البوهالي/
رقصة النورس/3
يتوقف البوهالي عن المرافعة حينما سمع ضجيجا عاليا يقترب منه يطغى على صوته أثناء مرافعته..
إنها فرقة "الحمادشة" من يلبسون جلابيب صوفية، شعرهم يتجاوز مناكبهم العريضة، لحاهم طويلة متهدلة والحمام يتطاير فوق رؤوسهم ويحط على أكتافهم، يسيرون في موكب ضخم حاملين الهدايا والشموع...صوامع ورقية زينت بنجوم براقة وأعلام ملونة، يدقون على الطبول والدفوف يغمغمون ويهمهمون، توسطهم البوهالي فانسجم معهم رحبوا برفقته لهم، بدا عليه السرور وغمره الفرح سائرين إلى ساحة الحي، هناك شكلوا حلقة دائرية كبيرة أحاطوها بالشموع والفوانيس، التفت حولهم الجموع حجوا إليهم من كل أحياء المدينة ليشهدوا "الحضرة" تحيي حفلها فرقة"الحمادشة"مرة كل سنة فاستهل أحدهم بداية الليلة منشدا بصوت جوهري قوي:
قائلا:
الذات ذاتي أنا، وهو روح ساكنة فيك، أنت وأنا
شوف الخلق تشوفني أنا، تعرف الحق اللي جانا
شكون اللي قال: أنا ماشي أنت، وأنت ماشي أنا
ورد عليه آخر:
هو رجلي ويدي وعيني، وهو الرامي، وهو أنا
ويا البوهالي بو دربالة، روحك منزهة أنت وأنا
سألها تقوليك أش من فرق بين أنت، وأنت وأنا..
ورد عليه آخر:
الواجد من الموجود كل شي واحد وكل واحد أنا
شوف نفسك، تعلم سرك فاللي سماك وسمانا..
كل شي فاني يا البوهالي، راه حب الدنيا عمانا
وبدأ الحفل على إيقاع الطبول والدفوف المتناغمة والقوية، تسمع دويها على بعد أميال، تميل إليها النفوس..الرؤوس تتهادى و سرعة الإيقاع، أشعلوا الشموع والقناديل.. أوقدوا المشاعل والفوانيس المزينة بنقوش من نحاس، فصارت الحضرة دائرة شاسعة من الأنوار، ظلال الأشياء فيها خيال يتراقص على ضوء المشاعل، أضرموا النار وسط الحلقة، بدا المكان خارج الكون كأنها النجوم تحوم حول كوكب متقد والبوهالي يتوسط الدائرة يراقب رقصة "الجدبة" باهتمام وقد ازداد قرع الطبول عاليا وامتلأ المكان بأدخنة البخور الزكية المتصاعدة إلى السماء، تبدو كأنها حضرة إلهية مهيبة.. فجأة ينشرون الجمر وسط الدائرة، يفرشون الأرض بقطع زجاج حاد، وتعلوالأصوات بغناء كأنه عويل ونواح، يسيرون على اللظى المشتعل... يمشون حفاة على الزجاج الحاد.. يشربون ماء يغلي ويفور على النار، ويقذفون كرات حديدية إلى الأعلى فيصدوها برؤوسهم فتسيل الدماء، يستعرضون القتال بالخناجر والسيوف ويحتد الإيقاع.. ينقضون على التيس القابع في الوسط يمزقونه بمخالبهم الطويلة إربا إربا يفترسون لحمه نيئا ويصرخون، ويزداد قرع الطبول..
مشاهد مريعة قذفت الرعب والذهول في نفوس الحاضرين اقشعرت لها الأبدان، اغرورقت العيون وانهمرت الدموع، تراهم حيارى لأن مشاهد الحضرة كانت رهيبة، تنجلي فيها أسرار الحقيقة، كشفت عن شطحات في علم الغيب، ترتقي فيها الأرواح لتتوحد من جديد..تغير الإيقاع رويدا رويدا لتهدأ النفوس وتتآلف.. اطمأنت وامتزجت واحدة موحدة.. تغني وتنشد..تهوى وتحب..تصحو وتثمل ترى الكل واحد.. تبصر الواحد في الكل.. كأنما مسها سحر مبين.. صارت قابلة كل دين..عرفان توراة وإنجيل..كأنما بدين الحب مبصرة..ناظرة متشوقة.. تميل أينما توجهت ركائب العشاق والأخيلة..إنها الحضرة ..وحدت الخواطر والعقول بعدما كانت فيما مضى شيعا وأحزابا متفرقة، تزور الحي كل سنة قادمة من زوايا عتيقة، كانت نبراسا ساطعافي تاريخ الدفاع عن الفقراء أيام المحن والحروب.. وهاهم يغادرون الحي يتبعهم البوهالي إلى ضاحية المدينة، يصفق ويرقص على أنغام الدفوف والطبول وسط جموع "الحمادشة" إلى أن يتوارى الموكب الضخم المهيب، في الغابة الكثيفة وسط الظلام، لم يستطع البوهالي حينها مرافقتهم فعاد أدراجه إلى مكانه الآمن بعيدا عن زحمة السير وهول" الحضرة".. قريبا من عقله وخياله، هام على فراشه من شدة التعب "فأيقظته طرقات قوية يشق صداها همس السكون، يأمر الحاضرين التزام الهدوء لسماع أقوال الشهود..قام من فراشه فزعا ملتفتا يمنة ويسرة صارخا بأعلى صوته "محكمة".
- نرجو من محكمتكم الموقرة استدعاء المقدم "عبد الله الراجي " للإدلاء بإفادته عن مجريات التحقيق وما ورد في محاضر الاستدلال.
- سيادة /"المقدم عبد الله" بما أنكم أشرفتم على معاينة المكان أثناء تفتيش مسرح الجريمة، لم يأت الذكر إلى أية مجوهرات أو أموال أو مقتنيات ثمينة خفيفة الوزن عثر عليها في المنزل محل الحادث.. كيف؟.
- نعترض عن طرح أسئلة خارجة عن نطاق الموضوع.
- الاعتراض مرفوض ونأمر الشاهد الإجابة عن أسئلة الدفاع.
- ليس لدينا علم عن من يملك المجوهرات أو من لا يملك أثناء معاينة الحوادث، إن كنت تلمح في سؤالك: إن كان المكان المذكور تعرض للسرقة.. أجل هناك احتمال كبير في تعرض محل الحادث للسرقة.
- ما الدليل على ذلك سيادة المقدم؟ ولماذا لم تتم الإشارة إلى هذا الاحتمال في تقرير المعاينة المرفق بالمحضر؟..
- موضوع القضية"القتل العمد مع سبق الإصرار بدافع الانتقام وليس بدافع السرقة" لكن البحث مستمر من قبلنا إن كان محل الحادث تعرض للسرقة أو من عدمه..
صمت محامي الدفاع قليلا واقترب من منصة الشهود ثم رفع نظره نحو الشاهد موجها له السؤال كأنه يعرفه أو صديقا له وليس شاهدا، فتعمد تغيير نبرة صوته إلى الهدوء والتوضيح أكثر.
- الرغبة...الغضب...الطمع...الانتقام، دوافع كانت آثارها جلية في مسرح الجريمة، دوافع كفيلة لإقناع المحكمة بإدانة أي متهم توفرت فيه هذه الدوافع، لكن لو أخذنا على سبيل المثال تقريري الطب الشرعي والأدلة الجنائية نجزم بالقطع بأنه لا وجود لدافع الانتقام فليس هناك أي آثار أو عينة أو تحليل على الرغبة أو الشهوة بصورة أوضح، إذن فالعلاقة السببية تغيب معالمها الرئيسية هنا مما يضعف القصد في الإقدام على الفعل، لكن يا ترى من تتوفر عنده كل هذه الدوافع ليرتكب هذا الجرم الشنيع؟ أليس كذلك سيادة المقدم؟ أم هناك دوافع أخرى بنيت على أسس واضحة و ثابتة ولم تطلعوا عليها هيأة المحكمة؟. - أعترض سيدي القاضي فالدفاع يحاول صرف نظر هيأة المحكمة الموقرة عن الدافع الحقيقي والواضح لارتكاب المتهم جريمته النكراء.
- الاعتراض مرفوض.
- إن وضعية المجني عليهما في مسرح الجريمة تثبت دافع الانتقام لدى الجاني..
- يقول الطبيب الشرعي في إحدى فقرات تقريره الذي بين أيديكم نسخة منه:
"... تظهر سجحات على معصم المجني عليهم بسبب قيد أو حبل استعان به الجاني على تثبيت ضحاياه كي لا يتمكنوا من المقاومة أو الفرار..." أين اختفى هذا القيد أو الحبل؟ لماذا لم يحرز وأداة الجريمة؟ نرجو من الشاهد أن يوضح لهيأة المحكمة الموقرة لماذا؟.
لم يجد الشاهد جوابا مقنعا وصمت قليلا ثم قال باقتضاب:"
- لم نجد قيدا أو حبلا مكان الحادث".
- أثناء مراجعتنا الشريط المصور المرفق بمحضر الاستدلال، يشخص فيه المتهم كيفية قيامه بالجرم، لاحظنا أنه لم يقم بفعل يدل على تثبيت الضحايا بقيد أو حبل، وهذا يناقض ما خلص إليه الطب الشرعي؛ نرجو من الشاهد التوضيح والإفادة ما يفسر هذا التناقض ؟.
- سيدي القاضي إن الدفاع لا يلتزم بالوضوح في طرح أسئلته على الشهود، بل يبحث عن أسباب ظرفية واهية؛ سواء استعمل الجاني القيد أو الحبل، فالمجرم اعترف بجرمه وقام بتشخيصه كما دل على ذلك الشريط المصور الذي بين أيديكم.
- الاعتراض مرفوض.. ونأمر الشاهد الإجابة عن أسئلة الدفاع.
- الجواب عن السؤال من اختصاص مدير قسم الأدلة الجنائية والطبيب الذي عاين الحادث ومن أسندت إليه مهمة التشريح.
- سيادة المقدم.. هل الإجابة على بضع أسئلة تتضمن ماذا جرى؟ وأين؟ وكيف؟ ومتى؟ كفيلة لإحالة أي متهم لحبل المشنقة والإجهاز عليه باسم القانون؟؟.
- إن هذه الاستفسارات والأسئلة لا تتفق ومقتضيات الواقعة، كما أن المتهم قد أجاب على كل الأسئلة الموجهة إليه بوضوح يا أستاذ.
- لنفترض ونسأل مرة أخرى.. ماذا جرى ؟ وكيف؟ من أين دخل المتهم وأجهز على ضحاياه ؟... تسلق الجدار!؟ وفاجأ المجني عليهما داخل غرفة نومه متلبسين بالجرم المشهود واشتعل رأسه غضبا؟ .. ثم أحضر السكين وهما ما يزالان على السرير ينتظران قدومه ليفعل بهما ما يراه مناسبا له .. !
فصمت قليلا ثم اقترب من الشاهد وغير من نبرة صوته ليطرح السؤال بشكل مغاير مضيفا:
- لكن هل يعقل لرب منزل أن يتسلق جدار منزله إلا إذا أضاع المفتاح؟.
- يعتقد..
- من يعتقد سيادة المقدم ؟ من قام باستجواب المتهم والتحقيق معه ؟ أوالمتهم ؟أوهما معا؟
- المتهم لم يفصح عن أسباب نواياه أثناء التحقيق معه..
- القانون لا يجرم النوايا، وبما أنكم تشغلون رئيس قسم، فقد صدر تقرير أمني من وزارتكم الموقرة يفيد:" بأن معدل الجرائم الواقعة على النفس المقيدة ضد مجهوليفوق ستون بالمائة، والتي هي ضمن اختصاصكم سيدي يفوق خمسة وثلاثون بالمائة حسب "مركز الإحصاء والمتابعة.." ألا تعتقد أن هذه الواقعة لها علاقة بسلسلة جرائم وبنفس الأسلوب وبشكل مغاير؟.
- أعترض حضرة القاضي عن الخوض مع الشاهد في أمور خارجة عن الموضوع.
- أرواح الناس وضحايا القتل المتعمد والمقصود ليست خارجة عن الموضوع سيادة المدعي العام.
- الشاهد له الاختيار في الإجابة.
- ما ورد في التقرير صحيح وقد عرضت كلها على النيابة العامة في حينه، ومازال الأمر فعالا باستمرار البحث عن مرتكبي هذه الأفعال؛ وسيعاد التحقيق عن ملابسات عدة قضايا من جديد.
- نكتفي بسؤال الشاهد.
غادر المقدم/عبدالله الراجي قاعة المحكمة في حالة شديدة من التوتر والقلق؛ تشوبه حالة من الامتعاض والحيرة، دخل مكتبه وشعر بالاختناق، فك ربطة العنق وجلس على الأريكة يفكر في نفسه وما وقع فيه من إحراج داخل قاعة المحكمة وهو المتمرس والأفضل في كشف حقائق الأمور، يسأل نفسه عن الأسباب وما آل إليه موضوع القضية..
ومازال يعاتب نفسه ويفكر..ثم يثري ويعسر إلى أن دخل عليه مساعديه الملازمين أحمد الغيلاني وصابر جسوم، وقد لاحظا مدى الحزن الذي يبدو جليا على ملامح وجهه فقال صابر:
-" إللي وقع أعبد الله فقاعة المحكمة كلنا نتحملوا مسؤوليته ولابد من إعادة النظر فالموضوع.
قال عبد الله:
- ما شي معقول هاذ القضية تصبح صخرة واعر تزعزعها من مكانها.."
رد عليه أحمد قائلا
- لا يا سيدي حنا أمام مجموعة من الوقائع والأحداث كتحتم علينا نوضحوا الحقيقة.
فقال صابر بنبرة أقرب إلى السخرية
"- غدا تسمع لخبار.. صرنا هدف سهل فمرمى الصحافة لابد من حسم هاذ الموضوع بالسرعة الممكنة".
فشرعوا في إعادة ترتيب الوقائع، وناقشوا ما جرى في قاعة المحكمة ثم وزعوا المهام فيما بينهم وغادروا مكاتبهم في وقت متأخر من الليل.
هناك يسطع ضوء الكون خافتا عند شفق الفجر مطلا على السور العتيق ماسحا على جداره غبار الزمن لتقرأ على واجهته بخط ثلاثي عريض وإذا حكمتم بين الناس..وما تلاها من الحروف والكلمات جرفتها أنامل المطر المتدفق على واجهته أزالت كفة الميزان الذي يعلو يمين دار القضاء وسقفه العالي حين تمر بجانبه عربة يجرها حصان عليها هدايا وأكياس الدقيق، تتبعها مجموعة من النسوة قاصدات زيارة الضريح الكائن وسط الجبل، إنه الموسم الذي تقد فيه الشموع وتهدى فيه الأضاحي والقرابين تقربا لما يرغبن في تحقيقه، لم يجد البوهالي حرجا في مرافقتهن إلى هناك، إلا أنه آثر الجلوس بالقرب من مكان الزيارات ومشاهدة المدينة من ذاك الارتفاع، بدت له المدينة صغيرة يكاد يبتلعها البحر ويغمرها النهر، والسور العتيق يزحف ببطء نحو رمال الساحل، فغاصتذاكرته في أعماق الماضي.وحكايات تداولها سكان الحي عن أسطورة الوادي ومدينة الساحل والجبل.
تقول الأسطورة:"عندما يغضب المحيط وتعلو الأمواج يشتد الظلام، يزبد البحر ويرعد، تتيه الزوارق بين اللجج العالية ولا سبيل للنجاة، فجأة تشتعل قناديل مضيئة من أعلى الجبل تغشى أنوارها السماء، ترشد البحارة اتجاه الميناء، فيهدأ البحر رويدا رويدا..ثم تنطفئ القناديل وتتوارى وسط غار داخل الجبل المطل على الميناء.."
قيل إنه كان رجلا صالحا من أهل المدينة، آوى إلى ذلك الكهف وقال:"ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا" زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، مكث سنين إلى أن لاقى ربه، تنازع البحارة في ما بينهم فأجمعوا على أن يبنوا عليه ضريحا ويطلقوا عليه اسم "سيدي بو القناديل"، تيمنا ببركاته؛ محجا للزوار الأجانب، وملاذا لمن ضاقت به السبل راغبا في تحقيق مراده، فصار المكان معلما من معالم المدينة يعلوه حصن منيع على قمة الجبل، صفت على أسواره مدافع ضخمة حديدية قوية تطل على البحر؛ كانت تصد الغزاة القراصنة الأشرار، وتحرس المدينة.
مدينة الساحل وخليج تاملالت؛ السهل الغربي من نهر سوس، على ضفة وادي الحور" حي الفداء" و"زنقة الفقراء"، كتب على جدارها بخط كوفي عريض:" لئن حكمت الأقدار بخراب مدينة أغادير، فإن بناءها موكول إلىإرادتنا وإيماننا"، إرادة من ذبحوا قرابين على تمثال الحرية، مدينة لم يثنيها الزلزال على الصمود والثبات ومواجهة أيام قاسية خلت، عايشها البوهالي وشهدتها أسوار" مدرسة السعدي" العتيقة، و"حمام الزهور" و"فران الشعلة" المفعم بنكهة الرغيف الساخن اللذيذ، وعبق خشب الأركان المحترق يعلو فضاء الحي الغارق في الزحام بين صفاء الأديم وقتام القديم..
كان يحس الدفيء بين دروبها وأزقتها الضيقة، كانت في ما مضى ملتقى السمار يحلو على عتباتها السهر، وتجاذب ملح الحوار وروائع الحديث واستنباط عينه من معينه.. يقف بالجوار مسترقا السمع إلى ما يدور من جزيل الكلام في حلقات تتوسطها صينية الشاي الأخضر، عليها كؤوس تزهر بنقوش تبهر، تملأ الأرجاء بعطر النعناع والعنبر حلو المذاق لذة للحاضرين، هدية من بيت" الحاج عمار" الذي قال عنها للسامرين:
أراها عطر الأرض لا طيب بعدها ومن ركب البلقاء لن يغلبه المهر
في الطرف الآخر من الحي تصطف المقاهي والدكاكين على طول الشارع المزدحم بالباعة المتجولين.. موزعي الجرائد وماسحي الأحذية، المتسولين والمجانين، ترتسم على محياهمالقسوة وضراوة سنوات عجاف شهدتها المدينة، عم فيها الفقر والضياع وكثر البغاء، سادت اللصوصية والاستيلاء على الأموال والضياع إبان زمن عسير تقمع فيه الذاكرة، تكتم فيه الجراح وتكمم الأفئدة.
أرهقته العيون ونظرات تائهة متسائلة، فآثر الرحلة إلى الوادي القريب من الحي، لينأى بنفسه بعيدا عن هموم المدينة وصخب الشوارع، يعبر الضفتين ليصل إلى بساط أخضر شاسع يعانق السماء على امتداد ينحسر في آفاقه النظر إلى حدود اللانهاية، مراتع بهية نضرة؛ يغشاها عطر الشيح والزعتر والنعناع.. نكهة أشجار الصنوبر والزيتون والأركان، زهور الفل والياسمين يملأ رحيقها المكان، ألوان من الفراشات والعصافير والطيور تلون فضاء الوادي العتيق، نور يفيض من أشعة الشمس يداعب وميضه الماء الرقراق، كأنه لآلئ ودرر نثرتها على الوادي يد صانع مكين.
على ضفاف هذا السهل الخصيب، استلقى على ظهره متأملا زرقة السماء الصافية، مستمتعا بسامفونية يعزفها الوادي المنساب من أعلى التل في لحن قوي مهيب، يوقظ عطر الأرض ورحيق التراب، كأنه صدى صوت قادم من زمن سرمدي سحيق، من بين خلجات الريف والأطلس الكبير، من قمم شاهقة تنحني تواضعا لمن يعشق الحياة ويحب الأرض والوطن، إنها موسيقى صامتة بعيدة عن زحمة الحي و كلاب المدينة، لا منابر هنا تزعج السكون ولا هررةتطفئ الشموع وتلعن الظلام، كأن هذا الصدى وقع لحذافير الخيل القادمة من قمم الريف والأطلس الشاهق وجنوب الصحراء تدك الأرض وتعبر الزمن، يرى أطيافها تمر عبر السحاب في نظام وانتظام، مسيرة سلم وسلام تحية لمن هم نيام على ضفاف هذا الوادي تحت الثرى أيقاظ، تحية لمن فاضت أرواحهم على قارعة السهل والساحل والجبل.
كان الماء يندفع بقوة، يجرف صندوقا محكم الإغلاق تتهادى ألواحه بين الصخور والأحراش، قادما من الينبوع؛ من مصنع قديم قابع على رأس الجبل، يقال: أنه كان معقلا للجن والعفاريت، بناه والي المدينة ليعاقب المارقين منهم والمعارضين لحكمه والدراويش, ظل مهجورا إلى أن أصبح يعرف بمصنع" شمعون القراب"، الرجل الذي عرف عنه الجود والإحسان، يعين الفقراء والمحتاجين والضعفاء، يهدي الهدايا والصدقات أيام السبت وأيام المحن والنكبات، لا يزده الثراء إلا تواضعا؛ سكان الحي حزنوا لرحيله، ولا غرو إن كان الصندوق يحمل بركات المصنع وصاحبه، لما أخرجه من الماء تذكر الحكاية، كان الراوي العجوز"عبد السلام الحلايقي" يرويها بلحن الربابة الحزين وصوت شجي:" حكاية صياد فقير، قنوع بما يجود عليه البحر به، راض بنعمه عليه حين يقول: ".. ليس للنعم أعدى من نفس العبد؛ فهو من عدوه ظهير على نفسه، فعدوه يضرم النار في نعمه وهو ينفخ فيها، حتى إذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق،وكان غايته معاتبة الأقدار، وما أنت بالمعطي التمرد حقه إذا كنت تخشى أن تجوع وأن تعرى..." رمى شباكه في الأعماق فأخرج صندوقا ظن فيه الحلي والذهب، فتحه و خرج منه العجب، عفريت مارد جبار جعله حاكما على المدينة، وأخذته العزة بالإثم والكبرياء بالقوة؛ طغى وتجبر، سلط سيفا على الرقاب وأعناق العباد وكان مصيره الهلاك.." فماذا يحوي هذا الصندوق يا ترى؟ أهي ألواح توراة ؟ أو قربانا حمله الوادي لسكان الحي ذكرى" شمعون القراب" بعد رحيله، سيطرق باب منزله القديم في" زنقة الفقراء"، بيت آبائه وأجداده من كانوا هنا ولم يرحلوا، سوف يخبرهم أن من يهجر أرضه لا أرض له، من يمكر بوطنه تمكره الأوطان، ليس الحب يا سيدي أن تكون مستحوذا على القلوب والعقول، إنما هو شوق أبدي راسخ كنهر الخلود، نور لا تغشاه الظلمة، إحساس يتدفق يروي النفوس ويحيي الأمل إيمانا بما نحب، لا ينزع غصبا وقهرا، لا يشترى بكنوز الأرض، إنما يسترد بدماء زكية طاهرة عطرة..الحب يا سيدي كلمة عزيزة غالية، من أجلها حطمت الأقفاص لترفرف الأجنحة عاليا في سماء الحرية، لعل في الصندوق أغصان زيتون من أرض سوس؛ كنت ستهديها لرفاقك هناك في حي المغاربة يوم الرحيل، بدل أمطار الصيف الحارقة وعناقيد الغضب لقتل الأطفال والأحلام وذبح البشر والحمام، واغتيال الحب والإنسانوالسلام .. لكن لم يجد فيه سوى أوراق مهترئة خربة وقنينة صفراء فاقعة، أنتجتها شركة "مونتيكا كا" المحدودة، تأبط الأوراق وتجرع ما في القنينة، تهاوت الأرض تحت أقدامه فضل السبيل، نشوة عارمة أيقظت فيه رغبات كانت دفينة.. سجينة سجينة، كسرت أغلال الحياء؛ حرضته على الغناء فأنشد:
- العيون عيني يا...
- والواد وادي يا سيدي ..
- الواد وادي ..
- نمشيوا في كفوف السلامة ..
- إيماننا يحطم كل طاغي جبار...
- وعلى بلادي يا سيدي على بلادي.
تبدلت الأشياء والأشكال والبشر..الناس صخور وحجر..عم الظلام في العيون لا بدر ولا قمر.. نزع سرواله أمسك بلحيته .. وسط الحي، يضحك في هستيريا ويوزع أوراق الصندوق، يعد غيران النمل وسط ساحة الحي.. يحتسي ثمالة القنينة الصفراء مرددا في وجوه المارة " تورا..بورا.. بورا..اللي شافني تعمر بلادو قبورا.."
يوزع أوراق الصندوق، و بدت له نفسه كظل حزين بعيد عنه فسأله:
- لماذا ابتعدت عني يا صاحبي والظلام لم يحن بعد.. ألم تر أعمدة النور موقدة؟
- أثرت مشاعر أهل الحي..
- إنها نشوة الحرية..
- إنك أحرجت سكان الحي .
- لا حياء في الديمقراطية يا صاحبي..
- إنك توزع صورا ...
- إنها الحقيقة.
- وما شأنك بالحقيقة؟
- إنهم باعوا ريع أوطانهم" لشمعون القراب"صاحب شركة "مونتيكاكا"المحدودة..
- وما شأنك أنت؟
- هاجر وطنه ونسي الصندوق.. تناسى الصندوق ميراثه.."تورا..بورا.. بورا..اللي شافني تعمر بلادو قبورا"..
اتجه صوب عمود النور، دس أنفه بين شقوقه الخشبية، أمسك لحيته الشقراء رافعا إحدى قدميه على حافة العمود مرددا:" بورا.. بورا.. اللي شافني تعمر بلادو قبورا.." فاجتمع القوم على البوهالي وتعالى اللغط والصراخ تهاوى الضرب على رأسه وجسمه النحيف، وهو يضحك التذاذية والدم ينزف من أنفه، نعتوه" البوهالي المجنون"...أغمي عليه... فبدا له ثور ضخم يخرج من الصندوق يكسو جلده شوك وسهام، يركض مخترقا سردابا لانهاية له، يقترب منه شيئا فشيئا فلاذ بالفرار بين الشوارع والأحياء مرددا:
-"بورا..تورا..بورا".. الثور يلحق به وهو يركض هنا وهناك يحاول الاختباء منه مرددا:"تورا..بورا..بورا..تورا"، فجأة يجد نفسه مرتميا بجانب سور المحكمة العتيق، مستلقيا على فراشه البالي يئن من ألم الكدمات، لم يكن يعلم أن لعنة الصندوق لن تبرح الوادي والساحل والجبل فأهل الحي أوسعوه ضربا.. رجموه بالحجارة دون محاكمة..
-"محكمة"..
- باسم العدالة نفتتح الجلسة والكلمة للمدعي العام.
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، إن محامي الدفاع حاول استعمال جميع الحيل القانونية والغير القانونية والطعن في الأركان المادية للجريمة، والتقليل من قوة العلاقة السببية في القضية، لإقناع محكمتكم الموقرة ببراءة هذا المتهم؛ والتشكيك في الدلائل المقنعة التي بين أيديكم، محاولا الوصول إلى فرضية الشك الذي يفسر لصالح المتهم، مستعينا بشهادة طفل أصم وأبكم ومرة أخرى بشهادة أرملة وهذا لن يغير من مجرى العدالة شيء، كون اعتراف المتهم يعتبر سيد الأدلة والدوافع الجلية وراء إقدامه على ارتكاب جريمته النكراء، وعليه أناشد عدالتكم أن لا تأخذكم الرحمة بهذا السفاح الخطير؛ وتطبيق أقصى العقوبة عليه، ليكون عبرة لغيره.
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، ليس العدل أن نطالب بتطبيق المواد القانونية والتشديد على تنفيذها نصا ثابتا لا يقبل التأويل، فالعدالة يا سيدي قوانينها روح للحق تحتضنه وتنصهر معه؛ كالتبر حين يماط عنه التراب هو الحق الذي لا يراد به باطل، فكل يشرفه الحق يبجله ويؤيده، بغض النظر عن منابعه العذبة من أين تفيض، إن كانت تروي النفوس الظمآنة المتشوقة لإحقاقه، حضراتي القضاة حضراتي المستشارين، لقد تم التوصل من خلال فريق من المحامين الشباب إلى بعض الوقائع التي لها علاقة وطيدة بالقضية لا تنفصل عنها، مع احترامي للزميل المدعي العام..فلا يمكن للجزء أن يفصل عن الكل ومن لا يدرك جزؤه لا يترك كله.. وهذا راجع لعدم إلمام بعض أجهزة الضبط القضائي متى تستوفى الشروط القانونية لرفع بعض البلاغات إلى القضاء كأجزاء متسلسلة مترابطة صائبة بين البراهين والدلائل والأفكار والآراء، إن هؤلاء الشباب توصلوا إلى نتائج مهمة في هذه القضية رغم تعرضهم للمضايقات أثناء عملهم الجاد من أجل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة، فقبل استدعاء أحد شهود الإثبات الذي يجلس بين الحضور نطلب من عدالتكم السماح لنا أن يقبل المستشار عبد المنعم الذي يجلس بجانبكم ويمثل الحق والعدل وتطبيق القانون أن يتقدم إلى منصة الشهود.
تعالى الضوضاء داخل القاعة، وبدا الذهول على وجه "عبد الله الراجي" ومساعديه، لم يستوعبا ما الذي يجري بالضبط، فأمر القاضي التزام الهدوء وهدد بجعل الجلسة مغلقة إن لم يلتزم الحاضرين الصمت.
- إن ما يطلبه محامي الدفاع لا يجوز قانونا، ضاربا عرض الحائط ما يسمى بالحصانة القضائية، لذلك أطلب من محكمتكم جلسة مغلقة للنظر في الموضوع كما ألتمس من حضرتكم توقيع عقوبة الحبس مدة 48 ساعة في حق محامي الدفاع على ما أقدم عليه.
- نأمر بحبس محامي الدفاع 48 ساعة.. وتؤجل الجلسة..
قبل أن يكمل القاضي قراره رافعا المطرقة معلنا تأجيل المرافعة استوقفه المستشار "عبد المنعم" قبل الضرب بها وبت القرار واتجه مباشرة إلى منصة الشهود رافعا يده اليمنى ناطقا يمين الشهادة مضيفا:
- أنا المستشار عبد المنعم السملالي أعمل في سلك القضاء 30سنة؛ و من مبادئنا النزاهة و تحقيق العدل؛ ورفع الظلم عن المظلوم ومعاقبة الظالم. فإن كان مثولي على هذه المنصة سيساعد في تحقيق العدل فهذا واجب لن أتراجع عنه؛ ولمحامي الدفاع أن يسأل ما يشاء.
- سيادة المستشار..
- اسمي في هذا المنبر الشاهد" عبد المنعم السملالي" ولست مستشارا هنا، ليعلم الجميع أن على هذه المنصة تنزع الألقاب والنياشين والأوسمة لحين الانتهاء من الشهادة، وقد أقسمت أن أشهد بالحق ولاشيء غير الحق.
-" عبد المنعم" هل لكم سابق معرفة بالمجني عليها "الصوفي زينب"
- بلا أعرفها جيدا؛ كان المتهم يأتي بها إلى المنزل لتساعد زوجتي في أعمال البيت ثم تعود إلى بيتها عزيزة كريمة، و كانت ذات أخلاق عالية.
- هل زارتكم في المنزل يوم الحادث؟
- نعم اصطحبتها زوجتي إلى السوق لشراء بعض أغراض المنزل ثم رجعتا مع السائق.
- هل أخبرتك زوجتك عن حادث وقع لهما في السوق؟
- أجل أخبرتني بأن المجني عليها شاهدت سيدتين برفقتهما رجل، فاشتبهت بأن إحداهما تشبه أختها المفقودة منذ 16سنة لأن علامة مازالت على وجهها تدل عليها كما ادعت، لما اتجهت نحوهم ونادتها باسمها؛ قام الرجل بالإحالة بينهما واختفوا الثلاثة وسط الزحام، وعادت المجني عليها إلى منزلها كئيبة حزينة ليلة الحادث.
- إن محامي الدفاع قد تجاوز حدوده وأخل بالشروط المنصوص عليها، محاولا إثارة مشاعر العامة وخلط قضايا التغيب بجريمة قتل من الدرجة الأولى.
- سيدي المدعي العام إن التقرير الذي بين يدي يتضمن 3400 جريمة خطف قيدت في بلاغات الدرك والشرطة بتهمة التغيب أو الفرار من المنزل؛ وأكثر من 70جثة عثر عليها في ضواحي المدن والغابات قيدت في البلاغات الواردة على أنها انتحار.. لصالح من؟
فتح كيسا وأخرج منه مئات الصور لضحايا قد مثل بجثثهم ووضعها على منصة المدعي العام ثم أضاف...
- حضراتي القضاة حضراتي المستشارين: إن الجريمة التي نحن بصددها هي ضمن سلسلة من جرائم منظمة يجب الكشف عن مرتكبيها..! ما المجدي إن كان جهاز الأمن وجد في موكلي كبش فداء بامتياز؟ ليتخلى عن مسؤوليته المنوطة إليه بقوة القانون والدستور وهي حماية المواطن في نفسه وماله.. لماذا نحن نؤيده على هذه اللامبالاة ونصمت عن قول الحق.. ما ذنب الضعفاء والفقراء إن كان الفساد والرشوة يستشري في جهاز من اختصاصه حماية أرواح المواطنين، وليس التواطؤ مع الجناة ومعاقبة المظلوم ومكافأة الظالم على ظلمه.. إن كل هذه القضايا مرتبطة ببعضها، ومعظم الضحايا قاصرات ينحدرن من أسر فقيرة، ومعظمهن من سكان البوادي والقرى، لصالح من نتستر على الجاني الحقيقي ونحاول حجب الحقائق؟ إن هيأة الدفاع موجودة هنا ليس للدفاع عن هذا المتهم فقط، وإنما لرفع الظلم وكشف الحقيقة، إننا نطلب من المحكمة الموقرة استدعاء معالي وزير الداخلية للشهادة.
تعالت أصوات الحاضرين وعمت الفوضى داخل القاعة، تدخل حينها رجال الشرطة وأخرجوا الحاضرين من حرم المحكمة بالقوة، وألقي القبض على محامي الدفاع وسيق المتهم إلى محبسه، وأجلت الجلسة إلى إشعار آخر على أن تكون مغلقة.
احتقن الرأي العام، ونظمت مظاهرات تطالب بكشف الحقيقة..
اتصل المساعد صابر الغيلاني هاتفيا بعبد الله الراجي يسأله:
- سمعت الأخبار هذ الصباح؟ "فقاطعه "
- ما فيها غير الحروب واحد يقتل الآخر تصمكنا من كثر ما نسمعوا كل يوم يكفينا اللي حنا فيه..
- لا ..لا..مش هذا اللي قصدت ..أعلن رسميا استقالة الوز..
- شنو قلت..!؟ بغيتكم فالمكتب حالا.
سمح لهم بالدخول إلى مكاتبهم، دهشوا عندما شاهدوا مجموعة من الضباط والمحققين أوقفوا عن العمل ووضعوا تحت الحراسة، كانت مجموعة من القوة الخاصة استلمت أمن الإدارة يتلقون التعليمات من العقيد" نبيل صروف" الذي كان على رأس إدارة تابعة للشؤون الداخلية تدعى" إدارة مكافحة الفساد" تراقب وتتابع المصالح العامة سواء كانت عسكرية أو مدنية. سأل " عبد الله الراجي العقيد نبيل" وقال له:
- ما هي الأوامر والتعليمات الآن سيادة العقيد؟
- تم تغيير هيكلة هذا القسم وتقسيمه إلى عدة فروع، وتم اختيارك رئيسا له، ولك صلاحيات تخول لك تعيين من تراه مناسبا من المنتسبين؛ وما قد تحتاج إليه من الدعم سيكون تحت تصرفك، كما أننا أسسنا مكتبا في الطابق الأول تابعا لإدارتنا مباشرة للمتابعة، وكل هذه القضايا المحفوظة والمتراكمة في الأدراج مهملة في طي النسيان نأمر بإنهائها في أقرب وقت ممكن حسب الإجراءات والتعليمات المتبعة، إما بضبط الجناة..أو ردا مقنعا حول ما توصلت إليه تحرياتكم حولها، على أن يكون شرحا مفصلا كاملا عن ملابسات أي بلاغ، وجرد كل القضايا المحفوظة وإعلامنا أسباب حفظها ومرجعه مرفقا بتحصيل حاصل للوقائع والأحداث.
- علم سيدي.. لكن سيادة العقيد بخصوص الموظفين الموقوفين عن العمل؛ لقد ....
أشار إليه نبيل بيده قبل أن يتم كلامه قائالبوهالي 2-رقصة النورس - حساباتهم المصرفية تعاني من التضخم..قد تسبب.... في نقل عدوى التضخم للآخرين يجب علاجها قبل أن يتفاقم..
نظر اليه عبد الله وقال في نفسه:
- نرجو أن نكون عند حسن ظن الجميع والله المستعان.
غادر العقيد نبيل مديرية الساحل على رأس قافلة من القوة الخاصة تتحرك بانتظام متجهة إلى مقرها الرئيسي، فوجد عبد الله الراجي نفسه محاصرا بين مئات القضايا الجنائية المعقدة، مطالبا بالكشف عن حقائق سوف تأتي على الأخضر واليابس إن أميط عن مكنونها الستار، .. وأبلغ الجميع بالحضور إلى اجتماع طارئ في قاعة الاجتماعات فتم توزيع القضايا والمهام كل حسب اختصاصه، فكانت أول مهمة لهذا النظام الجديد: الكشف عن الحقيقة في قضية " الشاوش مصطفى بالعربي".
انتشرت قوى الأمن في كل أرجاء المدينة؛ وبالبحث وجمع المعلومات تم القبض على السيدتين والرجل الذي كان برفقتهما في أحد الأوكار المشبوهة، وتم جلب كل من كان متواجدا فيها إلى مديرية الساحل، وبدأ المقدم عبد الله الراجي ومساعديه التحقيق معهم كل على حدة، فمعظم اللواتي ضبطن وسئلن عن سبب قيامهن بممارسة تلك الأفعال في تلك البيوت، ورد في اعترافاتهن بأن الدوافع تكمن قصد التكسب والاسترزاق بسبب الفقر والحاجة، وهناك قلة منهن ميسورات الحال أفدن بأن الدافع هو الرغبة ولا شيء غير الرغبة والمتعة وليس المال؛ بل هن من ينفقنه بسخاء لأجل ذلك، إلا واحدة منهن أفادت بدافع الانتقام، مدعية بأنها أجبرت على الزواج من رجل عجوز في السبعينات من عمره وهي شابة فاتنة في سن الثامنة عشرة وهذا يناقض السعادة والعيش المتكافئ والمشترك وتحقيق الرغبة المنشودة التي تفرضها طبيعة المجتمع الإنساني حسب رأيها.
وجهت لهن تهمة ممارسة الدعارة والتحريض على الفجور، وتليت عليهن أقوالهن ووقعن عليها، وعرضوا على النيابة العامة في حينه لإجراء اللازم، ثم شرع مباشرة في التحقيق مع الثلاثة الذين لهم علاقة بموضوع."الشاوش مصطفى بالعربي".
- اسمك الكامل وسنك ؟
- فنيدة عمري 20سنة
- اسمك الكامل؟ … -
لا أعرف
- اسم والدك
- قالت لي لللا الكبيرة والدي اسمه عبد القادر!
- من هي لالاك الكبيرة؟
- اللي رباتني وأنا عمري سنتين وعلمتني الخدمة..
- ماهي علاقتك بالشخص الذي كان برفقتك؟
- سيدي" حمو".. ولد الباطرونة للا الكبيرة..
- أين تقيم الباطرونة ؟
- فالفيلا رقم45 حي الأمان واه معرفتيهاش.. عندها بار ليالينا...
- ماهي طبيعة عملك؟
- "قهقهت".. الطبيعة !!.. ؟ كل شيء على الطبيعة! أواه الناس كلهم كيعرفوا طبيعتي..
- أجيبي عن السؤال بوضوح؟
- نسهر مع الزبائن فالبار بوضوح.. واللي يدفع أكثر يفوز بليلة من ليالينا.. فالطبيعة يا سيدي والضو شاعل نعم أس بوضوح..
- أنت متهمة بممارسة الدعارة فما قولك؟ - يا سيدي هذا قدرنا وحنا راضيين بالمكتاب وهاذي حال الدنيا واللي مكتوب عل الجبين لازم تشوفوا العين..
- هل لديك أقوال أخرى؟
- لا
أمر عبدالله بإحضار السيدة الأخرى؛ لما مثلت أمامه ورفع عينيه إليها نظر إلى مساعديه، فكانوا متفقين على نفس الملاحظة: "الشبه الكبير المشترك بينها وبين المجني عليها":
- اسمك؟ وسنك؟
- شيرين
- اسمك الكامل؟
- اسمي الحقيقي الصوفي زهرة 28سنة
- ماهي علاقتك بالمدعو" حمو" والمدعوة فنيدة؟
- المدعو" حمو"ولد "اللا الكبيرة".." الباطرونة" و"فنيدة" صاحبتي فنفس العمل فلبار والبيت.
- أين تقيم أسرتك؟
- دوار الشايب
- ما سبب مغادرتك دوار الشايب؟
- تخطفت من الدوار ملي كنت صغيرة وحبسوني بعد ما غتاصبوني وعملوا فيا اللي بغاوا(صمتت قليلا ثم تابعت الكلام وكأنها تذكرت شيئا كانت قد تناسته).. وتصور معايا يا سيدي بنت عمرها سبع سنين كيف غادي يكون حالها إلى تعرضت لهاذ لعذاب وأنت عارف.. تعرضت الأقسى العقوبة إلى رفضت نام مع الزبون كيهددوني باش انتقموا من كل عائلتي إلى حاولت نهرب... ومعايا بنات آخرين واقع ليهم اللي واقع لي ومازالوا محبوسات كايعانيوا من القهر وقلت الحيلة وكيستناوا الله يحن أما العبد ما بيده حيلة..
- من يهددك؟
- " حمو" واللي معاه..
- من قام باختطافك من دوار الشايب؟
- عمي عياش باعني لواحد وهو بدوره باعني لباطرونة".. - كيف؟
- ملي كاتجيب البنت الجديدة كتغلق عليها الغرفة وتخليها بلا ماء ولا أكل لمدة يوم أو يومين ومرة مرة يدخل عليها واحد ينام معاها بالقوة وكتخيرها بين الأكل والماء مقابل تسمع أوامرها لمدة شهرين أو أكثر وهكذا البنت ما يكون عندها خيار.. تعيا ما تقاوم ولكن مهما كان تحملها ما تقدر تقاوم العطش والجوع وشويا بشويا كتخضع لكل أوامر الباطرونة بدون ما تفكر وهاذ الطريقة كتخضع واحدة منا عيات ما تعاند وفالأخير توفات وما عرفناش كيف ماتت مسكينة الله يرحمها..
- هل هناك شهود في ما تدعينه؟
- نعم ...
- لقد تم ضبطك في بيت دعارة، ما سبب تواجدك هناك؟
- "الباطرونة" لللاالكبيرة وابنها حمو كيرغموني على ذاك الشي مع أشخاص مختارين عندهم وبعد ما يقضيوا فينا حاجتهم "يعزك الله" كيردوني البيت اللي حابسينا فيه.
- ما صلتك بالباطرونة الكبيرة؟
- هي اللي شراتئي أول مرة من عند اللي خطفني من الدوار من بين والديا وخوتي..
- هل معكما فتيات أخريات في المنزل؟
- نعم أسيدي، حنا مجموعة من البنات موزعات على بعض المنازل؛ وما نقدرو نخرجوا غير مع ناس مهمتهم حراستنا.. يمكنهم فعل أي شيء باش اعاقبونا إلى تلفتنا يمين ولا يسار أو حاولانا نستنجدوا بالناس يكون مصيرنا الموت.. يقتلونا بدم بارد.. واحدة منا أسميتها "فتيحة" وصغيرة فالعمر من حسن حظها على غفلة من الحراس جرات لباب المسجد ورمات نفسها بين رجلين الناس وهم خارجين من الصلاة وحماوها منهم أولاد الحلال وردوها لوالديها.. ولكن مع الأسف أهلها ما عملوا والوا وانتم عارفين ناسنا يفضلوا موت المرا حتى إلى كانت مظلومة على لفضيحة والعار وهكذا "العين ما شافت ولا قلب وجع".. ومن ذاك اليوم تمنع علينا الخروج حتى الحمام اللي كنغتسلوا فيه كندخلوا ليه بعد ما يغادروه النسا كلهم...راه يا سيدي هاذ الناس عصابة وقتالة ما يقدر عليهم غير الله.. وعلاه فينكم 16 عام هاذي وفين الحكومة.؟. علاه ما عندكم خبار !؟...
- هل تعرفين أين تقيم حاليا المدعوة "فتيحة" التي ذكرتها في أقوالك ؟
- نعم أسيدي كانت قبل ما تهرب حكات لي كل شيء..على أهلها وفين كتسكن.. من حسن حظها عتقوها رجال لبلاد أما كانت نية الباطرونة تخرجها برا البلاد على ما سمعت..
- ما هو موضوع شكواك إذن؟.. وهل تشتكين على أحد معين؟
- نعم أسيدي كنشتكي على" الباطرونة" الحاجة لكبيرة و ولدها" حمو"؛ على ما فعلوه بيا كل هاذ السنين وما كفاهم ابيعوا فلحمي كل يوم على قبل الفلوس.. و كنشتكي حتى على عمي "عياش" إلى باقي على قيد الحياة والى مات حسابو عند اللي خلقو.. ما عمري نسامحو على هاذ الفعلة لأنه هو السبب فكل ما جرى لي وكانطالب من الأمن حمايتي بعد ما الله بين الحق ونصف المظلوم..
- ذكرت في أقوالك بأن هناك فتيات محتجزات في منازل أو قد حبست حريتهن في أماكن محددة هل يمكنك الدلالة على تلك المنازل التي تتواجد فيها الفتيات التي ذكرتهن؟-أفهمناها-"
- يه أسيدي.. علاه شكون اللي ما كايعرفهومش.. الشرطي اللي عندك واقف حدا باب هاذ المكتب دايما جاي يقضي غرض ببلاش علاه ما قاليك والوا؟
- أجيبي على قدر السؤال.. "فتبادل الثلاثة النظرات حول ما صرحت به السيدة في أقوالها عن الشرطي"..
نادى عبد الله الشرطي الواقف أمام المكتب فسأله متعمدا عن زميله الذي سوف يحل مكانه بعد انتهاء ساعات عمله، فلاحظ أن الأخير لم ينظر إلى السيدة كما هو الحال لأي شخص يدخل المكتب من موظفي القسم، لكنه حاول لمحها بطرفي عينيه، فاحمر وجهه خجلا محاولا صرف نظره عن عبد الله والتركيز على مساعديه حينما أجابه عن اسم الشرطي الذي سيخلفه في الحراسة، فناوله عبد الله مفتاح القيد اليدوي وأمره متعمدا بأن يحرر معصمي المتهمة منه، لكنه ارتبك حين محاولته فك القيد وسقط المفتاح من يده ولم يتمكن من خلعه بشكل صحيح، بينما هي تظهر ابتسامة ماكرة وتميل برأسها إليه محاولة لفت نظره، لكن الشرطي تعمد تجاهل السيدة أو التظاهر باللامبالاة لكنه لم يستطع حجب وجهه المتورم احمرارا وخجلا ولم يقو على منع جبينه من التصبب عرقا ومما زاد الأمر تعقيدا انصرافه من المكتب دون أن يرد مفتاح القيد لصاحبه، أو تلقي الأمر بالانصراف كما هي العادة المتبعة والمترسخة في ذهن الجميع، فكانت تصرفات الشرطي بالنسبة للمساعدين صابر جسوم وأحمد الغيلاني فرجة للخروج شيئا ما عن زخم التحقيق فقال صابر:
- مسكين الشرطي ما عرف باب المكتب فين كان غادي يخرج من النافذة تعب من كثر الوقوف حدا الباب
فأجابه صابر..
- الله يكون فعونه تعب مسكين تعب.. تعب.. بزاف لكن عبد الله لم يبد أية ردة فعل حول الموضوع بل لمح مساعديه بنظرة مفادها أن يكفا عن ما هما فيه لكنهم تأكدوا بأن ما قالته الصوفي زهرة صحيح وبأن المذكور يعرف الشيء الكثير عن تلك الأوكار، لكنهم تغاضوا عن معرفة المزيد منه، أو إثارة الموضوع معه إلى حين، ثم واصلوا التحقيق بسؤال عبد الله لها قائلا : - هل علمت بأحد أقاربك من القرية أو من يعرفك يتواجد في هذه المدينة؟
- لا..."فاستدركت": واحد اليوم كنت مع"فنيدة و"حمو" فالسوق، سمعت سيدة تناديني باسمي الحقيقي اللي ما كيعرفو ولا حد، التفت لعندها لكن" حمو" منعني وحال بينا الزحام قبل ما أتأكد من هي ديك السيدة؟، وملي رجعنا لدار خبرت صاحبتي "فنيدة" اللي صار فالسوق ، لكن ومع الأسف خبرت الباطرونة؛ وعاقبوني حتى قربت نوصل الموت لولا رحمة الله وقال لي "حمو" وكان فحالة بحال الثور الهايج الشر كيخرج من عينيه؛ أنه "إلى لقى ديك المرا وعرفها فين كا تسكن غادي يمحيها من الوجود" .. من غير سبب، ذنبها أنها كتعرف اسمي الحقيقي..
توقف عبد الله الراجي عن متابعة التحقيق، ونظر إلى مساعديه فلاحظ الدهشة تبدو جلية على ملامح وجهيهما فاستنتج ما يجول بخلدهما لكنه تظاهر بعدم الاهتمام آمرا الحاجب إحضار ثلاث فناجين قهوة، وأضرم سيجارة يرشفها بعمق وفي صمت...روى قليلا ثم أحجم بنظراته برهة ينفث دخانا كثيفا إلى الأعلى وكأنه لم يدخن منذ أمد بعيد... يسترق نظرات ممعنة إلى السيدة الصوفي زهرة، متأملا ملامح وجهها المتهم والبريء في آن واحد.. المبتسم والحزين، المتمرد على الحياة والشغوف إليها، كأنها صورة انطباعية حملت معها معاني المعاناة من ذلك الإنسان الوحش؛ الذي يحس رغبة المتعة واللذة في إلحاق الأذى بالآخرين من بني جنسه، ذلك الحيوان الذي يخدع الناس بإنسانيته؛ يضمر في داخله وحشا شرسا يرنو الصعود من هوة سحيقة مظلمة داخل نفسه.. جشعا متمردا ينتظر في أي لحظة ساعة التحرر والانعتاق لينقض على ضحاياه.. يلبي رغبة جامحة لا يمكن تصور مدى جشاعتها.. انه وحش داخل الإنسان..ذلك الجسم الذي يلملم أعضاءه الطين.. لا يعرف قيما أو أخلاقا أو ما تعارف عليه مجتمع البشر، لا إحساس لديه ولا شعور.. يقرأ في ملامح وجهها كبرياء الإصرار على العناد والمواجهة، يرى في جمالها البريء أحد ضحايا هذا الإنسان وليس بإنسان، والحزن والألم يعتصر فؤاده، متظاهرا بقسوة تفيض من صلابتها الرحمة والإشفاق.. تمضي ثوان كأنه الزمن توقف ليستعيد ميلاده..يفاجئها بسؤال قد اعتاد طرحه نهاية كل تحقيق:
- أنت متهمة بممارسة البغاء والدعارة فما قولك؟
- هاذ الشيء اللي تتهمني به مجبورة عليه وشرحت لكم السبب..
- هل لديك أقوال أخرى؟
- نعم أسيدي بغيت نرجع لدوار عند والديا وخوتي وبغيت حياتي ترجع طبيعية بحالي بحال الناس ونكون حرة فنفسي وأتحرر من هاذ العار وهاذ العذاب اللي أنا فيه، ولكن إلى كانوا هاذ الناس ضيعوا حياتي مرة واحدة.. المخزن والحكومة ضيعوا حياتي مرتين.. وكايتحملوا المسؤولية أمام الله وأمام الناس إلا فرطوا فحمايتي فليام الجاية.
- لك ذلك سيدتي فالقانون فوق الجميع.
تلا عليها أقوالها ووقعت عليها وأمر عبد الله الراجي باستقدام الطفل" الشاوش مصطفى بالعربي" للاستعانة به لرسم صورة تقريبية للجاني حسب تصوره، وتجهيز المكتب الخاص بطابور العرض.. وأمر بإحضار إذن من النيابة العامة للسماح بمداهمة المنازل المذكورة بدلالة الشاكية وضبط كل من فيها وتفتيشها وتحريز أي شيء عارض يخالف القانون أتناء عملية التفتيش..
وما هي إلا ساعات معدودة تم ضبط وإحضار كل من المدعوة الحاجة الكبيرة أي "الباطرونة" وعدد كبير من الفتيات ومن كانوا مكلفين بحراستهن وجلب الجميع إلى مديرية مدينة الساحل.
كانت معظم الفتيات المحتجزات قاصرات منهن الأقرب إلى سن الطفولة، تم انتقاؤهن بدقة وعناية..لا يحملن أية هوية؛ وبدأ التحقيق معهن ومع "الباطرونة" الحاجة الكبيرة وابنها "حمو" وكذلك من كانوا متواجدين داخل تلك البيوت والأوكار.
دامت التحقيقات ساعات طويلة تواصل فيها الليل بالنهار، وبعد عدة مراوغات وإنكار اعترفت"الباطرونة" الحاجة الكبيرة أنها حصلت على بعض الرضع هبة من بعض النساء خوفا من الفضيحة بدلا من التخلص منهن وإلقاء جثمانهم في أكياس القمامة شرط أن لا يراجعنها مستقبلا في ما أنجبن وعلى هذا الاتفاق بينها وبينهن مدت إلى أولئك الصبية الأبرياء يدها البيضاء في وقت كن فيه على حافة الموت دون رقيب و لا نصير ثم أحسنت إليهن لوجه الله تعالى كما ادعت.. واعترفت كذلك بأنها أقدمت على شراء مجموعة أخرى من الفتيات من بعض النخاسين السماسرة المختصين في جلب الفتيات من القرى والبوادي وتسويقهن في المدينة وقد استخدمتهن في الخان ووفرت لهن السكن والعيش الكريم وليس لها علم بما يجري في تلك البيوت الرخيصة التي تم ضبطهن فيها، كم اعترفت كذلك بشراء مجموعة من اللقيطات من أشخاص يكسبون أرزاقهم بالمتاجرة بالبشر..وأضافت أن أغلبهم عرضوا للتبني خارج الدولة في بلدان توفر العيش الكريم للإنسان لكنها لا تملك أية بيانات عن المتبنين بل اكتفت بالحصول على مبالغ مغرية مقابل كل عملية ترحيل تنفذها بالتواطؤ مع من لهم القدرة على تسهيل الإجراءات اللازمة لذلك...فكانت قائمة الصبية المرحلين الذين اعترفت بترحيلهم خارج الوطن إلى جهة غير معلومة لديها كما تدعي مهولة وتفوق بكثير ما كان يتوقعه عبد الله الراجي .. وبسؤالها شفاهة عن مصدر الثروة التي تملكها أفادت أنها يوم ضاقت بها السبل وذاقت مرارة الفقر سخر لها الله رجلا طيبا عملت عنده خادمة في منزله لكن الرجل كان شهما ونبيلا معها قبل أن يرحل خارج البلاد فوهبها كل ما يملك عندما تيقن من إخلاصها له وتفانيها في خدمته انه "شمعون القراب" صاحب المصنع وخان ألف ليلة وليلة الذي تملكه هي حاليا.. وله الفضل الكبير في ما هي فيه من نعمة ورغد العيش.. استنتج حينها المقدم عبد الله أن هذه الاعترافات صارت تأخذ مجرى آخر في التحقيق لما تتضمنه من أسرار تتعلق باختراقات أمنية غاية في الخطورة ليست من صلاحياته أو اختصاصه التحقيق فيها، لذا قرر مخاطبة الإدارة المختصة بالأمر لإجراء ما تراه مناسبا حيال الموضوع.
توقف حينها عبد الله عن التحقيق، واتجه صوب النافذة المطلة على السور العتيق فحاول الاسترخاء ولو لبعض الثواني، متأملا فضاء الأفق المظلم والغيوم الرمادية الداكنة التي تحجب عن السور العتيق ضوء القمر ولمعان النجوم، لكنها تدر قطرا نكدا غير غمر خفيف متفرق يهمس نقرات متقطعة على واجهة النوافذ المصطكة بقضبان الحديد.. إلا أن اعترافات "الباطرونة" وتظاهرها بالبراءة لم تدع مجالا لذهنه أن يستريح فقال في نفسه متحدثا عن واقع الحال: -"عجبا لهؤلاء القوم، صار بني آدم حسب رأيهم وأفعالهم سلعة تباع في المزاد قابلة للتصدير كمنتج محلي عالي الجودة.. بضاعة تعرض في المتاجر والأسواق كالخص والجرجير حين يكتمل القطاف..سوق نخاسة مزدهر له تراخيص لترويج البضاعة متى وجدت، بضاعة من لحوم البشر وأعضائه تدر الربح الوفير، تصدر إلى خليج المريخ كأكياس السكر والدقيق وعلب السردين.. لها مكان شاغر في سوق التداول لما تحمله من أسماء وشعار مستعار، مؤسسات محدودة متعددة النشاطات متخصصة في جلب اللحوم الحية الطازجة المتعددة الأشكال والألوان حسب الطلب، مهرة وفنيين ذووا كفاءات عالية في الخطف والاغتصاب والتهجير، متخصصين في تسفير الأطفال دونما أوراق أو جوازات سفر طريقة مثلى في استعباد وامتلاك البشر.. دون السبع أو حتى من كان رضيعا في المهد صبيا..مهرة في تهريب المحبطين من الطلاب والتلاميذ، يكدسون أجسادهم في زوارق تفوح منها رائحة الموت غرقا على قارعة الأمواج العاتية ما بين ساحل المحيط وشط البوغاز، ضحايا منهم من هوى في مياه عميقة بلا قعر؛ بعيدا على قرب مجهولا في لحد على بعد ومنهم من ينتظر، فمن حالفه الحظ ونجا كان مصيره إزاحة صخور الجبال لحفر أطول أنفاق السكك الحديدية بين براكين الألغام القاتلة والأنفاق المعتمة لتتباهى بها بعض البلدان كدليل على قوة الحضارة والرقي .. وآخرين منهم يكون مصيرهم حصاد الأشواك في مزارع ليس لهم في الأرض رائحة تربتها.. أو من يمارسن توزيع الهوى للحصول على مبالغ زهيدة تجلب العار والدمار والعلل الفتاكة إلى الساحل والمدينة..
جماعات متخصصة في توزيع القاصرات محليا ودوليا من أجل توفير المال على حساب الأبرياء وإغراء أحلامهم الفتية بوعود مزيفة، تارة تتخذ أسلوب الترغيب في الإقناع وعند تجاوز الحدود أسلوب التنكيل والترهيب..جماعات مترابطة متماسكة يشد بعضها بعضا لتجثم بأذرعها المتصلة مستعينة بتقنية الاتصالات كالأخطبوط العملاق لتجثو على أمم يكتسحها الفقر والفساد وبيع الكرامة والذمم وشرف المهنة بدراهم زهيدة، وهاهم بعض أطرافها يتساقطون.. هاهم يتهاوون كأوراق الخريف حين تهب العاصفة، يعترفون بكامل إرادتهم دون ضغط أو إكراه، أمام صلابة وجدية من لهم غيرة حقيقية على كرامة الوطن، يجرفهم مسار التحقيق المحكم للإقرار والاعتراف عن أفعال تجرم مرتكبيها إما بالمشاركة أو التحريض أو التواطؤ مع الغير للمتاجرة بالبشر وحبس حريته دون وجه حق.."
اعترف "حمو" باختفاء مجموعة منهن؛ أو على الأرجح تصفيتهن بإيعاز منه، و قبرهن في ضاحية المدينة المتاخمة للنهر بسبب محاولتهن الفرار، ووردت أثناء التحقيق معه عدة أسماء لها صلة بالجناة تشغل مراكز مهمة في دوائر حكومية أو لها علاقة بأجهزة الأمن، فتم إدراج قائمة بأسماء المعنيين مهما كانت رتبتهم أو مكانتهم وتم إبلاغ "العقيد نبيل" والنائب العام ما آلت إليه التحقيقات، على إثر هذه النتائج صدرت الأوامر للمقدم عبد الله الراجي التحرك بالسرعة الممكنة للعثور على جثت الضحايا، ووضع حراسة مشددة على المتهمين ومنازلهم، وتحريز المضبوطات التي كان لها دور في كشف المستور، وتكفل نبيل شخصيا بمتابعة المذكورين ذوي الصلة بالوظائف العمومية.
انتشرت قوة الأمن الخاصة والدرك وأمن الغابات و خبراء الأدلة الجنائية؛ وكلاب مدربة في كشف الجثث، داخل المنطقة المتاخمة للنهر لتفتيش ومسح المكان برمته.
كانت القوة المكلفة تتحرك بسرعة بقيادة المقدم عبد الله الراجي.. أضواء اللواحات والكشافات تنير سماء الغابة الحزينة تمتزج ألوانها بقطرات المطر الغزير.. الكلاب تنبح و تركض بين الأشجار والأشواك؛ يوشك الزمام أن يقطع من أيدي مدربيها حين تغوص أرجلهم في الأوحال، وتتيه أفكارهم بين النور والظلام ودروب الغابة الوعرة.
المطر غزير والبرد قارس، الظلام الحالك يسود فضاء سور المحكمة العتيق، آثر البوهالي مغادرة فراشه البالي إلى مكان آخر تعود فيه الحصول على وجبة ساخنة وقليل من الدفيء، إنها قلعة منفردة بين الساحل والجبل، تعرف بحانة الصيادين، نصف بنيانها الشاهق شيد على حافة الصخور بين الماء واليابسة، تارة تقسو الأمواج على جدرانها العالية وتشتد، وتارة تحنو وتلين.. يلقى ترحابا خاصا من صاحبها، جلس على كرسي قريب من الباب، قدمت له النادلة وجبته الشهية ومشروبه المفضل دون محاسبة، كان المكان ملجأ له من الظلام والمطر الغزير المتساقط وشارع المحكمة الطويل الذي نصبت على جنباته أعمدة النور الخشبية المتباعدة؛ يأتي ضوءها خافتا كوهم طيف يداعب عتمة السكون، وسبيلها موحش بعواء يخترق فضاء الصمت، مخيف حين وميض البرق ودوي الرعد وهطول المطر.
هنا على أجمة هذا الركح، الطاولات والكراسي الخشبية موزعة بشكل عشوائي في القاعة الفسيحة، الجهة الأمامية مرتفعة عن الأرض؛ تتوسطها منضدة طويلة وقطعة من شباك الصيد تفصل الأرض عن السقف، تتدلى من خلالها طيور النورس المحنطة وأدوات الصيد العتيقة، حراب وحبال ومقود سفينة.. الجدار الأيمن رسم عليه منظر بحر هائج وحوت ضخم محنط يحمل سفينة على ظهره، ضوء أحمر خافت وأصوات طيور النورس يعلو شيئا فشيئا يملأ المكان.. خمس زبائن يجلسون حول المنضدة متقابلين خلف رفوف عليها قوارير مختلفة الألوان والأشكال، تتوسطها نافذة مغلقة، والبوهالي في الزاوية اليمنى وقد أحضرت له النادلة وجبة أخرى مفضلة لديه فتسمع طرقات متتالية تليها ثلاث طرقات على إثرها يفتح الباب، يدخل رجل مسن يرتدي معطفا ويضع قلنسوة على رأسه؛ يجلس في وسط القاعة يتابع ما يدور حوله باهتمام دون أن يطلب شيئا، بينما البوهالي منشغل بوجبته غير عابئ بما يدور من حوار بين الزبائن الخمسة، تسمع طيور النورس وهدير البحر تلتطم أمواجه بقوة وعنف على شفير الصخور المحاذية للقلعة، تقف النادلة خلف المنضدة تسقي زبائنها وتصغي باهتمام لما يدور بينهم من نقاش: الأول:"- خرجنا يوما للصيد وصادفنا لون البحر أحمر.. أجلنا رحلة الصيد"
الثاني:"- كان الفلاح حينها يصنع قاربا لأن أيام الحرث اقتربت"
الثالث:"- يقال أن "هول اكو" عندما احمر ماء البحر كان يتجول في الشوارع المجاورة خلف الساحل الغربي من النهر"
الرابع:"- زار نيرون في حصنه قبل مجيئه.. كان غاضبا.. جدا.."
الخامس:"- عندما يحمر ماء البحر تؤجل الرحلة، لابد للفلاح أن يصنع قاربا للنجاة فموسم القطاف قد اقترب"
الأول:"- الفلاح باع..
الجميع باع..؟ 
الأول: باع بقرته الدلول.. اشترى محراثا بثمنها قبل موعد الإبحار.. فالمناجل يزداد ثمنها إبان موسم الصيد"
الثاني:"- يبحث عن زوجتين اثنين قبل مجيء الطوفان"
الثالث:"النيران تراجعت عن التهام المدينة فعمها الطوفان"
الرابع:"هل كانت وحيدة ؟"
الخامس:" كان قيس قد أحبها قبل أن تخونه"
قهقهت الفتاة وأضافت: "سوف أزيد ك كأسا على حسابي لأنك عاشق"
الأول:" عاشق..!؟ لو كان الحب رجلا لقتلته"
الثاني:" عندما يبكي يكون ضعيفا وعندما يتجلد يكون مستحوذا وجبارا ترقص الحيتان عارية تحت قدميه فأنا للفلاح اصطياده حينئذ"
الثالث:" نحن الصيادون نغتال السمك ولا نقتل الحب بل نشفق عليه"
الأول:"آه ليتني أراه.. آه لو أمسكه بيدي هاتين لكان لي معه شأن آخر..
الثاني:- آخ ليت الحب والكره ليسا خيالا ..
الثالث:- لكن الخوف يمكنه التحول إلى نقيض كالقرش من خوفه يهاجم بكل شجاعة...
الخامس:- أو من شدة الجوع يقاتل بشراسة.
الأول-.فأيهما الأرجح الخوف أم الجوع أم كلاهما خيالا ..؟
الرابع: أو ليست سوى أسماك تسبح في قعر المحيط؟"
الثاني:" إنها تماثيل عملاقة لآلهة انقرضت في قعر بلا... قاع"
الجميع : قاع..؟
تعود أصوات النورس من جديد؛ وكأنها تقترب أكثر فأكثر من المكان، والموج يرتطم بالصخور ويعم السكون. تفتح الفتاة النافدة فينطفئ ضوء القاعة وينير خلف النافذة..إنه حاجز حديدي يظهر خلفه رجل يجلس على السرير كأنه البوهالي في هيأته يعزف على الكمان، موجها نظره داخل القاعة.. تختفي المنضدة الطويلة والزبائن الخمسة وتتغير الإنارة في حين ينزل كرسي من الأعلى باتجاه دائرة مشتعلة ودقات مطرقة على السندان..في الواجهة صورة حية لمدينة قديمة تحترق.. وإطار مستدير لظل امرأة تصارع ألم المخاض.. عازف الكمان وسط الصورة المشتعلة يعزف لحنا تتناغم على إيقاعه ألسنة اللهب تلتهم المدينة القديمة، يشتد المخاض لتأتي الولادة عسيرة، يهدأ العزف بطيئا فتخبو النيران، يعم الصمت..وتنطفئ الأنوار، تسمع صرخة عالية يليها بكاء الرضيع منفردا يملأ القاعة..فيطغى صوت قوي من خارج القلعة على المكان:
-"ألم أقل لك أن تحرر الأسود.. فالطرائد جائعة"
يمتزج الزئير بفرقعات السياط ونباح الكلاب المستعرة.. تعود أصوات طيور النورس من جديد وتشتعل الأنوار.. ينزل من الأعلى رجل وامرأة يلبسان لباسا يلتصق بالجسد؛ يظهران وكأنهما يحلقان عاريان ملتحمان كجسد واحد باتجاه الإيوان؛ يتدليان وإيقاع الموسيقى الهادئة إلى أن يقفا على حافته ثم يفترقان، يرقصان باتجاه مختلف كغزالين جامحين ثم يلتقيان في الوسط ، يمسكان طرفي الكرسي ويتجاذبانه يمينا ويسارا في حركات رشيقة وإيقاع السامفونية الصاخبة بتعبير جسدي ينعم بالقوة والرشاقة، فجأة تتحول الموسيقى من إيقاع صاخب إلى نغمات حالمة وتتغير الإنارة يلتحمان على إيقاعها ويرتفعان إلى الأعلى كأنهما يحلقان في السماء، مقلدان رقصة طيور النورس التي تعود أصواتها من جديد تتعالى رويدا رويدا إلى أن يختفيا ويعم الصمت والسكون، ثم يعلو ارتطام الموج بقوة، ينهض الرجل الذي يرتدي المعطف والقلنسوة؛ يفتح كيسا يخرج منه طائرا يذبحه ويرميه باتجاه الكرسي المنفرد.. تتسع بقعة ضوء دائرية تسلط نورها على الطائر الذبيح في حين عازف الكمان تحتد وتيرة عزفه خلف الحاجز الحديدي، لم يتمالك البوهالي نفسه عندما رأى الطائر يتضرج في دمه تحت حوافر الكرسي، اتجه صوب الباب مهرولا وسط الشارع المظلم.. البرد القارس والمطر، يركض بكل قواه صارخا:".. مازالت دماء الطائر تختلط بماء المطر.. دماء ومطر.. نار دمار ومطر..أين المفر أين المفر أين المفر؟ ...مطر مطر مطر..إن كل الأصوات الصامتة هنا حجر.. الحقيقة المكتومة.. صخر وحجر.. أهازيج الهول ورائحة الموت والدمار مطر.. تنهال من السماء مطر..قبور تحترق هياكلها تحت المطر..مدينة الساحل أغرقها الخوف والحزن والمطر.. ذبحت الأبابيل في المهجر مطر.. لا علم ولا خبر.. مطر.. دموع تنهمر من العيون مطر.. لا تسألوني من أنا واسألوا كل البشر..مطر مطر مطر.."... جموع غفيرة من الدراويش يدخلون تباعا من باب المحكمة المنيف وتغلق الأبواب.. يدق الباب بقوة يحاول فتحه لكنه محكم الإغلاق يعيد الكرة من جديد.. يتناول حجرا يدق ويدق ويدق لكن الستار أبى أن يسدل الحجاب عن الخشبة.. خارت قواه فسقط على عتبة أبوابه تحت وابل المطر...
مطر الرحمة غزير و نباح الكلاب وأضواء لواحات سيارات الشرطة تملأ ظلام الغابة الحزينة، الرجال يبحثون بين الأشجار وقد تم العثور على ثلاث جثت قد طمرت وسط كوخ مهجور، فكانت قريبة من السطح، أمر النائب العام بنقلها إلى الطب الشرعي والتعرف على هويتها؛ ومواصلة البحث والتحري في الواقعة وضبط وإحضار إلى حرم النيابة كل من "عياش الصوفي"والمدعوة "فتيحة" بدلالة "زهرة الصوفي" ومن وردت أسماؤهم في القضية موضوع البلاغ وعرض المتهمين عليه في حينه، لكن قبل بزوغ الفجر وردت برقية عاجلة بدرجة سري للغاية تلقاها المقدم عبد الله الراجي في مكتبه تفيد الالتزام بسرية ما توصلت إليه التحقيقات وإعلان حالة الطوارئ في صفوف منتسبي القوة وتأجيل مواصلة البحث والتحري في قضية"الشاوش مصطفى بالعربي" إلى إشعار آخر، وإيداعه كمتهم خطير تحت الحراسة لإحدى مصحات الأمراض العقلية والعصبية لحين النظر في شأنه.
تسطع الشمس الدافئة على سماء المدينة، تدب الحركة في الأحياء والشوارع، تسري في عروقها الحياة من جديد بينما البوهالى نائم بباب المحكمة العتيق لا ينم جسده النحيل عن حركة، اجتمع الناس والموظفون حوله يريدون إيقاظه.. يودون رؤيته معرقلا حركة السير من جديد، يريدون سماع مرافعة أخرى خارج القاعة بجانب السور العتيق، لكنه كجثة هامدة، تعلو محياه الحزين ابتسامته الساخرة؛ عيناه الزرقاوان الضيقتان تنظران إلى الأعلى بعيدا عمن يحدقون إلى الأرض في حزن وأسى إلى الجسد الهالك، يسمع صوتا قريبا شجيا ينشد له" يا صاح راني وسط الحملة..." يسمو عاليا .. يرى الناس من حيث لا يرونه.. يرفل حولهم بحلة جديدة، يدخل قاعة المحكمة في مظهره القديم الحديث الأنيق، يطرح على طاولة القضاء، قضية أخرى كانت قضية.. في الأدراج مازالت محفوظة.. ثم ينزع من على رقبته المنديل الأبيض يضعه على منبر الدفاع، مارا بين صفوف القاعة؛ مغادرا سرايا النيابة العامة، وحول سور المحكمة العتيق المحكم الإغلاق، يسمو عاليا فوق جموع من التفوا حوله ويداه على صدره متمسكا بهويته تاركا أوراقا طالما حيرت سكان مدينة الساحل، بطاقة التعريف الوطنية وشهادة الميلاد وعقد قران يتضمن بيانات عن مدينته ومحل إقامته هناك ...:
-الاسم:
-العمر:
-المهنة: ...إنه البوهالي إلى أمل العودة....