الذي فوق المنبر، وبناء عليه فإن هذا الجزء من السقف لم يتأثر، هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى، فإن ألسنة نيران الحريق الثاني لم تمس جدران وأعمدة الأروقة التي تحتها، ولم تمس حتى السجاد المفروش في هذا الجزء... و بالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يحصل أي لقاء بين الحريقين الأول والثاني.
ولما كان ارتفاع السقف عن أرض المسـجد يبلغ 15 متراً. وحيث إنه لم يكن هناك أي اتصال قريب بين موقع المنبر والسطح الشمالي الشرقي، ولما لم يكن هناك أية دلائل تشير إلى اتصال بين الحريقين، فإنه لمن المؤكد أن حريقين منفصلين قد حصلا في وقت واحد"(13).
والنظام المعماري للمسـجد الأقصى هو نظام محلي كنعاني عربي ظهر بفلسطين في العصر الحجري النحاسي وذلك منذ 4500 سنة ق. م وكانت تمتاز به العمارة الدنيوية في مدينة (بيت شان) بيسان. كذلك ظهر في تشكيل التوابيت الفخارية وخاصة توابيت الخضيرة منذ 4500 ق. م.
أما بالنسبة لبناء المآذن، فالمعروف أن أقدمها في الشام مئذنة المسـجد الأموي بدمشق، ومئذنة بيت المقدس في القدس، ومئذنة المسـجد الجامع في غزة.
والمعروف أن المساجد الأولى في الإسلام كانت بغير مآذن كما أن الرسول والصحابة كانوا يصلون في البداية من غير آذان وعندما أذن بلال بأمر من الرسول الكريم (صلعم) فقد كان يؤذن من أعلى سطح يجاور المسـجد.
أما المآذن فقد استخدمت كما ورد لأول مرة في الشام في مدينة دمشق حيث أذن للصلاة من أبراج المعبد الوثني القديم الذي أقيم مكانه المسـجد الأموي.
وقد كانت الأبراج مربعة الشكل واستخدم هذا الطراز في دمشق، والقدس وغزة. كما عم استخدام هذه المآذن في المغرب العربي.
ومن هنا نرى أن المآذن الأولى ظهرت في الشام في سوريا وفلسطين، وكانت أبراجها مربعة ومنها انتقل إلى أنحاء العالم الإسلامي، خاصة في الجزيرة العربية ومصر وبلاد المغرب والأندلس.
بقي هذا النظام المعماري حتى الآن في غربي العالم الإسلامي كذلك يظهر بكثرة في الشام وفي بعض أجزاء العالم الإسلامي.
ومن أمثلة هذا الطراز وأقدمها في بلاد المغرب، مئذنة جامع سيدي عقبة في القيروان. وقد شيدت في عصر هشام بن عبد الملك وهي تقليد لمآذن سوريا وفلسطين "فهي برج مربع ضخم يضيق كلما ارتفع وتعلوه شرفات وطابقان"، ومن الأمثلة الأخرى التي تأثرت بطراز سوريا وفلسطين منارة "مئذنة" الكتيبة في مراكش، ومئذنة المسـجد الجامع في إشبيلية بالأندلس وتعرف الآن باسم برج الكاتدرائية.
كذلك مئذنة حسن في الرباط وتاريخها يرجع إلى القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي(14).
وقد شاع بفلسطين استخدام نوعين من المآذن:
1-المآذن المربعة: ومن أمثلتها مئذنة في بيت المقدس وهي منتشرة في معظم مدن فلسطين والقدس والرملة وعكا وحيفا ويافا وغزة والخليل ونابلس.
2-المآذن المثمنة: تقوم على قاعدة مربعة وبدنها مثمن الأضلاع، وما زال يستخدم حتى الآن.
وكلا الطرازين مستمد من الطراز العربي الكنعاني القديم الذي ظهر في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق.
وبهذا نستطيع أن نقول أن أولى العمائر الإسلامية بفلسطين تعتبر من أول النماذج المعمارية الإسلامية وهي ابتكار عربي محلي وامتداد لطراز أجدادنا الكنعانيين.
جزاك الله خيرا على مانقلت لنا أستاذ مازن
|