عرض مشاركة واحدة
قديم 27 / 08 / 2011, 54 : 02 AM   رقم المشاركة : [3]
زين العابدين إبراهيم
أديب روائي

 الصورة الرمزية زين العابدين إبراهيم
 





زين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: البوهالي 4/ صور من الذاكرة

دبت حركة غير عادية في ساحة القرية؛ والأنظار كلها متجهة إلى "السي يحيى"، وهو منشغل بتوصيل أسلاك البطارية إلى الجهاز وأغلبية الرجال يقفون حوله يقدمون المساعدة ويجودون بآرائهم، أو لفت نظر كبار العشيرة أن لهم إلمام في ذلك، أما شيخ الكتاب لفقيه صالح الذي يجلس بين الحاج لوليفي وشيخ القرية؛ فكر مليا في أمر يئول له فيه الحضور والرأي فقال بصوت مرتفع:
- يا يحيى حرام أن يوالي الصندوق ظهره للقبلة فجنبوه ذلك ولكم الأجر والتواب.
فقال شيخ العشيرة:
- إيه... من دونك يا لفقيه صالح، لبهايم ما تعرف تقبل واللا تدبر...
ضحك من في المجلس؛ وارتسمت ابتسامة عريضة على وجه لفقيه صالح مما أفاضت عليه هذه الكلمات من اعتزاز بالنفس، فتنحنح مقتربا من كبير القوم يهمس في أذنه فضحكا معا وضحك الجميع دون معرفة السبب!
أخذ القوم برأي لفقيه صالح ثم أعاد يحيى الفك والتركيب من جديد، أما اللافطوم تراقب من بعيد ما يجري في الساحة وتتمتم ما تحفظه من آيات، ينتابها شعورا بالفضول وإحساسا بالخوف، وعويشة التي اتخذت مكانا بعيدا عن اللافطوم صائمة عن الكلام ضاربة وجهها بالخمار؛ احتجاجا على ما أقدمت عليه اللافطوم بإفشائها السر الذي فرق بين يحيى وزوجته، التي لم تحضر إلى ساحة القرية؛ ولغيابها أثر كبير بينهن لما تمتاز به من صوت جميل في الغناء والمواويل وخفة الروح وأخبار ساخرة، تضفي الغبطة والسرور على مجلس النسوة اللائي يراقبن في شوق وصمت رؤية ما بداخل الصندوق العجيب.
بدل يحيى جهدا كبيرا للتمييز بين السالب والموجب، فنجح في نقل حرارة البطارية إلى الصندوق لتسري شحناتها في أسلاكه، فاشتعلت زجاجته المستديرة بضوء أبيض ناصع وصوت مرتفع مشوش مصحوب بنقط لا متناهية وخطوط متتالية تظهر وتختفي، فقال شيخ الكتاب لفقيه صالح:
- لطفك يا رب
أسرع يحيى في محاولة ضبط الصورة لإحساسه بأن القوم نفذ صبرهم، واستطاع تحديد جهة الإرسال واتجاهه الهوائي، فاستلم الصندوق العجيب وضوح الرؤية واستقبل البث الإذاعي بشكل صحيح، فظهر على الشاشة باللونين الأبيض والأسود رجل جميل المظهر حسن الطلعة رخيم الصوت، يرتل آيات بينات من الذكر الحكيم بصوت شجي لم يسمعوا مثيلا له قط إلى قوله تعالى:
-"...يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.."
فاطمأن الجمع وهدأ روعهم، وتعالت الأصوات مهللة مكبرة، أحس يحيى بالفخر والامتنان والرضا، فقال شيخ الكتاب مندهشا معجبا بما شاهده وسمعه:
- سبحانك ما هذا صوت بشر كأنه ملك كريم..
أما اللافطوم بدا عليها الندم على ما أقدمت عليه في حق عويشة ويحيى وزوجته، فأسرع يحيا لإنهاء البث على ما هو عليه لكن القوم أصروا على المتابعة إصرارا، خصوصا إلحاح شيخ القبيلة مشيرا بعصاه منفعلا بأن يدع الصندوق وشأنه، ليواصل مؤانسته لهم وإمتاعه، انتهت على إثرها التلاوة العطرة تلاها برنامج وثائقي يفسر ويشرح وظائف الأعضاء البشرية وتكوينها، من خلية لا ترى بالعين المجردة إلى أجنة سوية داخل الأرحام، موضحا بالصورة والصوت عملية التناسل أو التلقيح الطبيعي وكيفية تفاعل الأجناس الحية وأنواعها في تزايد وتكاثر منظم، كحقل معرفي مادي ملموس دقيق متناغم عم الوجود بحروفه وأعداده وبكلماته وروعته...
