رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]
يمر شريط ذكرياتي بخاطري دون أي عناء ، فالأشياء التي لا نجهد أنفسنا في تذكرها لا تحتاج لمجهود ذهني كبير . تذكرت اليوم الذي قابلت فيه صديقي الغالي هنا وكيف نمت المودة بيننا في حينها .. ترى هل هو راض عما حصل ؟ أم أنه يتحسر على ما فاته و على غادته التي لم ينعم بالتواصل معها ؟ ألا يحز في نفسه الآن أنني أنعم بحب حليمة التي ذاق الأمرين كي يفوز بها ؟ أم أنه على العكس من ذلك ، ممتن لما قمت به تجاهها وصوني إياها ؟ .. شملتني راحة لما انتهى إليه تفكيري ونهضت أتمشى قليلا بالقرب من الكوخ أستطلع ما يحفه من أدغال و أحراش موغلة في صمت تام .. تناهى إلي بعد لحظات وقع أقدام و استطعت تمييز شبح رجل قادم من الناحية العليا .. وبجانبه بغله المحمل بأغراض و حاجيات شتى .. لا شك أنه قادم من السوق الأسبوعي .. وكان هذا كافيا لكي تأخذني سنة وأسترجع ذكريات الماضي القريب حيث كان المنعطف الحاسم في حياتي وما تلاه من تركيز اهتمامي نهائيا على حليمة .. حليمة ؟ ..ماذا تفعل الآن و ما هو شعورها ؟ هل تحس بالوحدة و أنا بعيد عنها رغم تواجدها مع أهلها ؟
ألقى الرجل التحية و هو يتفرس في وجهي .. لم أستغرب لمناداته لي رغم الظلام ، فقد اعتدت من البدويين أن يميزوا الأصوات ويتعرفوا على بعضهم البعض ولو في الظلمة . سألني إن كنت راغبا في مصاحبته و ركوب بغله فشكرته بينما هو يتابع طريقه نحو الأسفل .. نحو الوادي في اتجاه البلدة الأليفة .. بلدة حليمة .
شعرت بالجوع ، ففسخت ربطة الزاد الذي ناولتني إياه حليمة .. ودون ان أعي ما افعله ،رفعت المنديل المخطط إلى انفي أتشممه . كان يعبق برائحة الخبز الطري .. لكن رائحة خاصة تسللت إلى خياشيمي و منحتني لحظة صفاء وحبور .. كنت آكل الخبز والفاكهة التي حوتها الصرة بينما عيني لا تفارق بوما جاثما على غصن شجرة قريبة ، لا يبدو لي منه سوى بياض ريشه .
بينما ارتفع هناك في المروج البعيدة نقيق الضفادع مصحوبا بأصوات الصراصير.. كم هو ساحر هذا الليل بكل هذا الذي اسمعه وأراه ..
والآن إلى أين ؟ سأقضي الليل هنا .. وفي الصباح علي الانطلاق من جديد .. رفعت رأسي إلى أعلى حيث بدا الطريق إلى عشي القديم .. ثم نظرت صوب الوادي حيث الطريق إلى البلدة المتفرع عن ذاك الذي يتجه صوب الشاطئ .. أجل .. ما أحوجني للحظات تأمل صحبة العجوز الطيب .. إذن قضي الأمر .. وما علي إلا انتظار بزوغ الفجر لأنطلق عبر الوديان ، محاذيا النهر كما فعلت في المرة السابقة وأنا متجه للبحث عن الغادة .. غريب هذه الأحاسيس .. ماذا تبقى من الغادة في نفسي الآن سوى صدى لذكريات مائعة توغل في الضبابية . هل معنى هذا أني نسيتها تماما ؟ ماذا لو انتصبت أمامي فجأة وأنا في طريقي نحو الشاطئ ؟ هل أتجاهلها ؟ هل أحييها بكل بساطة و عدم اكتراث ؟
هذا ما كان يشغل فكري و أنا أغادر الكوخ مع أولى خيوط الفجر المطلة وراء الجبال .. لم أكن أسمع إلا وقع خطواتي وأنا أترك الطريق المنحدر إلى البلدة و أيمم وجهي شطر البحر سالكا طريقا آخر . وبقدر ما كان ذهني يتأجج بأفكار متضاربة ، كانت نفسي تشعر بالطمأنينة والغبطة و أنا ألقي بنفسي في متاهة الغابة بما فيها من أشجار و غدران ومروج . كنت أتوقف حين يعن لي التوقف .. وكنت أسير حين يحلو لي السير .. وكنت أنط فوق الصخور كالأطفال حين تغمرني موجة من الحبور المفاجئ ، وكنت أنزل إلى مياه النهر برجلي الحافيتين حتى أشعر ببرودتها عند ركبتي . ثم أستلقي على مرج بهيج وأغمض عيني برهة قبل أن أفتحهما وأحدق في سماء صافية تماما .
كم لبثت أحدق في السماء و أتابع مرور كل طائر حتى يغيب عن ناظري ، حين تناهت إلي وقع خطوات و صوت انكسار غصن من نبات الدفلة المر .. استويت جالسا والتفتت إلى ناحية الصوت .. لم أر أحدا ، لكني كنت متيقنا من أن هناك من يراقبني متخفيا من وراء الدفل .. خفق قلبي بشدة و أنا أتذكر ما كنت أفكر فيه قبل مغادرتي للكوخ .. أيعقل أن تكون هي ؟ .. وإذا كانت هي .. ماذا تريد مني ؟ .. وحين لم تصدر أية حركة أخرى ، أعرضت بوجهي و تشاغلت بلم حاجياتي ناويا الانطلاق من جديد .
[/align]
|