جميع المؤشرات كانت تشير إلى أن قوة الإسلام قد بدأت
تُلقي بثقلها على معظم القبائل العربية في جزيرة العرب
ومنهم المهودون معتنقي الديانة الموسوية خصوصا بعد
صلح " الحديبية " ونزول سورة " الفتح " وشعورهم
بأن هناك دين جديد قد بدأ يهز أركان عقائدهم خصوصا
بعدما بدأت الآيات المنزلّة تكشف زيفهم والتحريف الذي
أثخنوا فيه طعنا بكلام الله ، وبعد جملة " الانقلابات "
المتتالية ونقضهم لأي اتفاق عقده معهم رسول الله والمسلمين ؛
وكانوا عند هجرة النبي إلى يثرب قد ظنوا في البداية بأنه
رجل مصلح أو ثائر على قومه فحاولوا احتضانه واستيعابه
خصوصا وأن ما بينهم وبين قريش مكة تاريخ طويل من
العداء قد جعلهم يتجنبون السكن فيها وحولها - ولهذا قصة طويلة
تعود إلى أسباب دينية اقتصادية ترجع إلى ما قبل الإسلام بقرون
لكني الخص الأسباب بجملتين :
قريش كانت أقدر منهم اقتصاديا فاحتكرت التجارة على طول وعرض
جزيرة العرب وما بين الشرق والغرب . وكانت الأجدر منهم دينيا
فاحتكرت إدارة الأماكن المقدسة في مكة وحافظت على الديانة الحنيفة
" ملّة إبراهيم " عليه السلام ولم تسمح للمهودين حتى بزيارة
" مقامه " بالرغم من أن توراتهم قال بأنه أبا أنبياءهم ، فهل أن
مسالة عدم اهتمامهم بمكة هو بمحض الصدفة !
ها هي فرصتهم قد أتت لمساعدة قرشي ثار على أهله فدعموه
وقدموا له العون لمصالحهم . هنا سأجيب عن سؤال ربما يخطر
على بال أحد القراء الكرام كما خطر لي منذ زمن ، والسؤال يقول :
طالما أن الله تعالى هو عالم بكل شيء فلماذا لم يوحي إلى نبيه
بأن هؤلاء إنما يخدعون الله والرسول ؟ّ!
لا بد من ملاحظة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل
على خطّان متوازيان : تبليغ رسالة الله ونشرها ، وبناء دولة
موحدة يحكمها نظام سياسي يستمد حكمه من القرآن الكريم ؛
وان تبليغ الرسالة بالدين الجديد كان يحتاج إلى ما يُقنع الناس
بأن الديانات الموجودة إما إنها لا تصلح ، وإما قد حلّ بها التحريف
فالديانة التي لا تصلح هي تلك القائمة على عبادة الأوثان ، أما تلك
التي لحق بها التحريف ،فسيجري كشفها عبر آيات واضحات تدعو
أصحاب تلك الديانات " اليهودية والمسيحية " إلى تصحيح
ما أختل منها وها هو التنزيل الحكيم يدعو إلى محاورتهم ومهادنتهم
وحثّ المحرفون إلى التصحيح والعودة إلى الجذور .
الله سبحانه وتعالى عالم بأن ذلك لن يحدث ، لكنه تعالى قد
ترك للنبي الفرصة التي تحتاج إلى زمن ليقنع الناس عبر الحجة
والعمل لأنه النبي الخاتم ولأنه قد جاء رحمة للناس / كل الناس /
وأما بناء الدولة، فكان يحتاج إلى سواعد جميع الناس المؤمنين بدينه والذين لا يؤمنون .
على أساس تلك المعادلة المزدوجة قامت دولة العرب المسلمين
وفتحت آفاق الدنيا كلها .. ولكن عندما اختلت هذه المعادلة انهارت
الدولة وبقي الدين الذي شابه الكثير من البدع وانقسم إلى مذاهب وشيع !
إذن ، لقد كان اليهود عند هجرة النبي إلى يثرب قد ظنوا في البداية
بأنه رجل مصلح أو ثائر على قومه فحاولوا احتضانه واستيعابه
خصوصا وأن ما بينهم وبين قريش مكة تاريخ طويل من العداء ؛ وهنا
يخطئ من يظن بأن وجهة الصلاة نحو القدس كانت نتيجة لهذه العلاقة
" الطيبة " وإرضاء ليهود كما يدّعي بعض " المتفزلكين " !
" فالإسراء " ككشف للمستقبل ورؤية صادقة من الله تعالى هو
الذي دفع برسول الله صلى الله عليه وسلم ليتخذ قرارا الخوض
في أول معارك النبي مع أقوى جيش في العالم على تخوم بلاد الشام
وعندما عقد لواء الحرب في جيش متواضع نسبة إلى جيوش الروم
المحتلة كان يتوقع كما قدمنا تلك الخسائر المؤلمة :
" فإن أصيب زيد فجعفر ابن أبي طالب وإن أصيب جعفر
فعبد الله ابن رواحة على الناس " وكان صلوات الله عليه
أول قائد في التاريخ يوصي جنوده بالرحمة والرأفة :
" لا تقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان ،
ولا تهدموا المنازل ولا تقطعوا الأشجار " وفي حديث آخر
يوصيهم صلوات الله عليه بأن يتركوا " النسّاك " في خيامهم
ومغاويرهم وألا يهدموا دور العبادة ويكونوا رحماء على الناس ..
ما أعظمك يا رسول الله وما أرحمك .. أولم يفعل الفاتحين من بعده
فدته روحي بوصاياه ؟