هرولت النساء إلى منازلهن خجلا مما رأوه، واحمر وجه يحيى وتصبب جبينه عرقا، أما الرجال تصلبت أجسادهم واشرأبت أعناقهم كما لو أصيبوا بصعقة من السماء، ينظرون إلى يحيى في ذهول، يتساءلون عنه في أنفسهم: أنموذج هو لمعرفة تقنيات الحصاد والمحراث الجديد، أم لرؤية محراث الجنس والنسل الشديد، تمكن حينها الفقيه صالح من استجماع قوته وكسر الجمود الذي أصاب القوم من هول ما شاهدوه، وقال بأعلى صوته:"
- والله يا يحيى ما كان أبوك امرأ سوء.. ولكنك أنت يا يحيى والله ما تحشم ولا تستحيا..
فقال قادر:
- اللهم إن هذا منكر..
فقال الحاج لوليفي:
- الشيطان المطرود من الرحمة يخجل من نفسه يدير هاد الفعلة.
فانتفض شيخ القرية قائما من مقامه؛ ليحسم الأمر نهائيا ضاربا بعصاه على الأرض، فقال على لسانه لفقيه صالح:
- اسمع يا يحيى، الإنسان خطاء وخير الخطاءون التوابون،صندوق إبليس ما يبات ما يصبح فالدوار؛ وأنت تختار مابين ثمانين جلدة على ظهرك، واللا ربعين ليلة برا الدوار، تتوضا فالواد الوضو لكبير وتستغفر وإن الله غفور رحيم.
وانصرف إلى منزله راضيا بما أصدره من حكم؛ وانفض جمع القوم من حوله ولم يتفوهوا بكلمة واحدة.
طأطأ يحيى رأسه وجلس وحيدا محتارا وسط الساحة بعد أن تشذر القوم عنه وتفرقوا، لم يتوقع أن الصندوق يحمل في جبته صورا تجاوزت الخطوط الحمراء، اخترقت جدار القواعد الثابتة، صورا لا تراعي القوالب الجاهزة ولا ما خلفته مآثر متراكمة تحت رواسب الجبال، حاول إيجاد مبررا لما حصل وشرح وجهة نظره بصيغة مختلفة أو جديدة، لكنه لم يستطع مواجهة غضب القوم عليه، فشيخ العشيرة نقر الأرض بعصاه وغادر المجلس تشتعل ملامح وجهه حنقا، وهذا السلوك رمز لأمر يعيه الجميع وقرار مقدس لا رجعة فيه، أما ابن عمه قادر أنآه بيده قائ
-" بعد على طريقي يا الزنديق".. متجها صوب منزله ليخفف عن اللافطوم ما راعها، ويجبر خاطرها في ما أصابها من ابن عمتها يحيى الذي وجد نفسه وحيدا أمام صندوق يبث صور فيض الخلائق قبل أن تعقل نفسها وتغادر، فلم يكن له من الأمر بد؛ إلا أن تناول فأسا هوى بها على صندوقه عشر ضربات، انتزع بها عقله من عقاله، وأخرس حديده عن حديثه، اندثرت لها شظايا محاسنه من مساوئه في الساحة الخضراء، فوقف بين حطامه متهكما ساخرا قائلا له:
-" لو علم الصندوق ما في الحسبان مصيره.. لأظهر لشيخ العشيرة احترامه... واستعرضه قائما متعبدا ساعيا للخير حاله... يسوق بالكبرياء حماره... يلوح بيسراه للغداة عزا بمهارة... لهتف القوم وصفقوا بحرارة... ولما استعجل الفقيه فتواه جورا متهافتا بالجلد أو النفي أخذ قراره.." فشد الرحال وسرى لتسلي الليالي الأربعين عنه ثوبها المتحامل، حلقت فيها الأرواح الشريرة بعيدا إلى غير رجعة، لينقطع البث نهائيا في سماء القرية.. لكن اللافطوم قالت لزوجها وهي بين السهد والنوم:
- لن تهدأ هذه الأرواح اللعينة حتى تدمر القرية تدميرا.
ما قالته اللافطوم لزوجها ترسخ كالوشم في ذاكرة القرية، وكل مكروه يقع فيها ينسب إلى روح الصندوق الشريرة.
هنا تحركت عقارب الساعة من جديد، وتحرر الزمن من قفص السكون إلى فضاء الحركة، أربعون ليلة أيقظت أجنحة الأعداد والثواني لترفرف على ضفاف الأيام، انقسمت فيها الآراء وتعددت الرؤى حول ما جرى في ساحة القرية، للفصل مابين الحقيقة والخيال من اتصال، لأجل ذلك فتحت الطريق لفئة منهم على مصراعيها نحو المدينة رغم بعد المسافة لمعرفة الأشياء ولمسها عن قرب، والوقوف على حقائقها بعيدا عن غضب شيخ القبيلة وفتاوى لفقيه صالح، الذي صارت آراءه بين أوساط العارفين منهم تنأى عن السماع الطبيعي، وتمشي منكبة على رأسها بدل السير سوية على قدميها في الطريق الصحيح
.....
زين العابدين إبراهيم
زين العابدين إبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس