عرض مشاركة واحدة
قديم 11 / 09 / 2011, 43 : 06 PM   رقم المشاركة : [6]
زين العابدين إبراهيم
أديب روائي

 الصورة الرمزية زين العابدين إبراهيم
 





زين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: البوهالي 4/ صور من الذاكرة

السور العتيق/2

- من أنت ؟
-" أنا البوهالي من حلقة الدراويش.."
عاد صدى صوته ليسأله من جديد:
- من علمك عزف العود والغناء؟
- البوهالة والدراويش
- إنهم صعاليك ما عندهم دين ولا ملة"
- البوهالة والدراويش؟ - من قطع أوتار الربابة والعود واغتصب الألحان والنشيد؟
- البوهالة والدراويش!
- ألم أقل لك إنهم "ملاعين"
- أعطني حبة نوم لأنام وأستريح.
- خذها وارحل عن ذاكرتك. ومن هو البوهالي ؟

ليس في مدينة الساحل من لا يعرف"البوهالي"ذالك الرجل النحيف، ذو العينين الزرقاوين الضيقتين الغائرتين وسط الوجه النحيل؛ وشعر غزير أشقر يصل حد الكتفين، ولحية صفراء كثيفة تخفي ما بالخدين الغارقتين من تجاعيد وخدوش؛ رسمتها أيام تلين من قسوتها الصخور، وليال انتزعت فيها الرحمة من القلوب ذو الشفتين العريضتين والشارب الكث، ينم عن أسنان قاتمة شابها السوس والصدأ من شدة ما رشفته من أعقاب سجائر وكحول فاسدة، تعينه على اجتثاث الذاكرة من الجسد، فلا حر الصيف يرهق الروح ولا قر البرد يضني البدن.
"البوهالي" رجل ترتسم على محياه ابتسامة ساخرة، من مكر الحياة له ومن أقدار عابثة يرتدي معطفا باليا كثير الرقع؛ وسروالا تشوبه الأوساخ لا لون يميزه ما يعرف عنه، يجلس كل صباح بجانب سور المحكمة الابتدائية؛ مفترشا لحافا باليا غير مبال بمن ينظر إليه نظرة استهجان أو شفقة، سكان المدينة اعتادوا رؤيته، الموظفون المحامون والقضاة، يمرون بقربه غير عابئين بوجوده، حتى المساجين والمعتقلين المقيدين بالأغلال والمخفرين المساقين صوب المطرقة والسندان يحسون بوجوده هناك خلف السور، لا يتأخر عن موعده.. تمر لحظات ثم يصرخ بأعلى صوته"محكمة"، يلتفت يمنة ويسرة وتبدأالمرافعة...إنه القاضي والمحامون والمتهم والشهود، يقلد أصوات كل الأطراف ويبدأ المحاكمة، كل صباح قضية تنتهي برفع الجلسة للمداولة؛ ولا يصدر الأحكام.
- باسم العدالة نفتتح الجلسة...القضية رقم 962/1982جنايات والكلمة للمدعي العام.
- بتاريخ 01/01/1982في تمام الساعة الرابعة صباحا حضر المتهم المدعو/ "الشاوش مصطفى بالعربي" البالغ من العمر49 سنة إلى مديرية شرطة الساحل معترفا اعترافا صريحا بكامل إرادته أمام ضابط التحقيق الرائد" سالم جروم" والرقيب محقق" جمال السلومي"، أنه أقدم على قتل كل من زوجته المدعوة/" الصافي زينب" العمر 33سنة؛ وأخاه المدعو/"الشاوش مبارك بالعربي" 29سنة؛ وأبنائه الخمسة كل من" الشاوش فاطمة" 15سنة "الشاوش أحمد"14سنة " الشاوش حبيبة "10سنوات"الشاوش علي" 8سنوات" الشاوش سناء" 5سنوات، فتم إبلاغ العميد عبد الرحيم الجرموني بعد التحفظ على المتهم، وانتقل إلى مكان الحادث الكائن في" كريان سيدي منصور" البراكة رقم10 كل من النائب العام "أحمد الغول"؛ والمقدم "عبد الله الراجي" رئيس قسم التحريات و المباحث الجنائية، وخبير البصمة الرقيب" أحمد النمس" ومدير فرع الأدلة الجنائية الملازم أول" الحبيب الغندور والطبيب الرائد"أحمد السملالي"، فتم التحفظ على المكان بعد المعاينة، حيث وجدت 7جثث.. الزوجة وأخ المتهم وثقا بإحكام على السرير في غرفة نوم المتهم عاريان، وقد طعنا عدة طعنات في أعلى الظهر وفي الصدر.. ونزعت أعضاء هما التناسلية، و في الغرفة المجاورة خمسة أطفال وقد جزت رقابهم.. ثلاثة منهم فصل منها الرأس عن الجسد، فتم تحريز الأداة الحادة وأمر النائب العام بإرسال الجثث إلى الطب الشرعي بالمستشفى المركزي ومواصلة التحفظ على المكان إلى إشعار آخر.. عرضت الأوراق التحقيقية على النيابة حين استكمل التحقيق بعد استلامنا محاضر الاستدلال مرفقا بتقرير الطبيب الشرعي وتقرير مختبر الأدلة الجنائية، وقد جاءت أقوال المتهم في الضابطة القضائية مطابقة لما قام به من أفعال، بقتله للمجني عليهم وهم زوجته وأخوه وأبنائه الخمسة دون رحمة متعمدا ومصرا على القتل، مترصدا لضحاياه وهم نيام والإجهاز عليهم نية منه في إردائهم بدون أدنى شفقة، مقترفا جريمة نكراء لم يشهد لها تاريخ هذه الأمة مثيلا، جريمة هزت ضمير الإنسانية.. وباسم العدالة ألتمس من محكمتكم الموقرة أن تنزل بهذا المجرم الماثل أمام عدالتكم أشد العقوبة المنصوص عليها في الفصل الرابع من قانون العقوبات المادة10وهي الإعدام رميا بالرصاص.
فجأة ترعد السماء بعنف ويقصف البرق بقوة ثم يهطل المطر بشدة كسيل عارم انفتحت له فوهة السماء أو فيض غزير غاضب يفور من باطن الأرض كاد يجر المدينة إلى قعر المحيط، والناس قابعون تحت مظلات المقاهي والدكاكين المصطفة على جنبات الطريق؛ إلا البوهالي الذي ظل واقفا مكانه محدقا إلى السماء، رافعا يديه إلى الأعلى مرددا أنشودة الفلاح؛ كان الأطفال ينشدونها حين يسقط المطر
- أشتى تا تا تا تا...أولاد الحراثة..."
ثم يقتحم الشارع الرئيسي يركض ويدور وسط التقاطع مما أعاق حركة السير محدثا زحمة وارتباكا في حركة المرور.. المطر يشتد غزارة والبوهالي يزداد هستيريا، يحتد دورانه مرددا الأنشودة على إيقاع زخات المطر الغزير، وسائقي السيارات يزدادون انفعالا وعصبية، ويطغى صوت الرعد والبرق على ضجيج الازدحام، فجأة يقفز على الرصيف مواصلا الركض إلى مكانه المعتاد إلى فراشه البالي، مستمتعا بوقع وشوشات تهمس الأنشودة القديمة لحين توقف المطر، يلتفت يمنة ويسرة صارخا بأعلى صوته "محكمة"..
- الكلمة لمحامي الدفاع
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، من منكم لا يعرف الشاوش مصطفى بالعربي الذي عمل معكم في هذه المحكمة الموقرة حاجبا مدة30 سنة، إن موكلي الماثل أمام عدالتكم عرف عنه الاستقامة والأمانة والإخلاص في العمل والدليل على ذلك تطوع أعضاء نقابة المحامين للدفاع عنه. إن ما لم تتطرق إليه النيابة العامة: الدوافع والأسباب كما أن الأوراق التحقيقية تفتقر إلىتقريرين في غاية الأهمية لإنصاف المتهم وتحقيق العدالة، تقرير الطب الشرعي عن علاقة المجني عليهما زوجة المتهم وأخوه بواقعة الزنا التي كانت دافعا قويا لارتكاب المتهم جريمته حسب ما ورد في تقرير المباحث. كما أطلب من محكمتكم الموقرة إحالة المتهم لخبير الطب النفسي المحلف لدى المحاكم الشرعية لموافاة محكمتكم الموقرة إن كان الرجل مدركا لأفعاله وأقواله من تاريخ الواقعة.
- إن ما يحاول الدفاع الرمي إليه غير صحيح، فلا يجوز قياس الأصل بالأسباب، وليس كل مجرم سفاح ادعى الجنون يعفى من العقاب، إن الصور الملتقطة للمتهم أثناء تشخيصه كيفية ارتكابه لجريمته النكراء؛ تنفي كل الأعذار التي يحاول فيها الدفاع إقناع المحكمة، وإعادة النظر في اعترافات صريحة وجازمة هي الحسم والفصل في تجريم المتهم.
- نأمر بإحالة المتهم إلى الطب النفسي لموافاتنا بتقرير مفصل عن حالته، وتقرير الطب الشرعي عن وقوع جرم الزنا بين المجني عليهما أو من عدمه، ونأمر النيابة العامة بتقرير لاحق لتحريات الشرطة حول الواقعة، ومواصلة التحفظ على مكان الحادث لحين استكمال إجراءات التحقيق. تأجل الجلسة لتاريخ 20/03/1982.
عاد البوهالي إلى الجلوس على البساط البالي بعدما أدى كل الأدوار، ثم قام متجها صوب باب المحكمةالرئيسي، فناوله أحد المراجعين شيئا رفض أخذه منه، فصدرت منه ضحكة عالية مشيرا إلى داخل المحكمة بيده صارخا:"والشاوش بوعزة وشهد على بنتك" مكررا هذه العبارة كأنه يمتطي حصانا جامحا يرقص به على وقع الكلمات مشيرا بيده داخل المحكمة، ممسكا بزمامه نحو الداخل؛ فقدم إليه أحد العساكر ليبعده فنظر إليه البوهالي بتمعن صارخا:"وا الخيل"... والشاوش بوعزة واشهد على بنتك" مهرولا على حصانه إلى مكانه الآمن، إلى فراشه البالي؛ إلى وهم المحكمة ومحكمة الوهم، فجلس يتمتم.. التفت يمينا ويسارا "محكمة".
- باسم العدالة نفتتح الجلسة.. بعد الإطلاع على تقرير الطبيب الشرعي بخصوص واقعة الزنا تبرأ المحكمة ساحة المجني عليهما من هذا الجرم لعدم وجود أدلة في التقرير؛ وتأخذ المحكمة بعين الاعتبار ما جاء في تقرير الطب النفسي عن حالة انهيار عصبي من هول الصدمة نتج عنه:" حالة من الإبدال والنكوص وغياب الذاكرة عن حصر الوقائع والأحداث بالتفصيل أثناء الحادث وبعده".. والكلمة للمدعي العام.
- إن هذه التقارير حضراتي القضاة لا مجال للتشكيك في صحتها ونزاهتها ألبته، إلا أنها لا تنفى عن المتهم المسؤولية الجنائية في ارتكابه جريمة شنعاء مع سبق الإصرار، واعترافه دليل على إدانته، وكلالمبررات التي يحاول الزميل ممثل الدفاع إقناع عدالتكم الموقرة بها تعتبر واهية في بحثه عن علاقة سببية واهنة، تضعف الأركان المادية لجريمة نكراء لا تمكنه من عرقلة سير العدالة، وإنزال أشد العقوبة على المتهم.
- حضراتي القضاة.. إن الجرائم التي تقع ما بين الفروع والأصول لها استثناءات في قانون العقوبات العام، فمن غير المعقول أن يرتكب إنسان عاقل أبشع جريمة في حق أبنائه وهم فلذات كبده، وزوجته وأخيه! لأسباب غير واضحة ومقنعة، أو رغبة في القتل من أجل القتل.. بعد التدقيق في محضر الضابطة القضائية نطلب من محكمتكم الموقرة استدعاء خبير البصمات للاستماع إلى إفادته.
- نعترض سيادة القاضي..
- نأمر باستدعاء خبير البصمات" أحمد النمس" لجلسة 28/3/1982.
استند البوهالي على الحائط، وأخرج قنينة من جيبه تجرع ما فيها من سائل انقشعت الغيوم قليلا فتسللت من بين خلجاتها أشعة شمس دافئة عمت بنورها ظلال الغيوم الداكنة، واسترخى مستسلما لخيوطها الناعمة، علها توقظ فكره الشريد الغائب في طيات ذكريات مجهولة، وماض سحيق كان فيه الزمن ثابتا لا حدود له، أطياف براقة تسبح خارج الكون تطرد الظلمة، تشكل دائرة أو سهما يمضي بعيدا عاليا عن ظلم العدالة وعدالة الظلم، في مكان اللامكان وزمن غير الزمن، ليس فيه الإنسان ذئب اٌلإنسان؛ والمتهم قاض والقاضي متهم.."محكمة"...
- باسم العدالة نفتتح الجلسة يستدعى السيد "أحمد النمس"إلى منصة الشهود والكلمة للدفاع.
- الرقيب أحمد/ بما أنك تحت القسم؛ وأحد رجال القانون..
- نطلب من المحكمة الموقرة أن تنبه محامي الدفاع الالتزام بمضمون القضية.
- نأمر محامي الدفاع سؤال الشاهد في حدود الواقعة.
- بعد التدقيق في تقرير البصمة المرفوعة من مكان الحادث، منها للمجني عليهم وبعض المشتبه فيهم كما ورد في التقرير الوارد من قسم الأدلة الجنائية.. نلاحظ أنه قد تم ضبط أشخاص على ذمة البلاغ، فكيف يتم هذا الإجراء والمتهم قابع في محبسه؟.. من هؤلاء المشتبه فيهم؟ وما هي الظروف التي أوجبت الشبهة في توقيفهم؟ ولماذا تم تبصيمهم على ذمة القضية ثم الإفراج عنهم بكفالة؟.. لعله تدبير احترازي أو روتين اعتادت على نهجه أجهزة الضبط القضائي دون مراعاة الشروط المنصوص عليها في الدستور والقوانين الخصوصية التي لا تجيز استعمال السلطة دون اعتبار لحقوق الحريات العامة.. أو القيام بإجراءات احترازية دون مراعاة لحقوق المدنيين..
- إن الدفاع لا يلتزم بموضوع القضية نرجو من محكمتكم الموقرة تنبيهه وشطب ما قاله.
- نرجو من الدفاع الالتزام بالوقائع والأحداث موضوع القضية.
- لقد تمت عملية الحصر والتدقيق والمقارنة المتقاربة لتحديد بصمة الأكف المرفوعة من عين المكان، فكانت مطابقة لأصابع مرسومة بوضوح على الأداة الحادة المحرزة في محضر الاستدلال، وبالتالي فإن النتيجة الحاسمة تجريم المتهم " الشاوش مصطفى بالعربي" حسب المضاهاة المتطابقة...كم هو جميل أن نستعين بالخبراء في مواضيع النفي والإثبات ترتدي فيها عدالة الحق والقانون كساء فقه العلوم الحقة... وكم هو رائع أن نصغي للغة العقل للتمييز ما بين الدليل والبرهان لإثبات الحق وكشف الحقيقة من مجهول إلى معلوم.. حضراتي القضاة حضراتي المستشارين.. إن هذه الوثائق التي بين أيديكم تحيلنا لسماع الشاهد ليوضح لعدالتكم ما ورد في تقريره حين يقول:".. إن بصمة كف مجهولة رفعت من مكان الحادث تمت مقارنتها ببعض البصمات المرفوعة في قضايا متنوعة مجهولة الفاعل فكانت مماثلة لها، وعليه نرفع تقريرنا هذا موقعا منا حسب الأصول للعلم ولإجراءاتكم.." والكتاب مذيل بتوقيع الشاهد.

لم يتوقع "أحمد النمس" أن يواجه بما خطت يداه في تلك الأوراق المبهمة التي كانت يوما ما في حوزته، بداعليه الارتباك والتردد، نسي ما حوته سطور تلكالوثائق... جواب أشارت به ملامح وجهه حين تلعثم واحتار في صياغة الرد، تدخل المدعي العام ليفسح مجالا له لترتيب أفكاره.
- الشاهد غير ملزم بالإجابة عن أسئلة الدفاع لعدم الاختصاص عما ورد في تقرير المختبر، حضراتي القضاة حضراتي المستشارين إن الدفاع حاول جاهدا تغيير مسار البلاغ والتشكيك في صحة ما جاء في ملابساته ملمحا أن إجراءات الضبط والتحقيق بنيت ضد مجهول قبل عرضها على النيابة العامة، إلا أننا رجحنا اعترافات المتهم على الأدلة المادية العارضة التي يحاول زميلنا الطعن في دقتها.
- نأمر الشاهد الإجابة عن أسئلة الدفاع ضمن نطاق اختصاصه، وعن ما ورد في تقريره.
- صحيح، "إن بصمة كف غير واضحة" لم تحدد هويتها في بعض البلاغات الواردة قد رفعت من مكان الحادث موضوع البلاغ.
- ما هي هذه القضايا والبلاغات؟...
- أعترض حضرة القاضي ..
- الاعتراض مرفوض
- كانت بلاغات تتعلق بقضايا متنوعة:" السرقة بالإكراه والتعدي المنزلي... والإيذاء البليغ ...وقد قيدت ضد مجهول".
- نكتفي بشهادة الشاهد.
- إن الدفاع يحاول إقناع المحكمة بوجود طرف مجهول رغم وضوح الحقيقة واعترافات المتهم..إن من العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم يا أستاذ.
- إن فوق كل ذي عليم عليم سيادة المدعي العام، لدى موكلي ستة أبناء خمسة ضحايا مجني عليهم وآخر طفل يدعى/"الشاوش بوعزة" يبلغ من العمر11 سنة، أصم وأبكم مازال على قيد الحياة.. أين كان وقت الحادث؟ حسب ما ورد في تقرير المباحث:".. تم جلبه من عند خالته المدعوة/" الصوفي حبيبة" وأودع في المركز الاجتماعي لرعاية القصر لحين النظر في شأنه"، نرجو من عدالتكم استدعاء الشاهد "الشاوش بوعزة" برفقة مترجم لإشارات الصم والبكم المحلف لدى وزارة العدل، والشاهدة "الصوفي حبيبة" والمقدم/" عبد الله الراجي".
- إن الدفاع يحضر طفلا مختلا عقليا للشهادة! إفادته لا تجوز والأخذ بها باطل حتى على سبيل الاستناس.
- يستدعى الشهود للحضور بتاريخ15/4/1982م رفعت الجلسة.
غادر البوهالي مكانه واتجه وسط المدينة متجولا بين المقاهي المكتظة والحانات المصطفة على شاطئ البحر، متأملا ساعة الغروب كما اعتاد كل مساء... ينتظر في شوق ارتماء الشمسفي أعماق البحر، ثم يواصل سيره وسط زحام المدينة...تارة يتلو البخلاء أو فصولا من البؤساء وطورا مقاطع من أغنيات جاك بريل"؛ أو"أحمد البيضاوي"إلى أن يتوارى خلف الزحام... تتيه معها كلماته بين أزقة ضيقة وفضاء ضاعت في سمائه أحلى الأغنيات وأعذب الذكريات، أزقة كانت في ما مضى متراصة مترابطة يجمعها الحب... كان البوهالي يحس الدفيء والحنان بين أرصفة جنانها، أحب الناس وألف المكان صار جزءا من الأرض وقطعة من عبق التراب، اعتادوا جنونه الساخر؛ كان يحمل آلة العود يطوف الأزقة والأحياء والشوارع، يغني ويعزف في المقاهي وحافلات طلاب المدارس والجامعات، يسمعهم الأغاني المختارة لديه فمنهم من يتجاوز محطة نزوله رغبة منه في الاستماع إلى ما ينشده، لا يقبل الهدايا أو النقود يختار الكلمات والألحان بدقة وعناية، يحيي ما طواه النسيان، يزيح غشاء الهجر عن مقتطفات كان لها صدى في ذاكرة الأوطان، نغمات كسرت قيود الحدود، كأنه بألحانه ينتقي ما حواه وعي جماعي موجود، حلم ظلت نغماته قابعة في أركان معششة بالخوف والحزن.. يسمو بألحانه ويهتف عاليا بأناشيده.. ينتقي من أشعاره رحيق أجمل الأزهار والورود..اشتهر فنان سوداني عريق/... بين جموع الطلبة حين رددوا له أغنية "الصباح الجديد "لأبي القاسم الشابي" يوم ساد الصمت في الحافلة وهم يستمعون إليه، ينشد بكل أحاسيسه الملتهبةفي لحن أفريقي جميل، قادم من شاطئ النيل الأبيض "لأم درمان" حين يقول:
أسكني يا جراح واسكتي يا شجون
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراْء القرون
في فجاج الردى قد دفنت الألم
ونثرت الدموع لرياح العدم
واتخذت الحياة معزفا للنغم
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون

لا أحد يعلم لماذا اقتحم رجال حافلة الطلاب، وأوسعوا البوهالى ضربا أمام الجموع، كسروا آلة العود قطعوا أوتاره.. كمموا أفواه الكلمات برباط أسود، اعتقلوا نغمات الصمت بسوط الجراح، مازال وعي الليل فيها لم يعانق الصباح والبدر تحجبه الغيوم الداكنة أيام القر الطويلة في الحي والحافلة... البرد القارس والظلام الحالك في عيون الناس والشوارع والمدينة، كأن الغيوم حينها انشقت فانبثق من بين خلجاتها رأس مشقوق، تمتد منه ذراع يد قوية، تمسك بثدي الرحمة فتشتعل الزرافة، على أرض البور القاحلة حين تساق فيها الهياكل إلى المجهول، والعملاق فتحت أدراج ركبتيه يوم سيق فيه البوهالي إلى إحدى المصحات في عنبر انفرادي دون محاكمة. ثم يعود مرة أخرى مستندا على السور العتيق صارخا بأعلى صوته:
- "محكمة" باسم العدالة نفتتح الجلسة وبمناسبة حضور الشهود والمتهم الكلمة لمحامي الدفاع.
- نرجو من محكمتكم الموقرة استدعاء الشاهدة"الصوفي حبيبة" للمثول أمام عدالتكم.
- ما هي حالتك الاجتماعية سيدتي؟
- مطلقة وأم لطفلين
- إن محامي الدفاع يسأل الشاهدة في أمور شخصية لا تتعلق بالواقعة..لسنا هنا يا أستاذ لإحضار الشهودوسؤالهم عن حالتهم الاجتماعية، والابتعاد عن القضية برمتها منشغلين في البحث عن سبيل لضياع وقت المحكمة الموقرة والإحالة دون تطبيق القانون والعدالة والقصاص من مجرم معترف بذنبه، وكل القرائن تدينه.. تستدعي الحكم عليه.
- نأمر محامي الدفاع الإقتراب... الرجاء منكما الالتزام وعدم الإخلال بشروط المرافعة وعدم الخوض في أمور خاصة بالشهود.
- سيدتي ما هي علاقتك بالمتهم.
- زوج أختي" نسيبي".
- سيدتي أرجو أن توضيحي للمحكمة الموقرة طبيعة العلاقة بين أسرتك وبين "الشاوش مصطفى بالعربي" ومدى معرفتك به.؟
لم تستطع الشاهدة منع عينيها من ذرف الدموع الغزيرة التي منعتها عن الإجابة.
- نطلب من محكمتكم الموقرة صرف الشاهدة من حرم المحكمة لعدم تمكنها من الإجابة عن أسئلة مبهمة لا تمت للنازلة بصلة.
- "لا يا سيدي أنا قسمت قدام القاضي باش نقول الحق "وكفكفت دموعها وأضافت " أنا مرا وحدانية وبرانية وعندي ليتام... ما كاينش اللي زورنا و يواسي... السي الشاوش ...كان دايما مهموم ويقاسي... كان يساعدني فالبحث على اختي الصغيرة اللي تخطفات من لبلاد 16عام هدي"
لم تستطع الشاهدة متابعة الإدلاء بشهادتها لأن الدموع منعتها عن الكلام ، فصمتت قليلا ثم نظرت إلى المتهم نظرة لوم وعتاب وهو مقيد بالأغلال داخل قفص الاتهام المحكم الإغلاق، والقاعة مليئة بالحضور الغفير يتابع في صمت وهدوء مجريات المحاكمة وأضافت:
"- حنا ناس على قد حالنا واحدة منا خطوفها والثانية قتلوها... آه حياني زاد الهم حياني شاب راسي وشكون اللي واسي... شكون اللي ياخذ لينا الحق والصبر ما يداوي يا ناس... ومن هاد الجروح عذابي زاد وكنقاسي..." وكفكفت دموعها مرة أخرى وأضافت"السي الشاوش كان راجل مزيان اوقليبي مسجون معاه بلا عذر... ما شفنا منو غير الخير واللي يسر... ولكن اللي طرا فأختي وأولادو وأخوه كيف يوقع فهاذ الدنيا وعلاش؟السي الشاوش الناس كلها والجيران ما شافوا منوا غير الخير وأنا راسي ما مصدقاش انو يدير هاذ الفعلة"
- ماسم قريتكم؟
- دوار الشايب
- ما اسم الفتاة التي اختطفت وكم كان عمرها آنذاك؟
- أعترض حضرة القاضي.. الدفاع يثير موضوعا لا علاقة له بالقضية ألبتة.
- الاعتراض مقبول
- سيدتي ألا تستلمين حق النفقة من طليقك؟
- أعترض عن إحراج الشاهدة بهذه الأسئلة سيدي القاضي..
- الشاهدة لها حق الاختيار في الإجابة عن السؤال
- "يا سيد القاضي "راجلي قبل ما يطلقني كان بلا خدمة يدخل الدار فنص الليل ومن المحال يسول فيا...بقيت فريدة والعمدا عليا...وحمام الجنة جيعانين دايرين بيا" قاطعتها الدموع وخرجت نبرات صوتها متحشرجة..ثم أضافت: -" شفنا معاه القهر والضيم حتى راح فالسكة اللي تدي وما تجيب، فبحر غمري ومواجو عاليا هناك على شط البوغاز... الله يا سيدي طلقني وخذاتو الغربة وظلمات الدنيا عليا...آش غادي نشرح لكم أسيادي؟ ما كفاتكم كلمة واللا غمزة من عين الحال...السي الشاوش كان يسقينا ويطعمنا وكفانا شر الزنقة...والحمام اللي والفتو طار وعلا...ويلا كان هو اللي قتل حبايب الله..الله يأخذ فيه الحق"ثم أجهشت مرة ثانية بالبكاء.
- السيدة حبيبة هل تذكرين يوم قدم فيه إلى منزلك الطفل "الشاوش بوعزة"يوم الحادث؟.
-"نعم أسيدي...جا لعندنا فنص الليل وكان خايف ويرتعد ظنينا من البرد طاح فالأرض سخفان وما عرفنا مالو على حق ما حد يفهم عليه آش يقول؛ غير أمه الله يرحمها وأنا عزيز عليا حيت كيزورني مسكين دايما".
- هل كان الطفل يصاب بالصرع أو يقوم بتصرفات غير طبيعية؟
-" السيدة حبيبة" ليس من اختصاصها تقييم حالةالحدث النفسية.
-الاعتراض مقبول.
- أكتفي بما جاء في أقوال الشاهدة.. ونطلب من المحكمة استدعاء الشاهد "الشاوش بوعزة" رفقة المترجم.

-أقدم لسيادتكم التقرير الطبي للحالة النفسية للمريض توضح أن "الشاوش بو عزة " مصاب بمرض نفسي مزمن والاستماع إلى إفادته غير ملزمة.
- يستدعى الشاهد "الشاوس بوعزة" إلى قاعة المحكمة.
دخل الطفل" الشاوش بوعزة" ومعه المترجم من الباب الخلفي للقاعة وسط حراسة مشددة، وتقدما إلى منصة الشهود أمام جمع غفير من الحضور ووسائل الإعلام. لم يتمالك الطفل نفسه حين رأى والده مقيدا في قفص الاتهام، بدا عليه الذهول فانطلق نحو الحاجز الحديدي محاولا الدخول إليه، تنهمر الدموع من عينيه بغزارة، يصدر صوتا غريبا متوسلا متضرعا إلى الجموع فساد الصمت، أمسكه محامي الدفاع وركز عيناه على عينيه وضمه إلى صدره بقوة وحال بينه وبين الحراس واستطاع تهدئته وإرجاعه إلى منصة الشهود. في حين يعود البوهالي إلى فراشه البالي مستندا على الجدار؛ يتهاوى عقله دفينا داخل ذاكرة أثقلتها الجراح، متأملا ما يجول في نفسه من صور وتماثيل... أشباح وملائكة... زنازين كالغرف...أبواب مغلقة، هناك خلف أحد الأبواب شعاع خافت تسلل من فتحة خجولة شقت وسط الباب تنفتح عيناه بالكاد داخل الغرفة الرتيبة، يحاول النهوض بعناء ولا يستطيع، لا يعرف سبب وجوده داخل عقله..لا يدري جسده أين فكره، أين الناس؟ وأين العالم من حوله؟ أين آلة العود وأين الربابة؟ من قاده لرحلة داخل نفسه؟ صرخ بأعلى صوته لعل عينا تراه أو أذنا تسمعه..هتف عاليا:" يا نداء صمتي في قعر بلا قاع يا خاطري المرعوب أكنت تسألني أم أنا من سألتك؟
- من أنت البوهالي السور العتيق
-" أنا البوهالي من حلقة الدراويش.."
عاد صدى صوته ليسأله من جديد:
- من علمك عزف العود والغناء؟
- البوهالة والدراويش
- إنهم صعاليك ما عندهم دين ولا ملة"
- البوهالة والدراويش؟ - من قطع أوتار الربابة والعود واغتصب الألحان والنشيد؟
- البوهالة والدراويش!
- ألم أقل لك إنهم "ملاعين"
- أعطني حبة نوم لأنام وأستريح.
- خذها وارحل عن ذاكرتك.
يوصد الباب بقوة هز أركان الغرفة الرتيبة فقام من مكانه فزعا، مناديا بأعلى صوته "محكمة".
حاول النهوض لكن رجلاه خانتاه...هم بالكلام أتى صوته خافتا ترتد موجاته في فؤاده.. حرك مقلتيه قليلا لطرد أشباح اليقظة؛ لكن الإرادة يحجبها العجز، بدت له الأسوار عالية بنيانها مرصوص بالأكف والأقنعة؛ أشباح تحاول التحرر والانطلاق من لعنة الجدران العتيقة وأهازيج الهول الصاخبة.. أطياف تركض على حافة السور العتيق يتساقطون واحدا تلو الآخر في هوة سحيقة. هناك حيث.سراديب ضيقة متشعبة ، يتلون ما خط في الألواح كأزيز النحل.. تمتزج الأهازيج بالتلاوة، وتختلط الأصوات برائحة الصلصال والقار والطين المحروق.. يركض بين المنعرجات محاولا التحرر منه لكن السرداب طويل لانهاية له.. أبوابه موصدة أركانه معششة بالألم والخوف.. حاول الهروب بعيدا والتحرر من عقله وخاطره الجريح.. أمسك رأسه بكلتا يديه فجأة يجد نفسه متحررا من السرداب اللعين مستندا على جدار السور العتيق ثم يهب واقفا يصرخ بأعلى صوته "محكمة":
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، إن حضور هذا الطفل البريء إلى قاعة المحكمة يتعارض ومقتضيات المصلحة العامة للمريض، والضرر النفسي البالغ الذي قد يلم به، كما أن سلوكه داخل قاعة المحكمة الموقرة لدليل قاطع على عدم أهليته للشهادة.
- نأمر محامي الدفاع سؤال الشاهد والالتزام بما يراه مناسبا في حدود الواقعة.
-" الشاوش بوعزة" أين كنت ليلة الحادث؟ وما هي معلوماتك عما جرى؟
- كنا جميعا في المنزل أنا وأمي وعمي وإخوتي؛ كنا نلهو ونلعب فاختبأت تحت السرير، غلبني النوم فنمت..
- ماذا وقع بعد ذلك؟
- صحوت من النوم وأخرجت رأسي، ففوجئت بشخص طويل القامة يشعل النور ويقتحم الغرفة ثم شرع في جز رقاب إخوتي الواحد تلو الآخر، كانوا يتوسلون إليه يبكون ويصرخون قبل أن يباغث رقابهم بسكين حاد. كانوا يحاولون إمساك يديه بأيديهم لتقبيلها لكنه لم يرحمهم. أوثق أيديهم بحبل رفيع فأجهز عليهم الواحد تلو الآخر ..."
انهمرت الدموع من عيني الصبي بغزارة دون أن يصدر صوتا وسمع نحيب خافت وسط الحضور من بعض النسوة اللائي لم يستطعن منع الدموع مما أثاره الصبي حينما كان يصف براحتيه الصغيرتين ويشخص تلك المشاهد المريعة التي يندى لها الجبين، تدخل حينها القاضي وأمر بالتزام الهدوء وهدد بجعل الجلسة مغلقة"..
- وماذا فعلت حينما رأيت ذلك؟.
- تملكني الخوف والرعب...أنتظر في أية لحظة أن ألقى مصير إخوتي فلم أبرح مكاني من تحت السرير لفترة طويلة. ولما غادر ذلك الشخص، خرجت من المنزل إلى الشارع طالبا المساعدة من الناس، لكن دون جدوى فالتجأت إلى منزل خالتي.
- حاول الاستعانة بالناس لكنهم خذلوه سيادة القاضي، كل من وجده في الطريق طلب منه النجدة والعون...لكنهم لم يفهموا ولم يستوعبوا لا بالرمز ولا بالإشارة، لا بالدموع ولا بالحسرة...منهم من يشفق ومنهم من لا يعبأ.. منهم من يسخر ولا يعرف سخرية القدر له، وكانت النتيجة حضراتي القضاة حضراتي المستشارين أن يجد نفسه ملقى به في منزل لرعاية القصر لغاية النظر في شأنه.
فاقترب محامي الدفاع من قفص الاتهام ثم وجه السؤال إلى الشاهد:
- هل من في هذا القفص هو من فعل ذلك؟"
- أعترض حضرة القاضي عن استفزاز مشاعر الشاهد.
- هل هذا هو الرجل؟
"مشيرا بيده إلى القفص واقفا بين منصة الشهود وقفص الاتهام مضيفا:
- هل هذا من رأيته يفعل ذلك بأخوتك؟
- لا...لا يا سيدي هذا أبي يحبنا ونحبه من فعل ذلك إني رأيته.. أستطيع التعرف عليه من بين كل هذه الجموع إن كان موجودا في هذه القاعة...لن أنساه أبدا ما حييت.
- نكتفي بهذه الأسئلة.
عم الصمت أرجاء المحكمة وأصيب الجميع بالذهول، لأن الصبي بدا واثقا من نفسه حين توجه إلى قفص الاتهام رابطا الجأش مخاطبا أباه بالإشارة قبل مغادرته قاعةالمحكمة، إلا أن محامي الدفاع استوقف المترجم لمعرفة ماقاله الطفل لأبيه وازداد فضول هيأة المحكمة معرفة ما دار بينهما من حوار وجيز، فترجمت الإشارة خارج منصة الشهود:
"لا تحزن يا أبي ستنجلي الحقيقة ونجتمع من جديد تمسك بالأمل". ...




زين العابدين إبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس