عرض مشاركة واحدة
قديم 02 / 09 / 2011, 05 : 06 PM   رقم المشاركة : [5]
زين العابدين إبراهيم
أديب روائي

 الصورة الرمزية زين العابدين إبراهيم
 





زين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: البوهالي 4/ صور من الذاكرة

انهار عياد فأسند ظهره بالجدار، تهاوت الأرض تحت قدميه فاختل توازنه لولا استعانته بالحائط لخر على الأرض من هول الصدمة، لكنه تمالك نفسه وقال لصاحبه بصوت خافت لا يقوى على الجهر به، وقلبه يخفق بشدة كأنه يأبى أن يكون ما ذهب إليه عقله صدقا؛ ويتمنى لو كان كلام الرجل فيه لبس أو خيال:
- كيف لون لحصان لي كان معاه؟
أجابه ضيفه وهو في حيرة من أمره، لا يعلم ما يجري حوله وماذا جرى لمضيفه، أفي كلامه له مديح أم تجريح مجيبا:
- لون الحصان أبيض.. والا مخفت نكذب وأنت سيد العارفين لحصان مشكول شوي.. إلى سرح وحدو ما يضيع عليك أثر قدامو.. وعينو اليمنى قليل فيها الشوف على حقاش كاياكل النبتة من ليسر ويخليليمن.. والبنت الصغيرة عطاها الله جمال ما يتوصف؛ بيضاء وخالة على خذها؛ حدجة وعيونها عيون لغزال وملاح.. كانت لابسا قفطان حمر منقط بالذهبي.. وعمرها من ست سنين حتى لسبع سنين..
صرخ عياد صرخة عالية مدوية هزت أركان الحجرة، فاستل الخنجر من غمده متجها صوب منزل عياش، مزمجرا بأعلى صوته وسط الحي قائ
- اليوم يومك أعياش.. اليوم يومك يا ولد القايد الصوفي..
توقفت الأهازيج والطبول وخرجت النساء من منزل الزفاف، وهرعت رقية تتعثر في الزقاق خلف زوجها عياد مذهولة مرعوبة، فاقتحم منزل أخيه بقبضة يد واحدة خلع بها الباب من مكانه، فاجتمع أهل القرية كبارهم وصغارهم جوار منزل عياش يستطلعون الأمر، بينما "هو" منشغل في محاولة تركيب بعض قطع المحراث الجديد، ولا يعلم سبب الجلبة التي قرب داره، رفع عينيه إلى أخيه القادم نحوه، تراءى له كأنه "هو" في هيأة أخيه، وكلمح البصر أمسكه عياد من رقبته كمن يرفع حملا من الأرض، فارتمى عباس وحماد على قدمي عمهما يطلبان منه الرحمة، لكنه أوثقه بإحكام وشرارة الغضب القاتل في عينيه تصمان أذنيه عن أي استجداء، ثم نزع مولودة أخيه من بين يدي أمها يريد دق عنقها أمامهم جميعا، قائلا بأعلى صوته:
- والله اللي ما يعلى عليه شيء يا عياش وما تقر حتى أطعم لحمها ني لذياب.
بعد أن علم عياش في نفسه يقينا بأن وعيد أخيه له حق وليس بالهزل، وشرارة الغضب تستشري من عينيه؛ وعلى ملامح وجهه نية التنفيذ جلية قال له:
- خلي لبنت تمشي لمها وأنا نقول لك كل شيء.
فخلى سبيلها والنساء تذرف الدموع لا حول لهن ولا قوة أمام جبروت عياد وقسوته، أما التوأم عباس وحماد فلا يستطيعا فعل شيء للدفاع عن أبيهما؛ لا يعرفا أي سبب هذا نزع الرحمة من عمهما.
فقال عياش لأخيه وهو ممدد على الأرض كعجل ينتظر جلاده:
- الرحمة يا خويا بنتك زهرة فأمان..
- فين هي تكلم ؟
- بعتها..
- بعتيها! ؟؟ حاش تكون ولد القايد الصوفي.. لمن؟
- لواحد سمسار فلمدينة، قالي غادي تعيش مع أسرة غنية ما عندهم اولاد.. غادي يكسيوها وتقرا وما يخصها خير..
- فين هو السمسار؟
-ما أعرفه.. لتقيت معاه مرتين برا الدوار وفلمدينة..
فقال عياد بنبرة أقرب إلى السخرية؛ تسح عبراته حسرات على ما أقدم عليه أقرب الناس إليه، وهو يحوم حول أخيه الممدد على الأرض لا يستطيع الحراك أو المقاومة، ودموع الندم تبلل لحيته.
- باش بعتيها؟
- بعتها بثمن الإرث اللي ما راعيتيش فينا حق الله فيه..
- بنتي زهرة كاتسوا عندك الإرث؟ كتسوا وسخ الدنيا
- كيف ما حرقت قلبي فحق الله وحرمتي أولادي من حقهم، حتى أنا رديت لك الدين اللي كان عليك.
- عمرك طلبتي مني حاجة وما عطيتك؟
- أنا طلبت منك حقي ونكرتني فيه!
- أنت بعتي أرض جدودك برخص التراب وفرطي، والا كان قصدك الديوانية ديال باك، والذهب والأرض اللي جاك فنصيبك، دابا غادي تعرف الحقيقة.. وماشي عياد اللي ما يعرف حق الله عليه.
أرسل عياد في طلب الحاج لوليفي وقادر وشيخ القرية ولفقيه صالح ليمثلوا بين يديه ومعهم الوصية، التي يحتفظون له بنسخة منها على أنهم شهود على محتواها، وموثقة لدى كاتب العدل في المدينة؛ والتي تتضمن:" أن كل أملاك القايد الصوفي المنقولة والغير المنقولة، هي ملك لعباس بن عياش الصوفي وحماد بن عياش الصوفي، كما تنص الوصية بأن يتصرفا في كل الأراضي تصرف المالك في ملكه، والاستفادة من ريعها شرط أن لا يبيعوا أو يهبوا أو يأجروا أي شبر منها مهما كانت الأسباب، وأن يراعيا حق الله في أسرة عياد الصوفي فيما قسم لهما الله فيها من الأرزاق حلالا طيبا..."
لم يتوقع عياش أن هدف أخوه هو الاحتفاظ بأرض الأجداد، وعدم التفريط فيها.. ولم يمسس من ماله عينا ولا نقدا نقدا لنفسه، بل منح لعباس وحماد كل أملاك جدهما القايد الصوفي، ومازال يحتفظ لهما بكل الحقوق؛ بل جعلهما ابنيه البكرين، فألم به شعور بالندم الشديد، في وقت لا ينفعه فيه الندم ولا الشفاعة أو الحسرة بعد فوات الأوان.
ذهل الجميع عندما علموا أن عياش كان سببا في اختفاء الطفلة زهرة، لكن عياد لم يتأن في اتخاذ القرار؛ بل جر أخاه كأضحية تقتاد إلى المسلخ، يدحرجه على الأرض لغاية ساحة الحي، فصلبه على العمود المنتصب في وسط الساحة.
تدخل حينها القوم على رأسهم شيخ القرية يحاولون تهدئته كي لا يقوم بعمل طائش، لكنه توعد الجميع أن كل من حاول فك وثاقه سيكون مصيره الهلاك، ثم امتطى فرسه الأبلق يحوم به حول عياش، وكلاهما ينظر في عيني الآخر يتبادلان حديثا صامتا يرى من خلاله ابنته زهرة تستنجد به، عندما كان يسوقها إلى المدينة مرغمة... وعياش يتذكر يوم سلمها للسمسار الذي بدوره سلمها إلى "الحاجة الكبيرة" وهي تمد ذراعيها الصغيرتين إليه عله يعذل عن قراره، لكن الرحمة انتزعت من قلبه بسبب الحقد الدفين؛ والطمع لأجل الحصول على محراث جديد وحفنة من المال.. بينما عياد تجلت له ابنته في أجمل حلة، يلقي بها عياش في حفرة عميقة مليئة بالذئاب الشرسة، تنقض عليها وتفترس لحمها، تمزقه إربا إربا والروح لم تبارح جسمها النحيل.. صرخ عياد صرخة مدوية، فتيقن القوم بأنه لن يشفع لأخيه زلته، أما عباس وحماد ينظران من بعيد إلى أبيهما المصلوب، والدموع تنهمر على خذيهما.. فجأة يدير لجام فرسه صوب الجموع، يسير به خطوات منتظمة كمن يستعرض رقصة الحرب، والجواد يقطر ظهره دما من وقع جراح السوط القوية، محمحما إلى راكبه الرفق به كما عوده، لكن جراح فؤاد صاحبه أشد من كلومه؛ فكيف له الرفق به أو العدول عن قراره، ثم يدير صوب الصليب لجامه، يسحب إلى الخلف زمامه، فيرفع الفرس قدميه الأماميتين ضبحا على الأرض يعلو لها صهيله، كأن الحصى أومضت لهبا بين حوافره ، فينطلق به كالسهم مستلا سيفه من غمده بيمينه ملوحا به، صارخا بأعلى صوته:
- دم العار هايج... فداك عمري يا زهرة..
فضرب عنق أخيه ليتدحرج رأسه وسط الساحة الجرداء، فتوارى على جواده مسرعا باتجاه القلعة المهجورة، صوب أغوار ومعاقل رجال المقاومة، بين سلاسل الجبال الممتدة كالبحر، لكن صرخة عباس وحماد لم ينقطع صداها يتردد مع الرياح، كلما مرت الصور تباعا عبر فضاء الساحة المقفرة..
كانت صرخة قوية مدوية، انفجر صداها من أعماق كنه مظلم هزت أركان الحجرة الرتيبة، تصبب وجهه عرقا وارتعش جسمه، وتهدجت أنفاسه، فسمع صوتا مجيبا يقول له:
- وجدته أم وجدك؟
- من؟
- من كنت تبحث عنه!
نهض فزعا من مكانه، قلب وجهه يمينا ويسارا فلم يكن أحد بقربه سوى صوت دقات الساعة المثبتة على الحائط ، لا تكف عقاربها عن الدوران، فكيف لها أن تتوقف هناك.. أو تعيد دقات الصور الحية التي تدفقت كسيل عارم من الذاكرة.
دخلت كاترينا الحجرة وفي يدها حقيبة صغيرة وضعتها على المكتبة فانصرفت، بعد أن ناولته كوبا من الماء البارد؛ تجرعه بنهم وجلس على الأريكة ينظر من الشرفة إلى الفضاء الواسع والعالم الكبير الذي لا حدود له في الأفاق، رغم ضيق المساحة في مخيلة أولئك القوم الذين تمرغوا في شظف العيش وذاقوا لذة الحياة بعد حرمان دام طويلا، حينما استحوذ شيخ القرية بتحريض من الفقيه صالح للحجر على ضياع عياش وعياد وضمها إلى مزارعه، بحجة أنها مال اليتيم ويجوز لهما الأكل منه دون إسراف لحين ظهور عياد من غيابه الطويل، أو بلوغ عباس وحماد سن الرشد، خصوصا بعدما شاع بين القبائل استشهاد عياد في إحدى المعارك الضارية التي خاضتها جيوب المقاومة، ولم يكتف بذلك بل استبدل منزل عياد الواسع بمنزله، وأجبر رقية على السكن في منزل صغير على حدود القرية، واستحوذ الفقيه صالح على منزل عياش مما دفع حماد وعباس إلى الهجرة، يحملان معهما حقدا دفينا كنار خامدة تتحين لحظة الاشتعال والانتقام لدم أريق على أرض الساحة الجرداء، أما حبيبة ابنة عياد تزوجت أول رجل تقدم لخطبتها ورحلت معه، هربا من مضايقة الفقيه صالح لها ومحاولاته المتكررة لضمها إلى زوجاته، أما زوجة عياش فقد فارقت الحياة بعد فترة قصيرة من مقتل زوجها، فتكفلت رقية بتربية ابنتها، رغم محاولة الحاج لوليفي وقادر التدخل لاسترجاع حق الأسرتين إلا أن الشيخ يردع كل من حاول مناقشة الموضوع معه، أو التدخل فيه.. ومما زاده طغيانا وجبروتا، العتاد الذي حصل عليه والمعونات السخية من بعض الغرباء، وإغارته على بعض القرى المجاورة واستيلائه على أخرى في فترة قصيرة طغى فيها الشيخ وأكثر من النهب والسلب والاستحواذ بالقوة على الزرع والضرع، والإثخان في القتل ومهاجمة القبائل لزرع الخوف والرعب وبسط السيطرة واستعباد العباد وتسخيرهم تبعا لخدمته وضمهم قهرا لسلطته، فأصبح الفقيه صالح مفتي الديار والمستشار والوزير المتنقل من قرية لقرية، لجمع الزكاة والإتاوات، والزير المنتدب المكلف لاختيار ما طاب له ولشيخه من حسناوات ناصبة، على أعتابهن تذبح القرابين، وفي خيامهن تقرع الدنان وتطفح المعصرة، حينها يحلو للفقيه صالح إصدار فتاوى التحليل والتحريم، ونبذ العنف والمقاومة.
فتوسعت سلطة الرجل واحتدت شوكته، لكن ما كان يؤرقه كثيرا هو موضوع أسرة عياد وعياش، فاتفق الاثنان في إحدى جلساتهما الساهرة التي يحلو فيها تدبير شؤون الرعية على إنهاء التوتر بينه وبين رجال القبيلة، مع الاحتفاظ بحلال الأسرتين؛ على أن يجبرا رقية بالزواج من شيخ القبيلة، لتصير الأمور إلى النحو الذي يشتهيه راعي الرعية والعشيرة، فبعد عدة محاولات من الترغيب والترهيب والشد والجذب، وافقت رقية مرغمة على الزواج منه، كي لا تتعرض حياة الصغيرة ابنة عياش إلى الخطف أو القتل كما توعدها لفقيه صالح إن رفضت ما يدعوانها إليه، فكما قال لها بنبرة المشفق عليها والحريص على حياتها وحياة الطفلة وهي تنتحب مرارة هذا المصير :
"- سيد القوم أدرى بمصلحتك وما أنا إلا رسول أنطق باسم مولانا سيد العشيرة.."
وقد نجح في مكره بالمرأة مكرا لإكراهها على ما تكرهه.وفي ليلة الزفاف والاحتفال الكبير في ساحة القرية حيث ضربت الخيام، وتهيأ الفرسان لليلة "العرضة" زينت الجياد وسروجها بأشكال مزخرفة من الفضة، وتقلد الفرسان حللا جديدة، وتغمدوا خناجرهم البراقة المرصعة بالنقوش الذهبية، حاملين بنادقهم في أغماد السروج، فاصطفوا على أن يبدؤوا عشارى في سباقهم، ويتواتروا نصفا في عددهم، ويزدادوا عشرون في عقدهم، وتتوحد طلقات بنادقهم قرب خط النهاية، وملأت البراميل بالبارود لحشو البنادق؛ ونشرت عشرات الحفر بنيت عليها أفران هرمية من الطين والحجارة، كل واحدة منها تتسع لشواء سبع خراف سمان؛ وفرشت الزرابي المزركشة الجديدة التي انتزعت قهرا من مخزن اللافطوم، وبسطت خيوطها اللماعة أمام أرضية الخيمة، وأضيئت الساحة بالقناديل والفوانيس النحاسية، واجتمعت القبائل المجاورة لحضور الحفل العظيم والاستمتاع "بالعرضة" والاستماع لأنغام "العيطة"..
سكان القرية لم يلبوا الدعوة وامتنعوا عن الحضور، سواء من الرجال أو النساء؛ بل ارتأى الفقيه صالح دعوة سكان القرى المجاورة ليمسح عن الشيخ الإحساس بالخيبة والعار، لكن الحاضر الوحيد من أهل الدوار هو يحيا، الذي عاد بعد غيبة طويلة متظاهرا بنسيان الماضي قائلا للفقيه صالح بسخرية وتهكم:
- لبس مزيان.. راه لبرد فطريق.
فرد عليه صالح:
- علاه ياك لباس! غادي نقطعوا الواد!
- لا غير خايف عليك من لبرد.
- عندك الحق أيحيا، الحال بارد؛ قربت وقت اليالي.
- أيوا.. أش وجدتي لدباغ؟ راه جاي فالطريق.
- إلى بغى بطانة العرس مرحبا به.
- لا لا.. ديالك أنت.
- حتى يرزقنا الله الحلال ونعطيوه اللي بغى، راه الشرع عطانا ربعة.
- هو جاي باش يديك معاه مربعة، قالو ليه بطانتك تنفع لبوجلود، وديال الشيخ هيدورا تباع برخص التراب فسوق الأربعا...
- سير لعنة الله وعليك، ما عمرك دير عقلك..
فبينما الحاضرون يستمعون إلى أنغام "الجرة" بعد انتهاء "العرضة" ورقصة الخيل على إيقاع الطبل والربابة، همس لفقيه صالح لشيخ القرية والقلق يخامره عن الرجال الملثمين الذين لم يزيحوا اللثام عن وجوههم، فرد عليه الشيخ قائ
- خلي الناس أحرار، ويالاه طلقنا نضربوا البيض فلكحل ونفرقوا جماعة راه ظلام الليل..والعروسة عيات مسكينة..
لكن يحيا قاطع حديثهما قائ
- ألفقيه.. خرج من الخيمة ورحب بالضيوف اللي جاوا، راه مشي معقول تخليهم كايتسنوا على برا..
- مرحبا بهم.. مرحبا.. فين هم؟ خرج لفقيه صالح ليلقي نظرة خارج الخيمة؛ فإذا به يفاجأ بمئات من الفرسان حاملين المشاعل، يحيطون بالساحة الخضراء؛ يتقدمهم فارس يقترب ببطء نحو الخيمة، تجمدت قدماه ولم يستطيع الحراك، فأمعن النظر مليا لتمييز الرجل الملثم القادم من بين المشاعل يشق خيال الظلام، ممتطيا فرسا حرة المظهر أطلسية الخطى، فأحس بالخوف والرعشة تنتابه، فهرول مسرعا داخل الخيمة يحتمي خلف شيخ القبيلة دون أن ينبس بكلمة واحدة، كأن الكلمات احتبست في حنجرته، يشير بيده إلى الخارج، فأمسكه شيخ القرية وهزه بقوة قائلا له:
- مالك ألفقيه؟.. أش وقع لك؟
فرد عليه يحيا ساخرا:
_ واقيلا شاف الدباغ وسحاب ليه عزراين..! راه وصيتوا، ولكن الله يهديه، ما كيسمع لكلام.
التفت شيخ القرية نحو الخارج فسمع صهيل الفرس ووقع حذافيره، فهب مسرعا نحو الباب؛ فشاهد جيشا جرارا لا قبل له به، يزحف ببطء نحو مدخل القرية وأضواء مشاعل الفرسان تتخلل أشجار الغابة الكثيفة تبدو كأنها نارا موقدة سوف تأكل الأخضر واليابس، لكنها ليست سوى أقباس الفرسان المشتعلة تنير سماء القرية، تتقدم بنظام وانتظام وتحاصر المكان من كل حدب و صوب فعلم شيخ القرية آن الأوان قد حان لمحاسبته على أفعاله، فحاول الفرار لكن الرجال الملثمين المندسين بين المدعوين أمسكوا به وأحكموا وثاقه هو وتابعه الفقيه صالح، فنزل الفارس من على فرسه وأماط اللثام عن وجهه، فإذا به عياد الصوفي الذي غاب عن القرية مدة طويلة وكثرت الأقاويل حول مصرعه، حينها علا التكبير والتهليل وذرفت الدموع فرحا لمقدمه، وخرج الرجال من منازلهم على رأسهم الحاج لوليفي وقادر، أما النساء فارتفعت زغاريدهن تتقدمهن اللافطوم ورقية وعبرات الشوق والحنين تنهمر سحا على الخد منهن على كلوم السنين، لكن عياد رغم الترحيب الذي استقبل به والعناق الحار، إلا أنه لم يمكث طويلا بل اطمأن على استرداد الحقوق المسلوبة لأصحابها، وترك أمر تسييس القبيلة لرجالها المخلصين، ليستلموا زمام أمور شؤونها شورى بينهم، فأمر رجاله بتجريد الرجلين المقيدين من لباسيهما، بعدما أندرا من القبيلة كما تندر البكر في الدية، واقتيدا سحبا وسط الأدغال إلى أن اختفوا جميعا وسط الغابة الكثيفة باتجاه الجبال الممتدة كموج البحر، ومنذ ذلك الحين لا أحد يعلم ما جرى هناك في الأدغال وأغوار الجبال ، إلى أن جمعتهم الأقدار من جديد في إحدى السفن المبحرة باتجاه العالم الجديد ..قبل فترة التيه والضياع في مدينة الساحل والجبل، قرب السور العتيق الذي ما فتأت أبوابه السبع الموصدة تفتح لتغلق من جديد على غفلة من جموع الدراويش من هم هناك يدخنون أعشاب "المارخوانا" ويشربون الدنان من غير كؤوس، يصفقون عراة خاشعين مبتهلين يطوفون حول محراب الخوف...تسربت من بين لبنات أسوارها المتصدعة مجرد صور من الذاكرة..
محكمة محكمة محكمة.......... مح... كم...... مه.
زين العابدين إبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس