كان متمددا على سرير مخملي ناعم، تقلب على جنبيه يمينا ويسارا أحس الدفء؛ راودته أحلاما افتقدها منذ زمن بعيد، انقلب على ظهره ليستعيدها لكن جفنيه انفتحتا بكسل على ضوء أبيض ساطع، ينعكس من أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة داخل الغرفة الناصعة البياض، فتح عيناه يتجول بمقلتيه حول الجدران المزينة بالورود؛ ونقوش من جص تحيط بقبة مستديرة على شكل فسيفساء نحتت عليها بإتقان فواصل ونوتات موسيقية لأشهر العازفين:"موزارت ".."روسيني" فيردي".. فيفالدي ..جوهان شتراوس... في زخرفة متدرجة تصل منتصف الجدران ترتبط بلوحات فنية خالدة تصطف متسلسلة حسب تواريخ نشأتها لأشهر الرسامين:... تنعكس ألوانها الخالدة على صرح البلاط الضيق البراق كقطعة بلورية يمتزج فيها النور بالضوء، كقلادة من سلالة النجوم تنبض بالحياة لما تعكسه من حركة متناغمة ما بين النوتة واللون؛ بين السكون والحركة تثير وتطرب كلحن متناغم يحكي سر الوجود، على جانب السرير كرسي عليه آلة عودقديمة زينت بنقوش براقة من عنقه إلى صدره الرنان كقطعة أثرية من قصر الحمراء؛ عزفت الطرب الغرناطي منذ نشأته، ومصباح كالثريا يضفي على الحجرة نورا يتفاعل مع الشمس والبدر وضوء القمر، في الطرف الأيمن بالقرب من الباب مكتبة صغيرة من خشب العرعار الفاخر تلمع خطوطه الدقيقة كرمال لا متناهية، على رفوفها كتب من كل أنواع الفنون مصنفة... الجهة اليمنى باب يفتح على حوض الاستحمام.. أغمض عينيه عمدا؛ وتحسس بيديه الفراش المخملي الناعم ليتأكد من المكان، انقلب على بطنه في فتور ليرى البلاط ويتأكد، أهي الحياة؟ أم صورة تنعكس كالمرآة من الذاكرة؟ نظر إلى البلاط البراق مرة أخرى؛ رأى وجهه ينعكس فيه، شخصا آخر لم يعرف ملامحه من قبل، حليق اللحية والشارب؛ وخدين يميلان إلى الاستدارة؛ تنعدم فيهما أثر التجاعيد، وشفتين يميل لونهما إلى الحمرة، وشعر خفيف ناعم، ووجه أبيض ناصع ينضح بالسعادة ورغد العيش، ابتسم لوجهه.. لم يكن يعرف ملامحه من قبل، بدت من بين شفتيه أسنان بيضاء ناصعة تشع باللمعان، احتارت عيناه الزرقاوين الضيقتين الغائرتين بين عناء الماضي وذاكرة الحاضر.
فتح باب الغرفة وهب واقفا، دخلت سيدة تلبس لباسا أنيقا، بشوشة الوجه جميلة الملامح؛ لم تنبس بكلمة ولم تبالي بوجوده، وضبت السرير المخملي المريح، فتحت النافذة على مصراعيها وقربت الأريكة الجانبية من الشرفة، سحبت درج المكتبة وكبست أحد الأزرار فانطلق صوت الكمان تدريجيا يعزف إحدى المقاطع الخالدة لتملأ نغماتها الحجرة، أغلقت الباب وغادرت؛ استرخى على الأريكة المقابلة للشرفة يستكشف المكان.. مكان ميلاد جديد.
كانت الشرفة في الطابق الأخير من برج شيد على مرتفع يطل على مساحة خضراء شاسعة، جبال تغطيها غابات كثيفة من أشجار الصنوبر والصفصاف؛ تتخللها منعرجات السفوح؛ وأخاديد المياه الجارية، يرقص البجع وأنواع الطيور المائية على بركها الراكدة.. على قممها ثلوج بيضاء تلامس الضباب برفق تضفي على هممها مزيدا من الثلج المتدفق على رواسيها الثابتة في عمق الأرض.. كانت المقاطع الموسيقية الهادئة منسجمة والمرتفعات الخضراء، ومسارات لا متناهية مترامية لا حدود لها، هناك.. خلف الهضاب والتلال والضباب؛ كان الماضي حاضرا في ذاكرته، يجرفه بعيدا كتيار لا يستطيع مقاومته؛ صفحات قلبتها ذاكرته عن غير قصد.
قرية هادئة مطمئنة يعيش أهلها في رغد، معتمدة على الزراعة والرعي ورغيف التنور.. وزيت الزيتون الطري، والكسكس المفور اللذيذ.. والقديد المملح والسمن البلدي والعسل الحر، أنواع عديدة مما تنتجه أرض القرية وتربتها الخصبة.. حطب الغابة يغني عن رائحة الغاز، فوانيسها المنيرة لا تلزمها خيوط كهربائية صاعقة، جلساتها الساهرة حول ضوء الحطب المتأجج يبعث الدفء ويطرد الظلمة، لياليها السامرة أهازيج شعبية وقصائد، ملاحم تحكى في رقصات تعبيرية منتظمة تتسم بالرصانة والحياء، تغني عن صور أو أخبار تأتي عبر الأثير... بيوتها من الطين والحجارة نحتت بمهارة على سفوح الجبال يشد بعضها بعضا؛ فلا الرياح تعصف بها ولا المطر يجرفها عن أرضها التي تجود ولا ينقطع جودها..
على حين غرة تلوح من بعيد شاحنات عملاقة تقترب بسرعة خارقة تثير الغبار، تخترق مسالك الجبال الوعرة بسهولة، تقتحم القرية المطمئنة وتحصد كل الرجال والشباب قسرا، وبين عشية وضحاها؛ صارت القرية خالية على عروشها يكتنفها الحزن والألم وعويل النساء، وجد نفسه وسط إحدى الشاحنات تقطع به الأميال اتجاه الساحل، كانت هجرة جماعية نحو العالم الجديد؛ عالم الجن والملائكة... حشروا في سفن عملاقة تشق عباب البحر إلى العالم المجهول، لتبدأ الرحلة من جديد، إنها رحلة "الدراويش".
فتح الباب ودخلت السيدة، رتبت على المائدة أصنافا متعددة من الفواكه والطعام ثم غادرت هم بسؤالها شيئا لكن الأسئلة كانت متزاحمة على شفا لسانه، جلس حول المائدة يتناول ما اشتهت نفسه وما طابت ولذت لها عينه بتأن، يقلب نظره في كل زاوية من زوايا الحجرة حين فرغ من الأكل دخل الغرفة المجاورة.. بخار يفيض ضبابه الدافئ عطرا كعبق الورود، وحوض صغير ينبع منه الماء بقوة يساعد على الاسترخاء، استسلم للبخار والماء الساخن المتدفق بسخاء، أحس بانتعاش افتقده منذ أمد بعيد؛ تمدد في البركة العجيبة واهبا جسده لتياراتها القوية الدافئة التي تنبع من حفر صغيرة من بين مصابيح مضيئة ملونة تدغدغ أطرافه برفق قال في نفسه مداعبا فقاقيعها:"يا لها من بركة فاقت في حسنها بركة المتوكل!".. لما عاد إلى الحجرة ألقى بنفسه على فراشه المخملي الناعم وأغمض عينيه مستسلما لنوم هادىء ومريح دون أحلام مزعجة تقض مضجعه.
بزغت الشمس الدافئة، تناول وجبة الفطور وجلس على الأريكة من أعلى الشرفة يحلق بنظره في فضاء صاف لا تلبده الغيوم ينعم بالحرية والاطمئنان، بدت له السماء زرقاء كالبحر، حين كانت السفينة تقل الجموع من أهل البوادي والقرى إلى الطرف الآخر من الشط، مزدحمة بالمهجرين كمستودع ضخم لشحن الأغنام.. لحد حديدي ضخم يطفو على الماء؛ تلاصقت فيه الأجساد يحتمي الواحد بالآخر من شدة البرد القارس والصقيع، قال له صاحبه:"
- قلبي ينبئني بأن هذه الرحلة ليس من ورائها خير" نظر إليه وقال في نفسه:" إذن عاملها على قدر ذلك"، لا يود الخوض في جدل عقيم رغم إحساسه بالخوف، منذ كانت نبضات قلبه تخفق بشدة حين خطى أول درج لصعود هذا التابوت المبحر إلى المجهول، لم يستطع تحمل نظرات تنذر بالشؤم والخوف ولعنة القدر المحتوم، آثر الصعود متسللا إلى ظهر السفينة رغم صقيع يخترق العظام كسهم مسموم، وقف في مقدمتها على مرتفع حديدي، بدت له المياه تنشق ممهدة الطريق لهذا الجبل العائم إلى مصير قاتم، تذكر القرية وشفه شوق الحبيبة، رآها في قرص الشمس الآفلة في أعماق المغيب قريبة بعيدة.. بدا له احمرار الأديم في الشفق كأنه زفرات وحرقة من دمع الفراق:" آه.. لو هذا الكاسح للأمواج يهوي عميقا قبل يوم الوداع، آه.. لو هذا الغروب السرمدي المجنون بألوانه الفاتنة يعلم متى يكون التلاقي.." نظر إلى المد الذي لا نهاية له؛ خاطبه بصوت خافت عله يحمل خفقان قلبه إلى تلك المضارب بين الجبال، عبر رياح نسماتها الحب والشوق والحنين، ارتد الصوت مجيبا من هناك.. سمع وقعه بين هدير أمواج تتقفى بعضها بعضا تسير في حلقات لا تتوقف كالزمن المتمرد على خطى الأيام.. لا تتراجع كالغيب المنقلب على عقب الأقدار، ترتد تتغير كالرياح وكمصير الإنسان، سمع ذلك الصوت الناعم الرخيم يهمس له ويجيبه.. كانت جالسة على تلة خضراء تراقب مدخل القرية تنتظر في شوق زاجلا يحمل بريدا، أو طيفا يهون حرقة البعد، تترقب في صبر لحين الغروب.. كان وجهها كبدر أبيض مستدير، عينا غزال وخدان بلون الورد؛ وذقن دقيق رسمت عليه شفتين بريشة فنان مقتدر، وجيد كجيد الريم عليه مجموعة قلائد من ذهب وفضة، على جبينها طوق عقد فريد يشد الشعر الطويل المنساب على طول جسم بين الاكتناز والرشاقة، مصقول متناسق الجمال؛ ومعصمين لا تخلوان من أساور وخلاخل منقوشة على الكعبين، تلبس "الحايك" البدوي الأبيض؛ تشده من أعلى الكتف بقطعة من فضة دائرية تزر إزاره بإحكام كي لا يدعها فتتعثر مشيتها الرشيقة المفعمة بالخيلاء المتواضع.. أحست بصوته في خفقان قلبها المتسارع.. أجابته من أعلى التلة الخضراء: - لا تحزن.. أنا في انتظارك
قال:
-"قلبي جريح من فراق ولوعة
قدري كنقش على الماء ماثل"
قالت:
"- لا تحزن حبك في القلب
خالد والله ما يشاء فاعل"
قال:
"- متى التلاقي والعمر ماض
والهول من قهر الأيام هائل؟"
قالت:
"- عن الحل وأين الحلول تكون؟
هل في الحياة غير حبك واجل"
قال
"- وا كاسرة الموج هلا ترجعي
إن نزيف فؤادي كاليم سائل
قالت:
"- واحسرتاه لا بريد من الأحبة
يسلي ولا حبر منك سائل"
قال:
"- لن أنساك لن أنساك لن أنساك
هواك في القلب سهم قاتل"
قالا معا بصوت متحد تضمه رياح الغرب:
- لن أنساك لن أنساك فالحزن يوما
عن العيون راحل راحل راحل..."
قاطعهما الربان من أعلى السفينة؛ يناديه ويشير بيده فعلم أن خطبا ما يلوح في الأفق و تيقن بأن عاصفة هوجاء تقترب، دخل وسط الجموع المتلبدة كقطعة لحم متجمدة لا يكاد يميز الواحد منهم عن الآخر، حفيف الكلام المتداخل يختفي خلف هدير أمواج بدت كجبال سيرت، ترفع السفينة إلى الأعلى فترتطم بقوة على سطح الماء، ترتد المياه كسيل عارم يغطي ظهرها من جديد، تخالها سوف تهوي في الأعماق؛ اشتدت الرياح وعلت الأمواج، صارت تبحر على كف مارد جبار؛ يلتقطها طورا ويقذف بها تارة أخرى، كزورق صغير تتلقفه أنامل المياه الغزيرة؛ مرة تداعبه وأخرى تجرفه بعيدا، وهؤلاء القوم لم يركبوا البحار يوما ولا عرفوه كما عرفه الأجداد، يوم وقفوا أسودا على قمم هذه السواحل، تيقنوا وهم في كبد هذا الحوت أنها القيامة ولا سبيل للنجاة، لا طود عظيم يعصمهم من الماء ولا عنقاء أو خل وفي.. شحبت الوجوه، جفت الحناجر وجحظت العيون؛ غير آملة في الخروج من هذه الظلمات، فجأة يعلو صفير الباخرة معلنا اقتراب الميناء، اطمأنوا عندما سمعوا سلاسل المراسي الحديدية يبتلعها القعر لترسو السفينة وتتوازن على جانب الرصيف، اطمأنت النفوس قليلا وهدأ روعها، صعد الجميع ظهر الباخرة ليكتشفوا عالم الأحلام.. أرض الجن والملائكة.
دخلت السيدة إلى الحجرة وفي يدها باقة من الورود المتعددة الأصناف، وضعتها في المزهرية المزينة بنقوش وألوان هادئة، ركنتها على الرف في الزاوية اليمنى من الغرفة نظرت إليه، كان غارقا في تصفح الذكريات من الشرفة المطلة على العالم الآخر، التفت إليها بحياء؛ هم بقول شيء ردت عليه بابتسامة كأنها تستجيب لما يطلبه، وأدارت زرا انفتح له باب صغير وسط الجدار فيه طاولة صغيرة ذات أربع عجلات عليها إبريق وفناجين، قربتها منه وغادرت الغرفة، تاركة صدى الموسيقى الهادئة ورائحة القهوة الزكية تملأ الحجرة، كان يتوق إلى تذوقها؛ تناول الفنجان بكلتا يديه، أحس بأنهما تمسكان بحبلين على جسر بوابة السفينة عند رسوها في الميناء للنزول إلى العالم الجديد.
كان معسكرا ضخما مترامي الأطراف، تحيط به أسلاك شائكة؛ اجتمع فيه مئات من الذين استقدموا من المستعمرات القديمة، صفوا في الميدان ووزعوا كمجموعات مؤقتة حسب كشوفات الأسماء وترتيبها، جلسوا القرفصاء جميعا؛ وتليت عليهم بعض الواجبات والأوامر الصارمة؛ بينما أسراب الطائرات المقاتلة تحلق على ارتفاع منخفض يصم أزيزها الآذان، فرق الجيش مدججين بالعتاد والسلاح تغدو وتروح كسرايا متأهبة للقتال في أية لحظة.. أصوات الانفجارات تسمع عن قرب، كأنه ميدان معركة ضروس وحرب معلنة، اقتيد الجميع إلى مطعم شاسع يحيط به سياج مرتفع عرضة للرياح والصقيع، وزعت عليهم وجبة من الخبز والجبن والبطاطس واللحم المفروم، ثم أدخلوا الثكنات المخصصة للنوم.
كانت الثلوج تتساقط بغزارة، تغطي كل جسم ظاهر على الأرض، سطوح الثكنات المائلة على شكل مثلث؛ المركبات والقطع المصطفة على الرصيف، كل شيء أبيض مثلج وبارد.. حتى الخواطر والقلوب.. الأغطية والبرانس غير كافية للإحساس بالدفء والأمان، الألغام ودوي المدافع وأزيز أسراب الطائرات المقاتلة يشق جدار الخوف والصمت، لا ينقطع صداه يزعج السكون، استلقى على أحد الأسرة لينام ويستريح، لكن السقف الخشبي المائل يتقاطر منه الماء قطرات متتالية محدثة وقرا أشد من دوي المدافع، سأل نفسه عن الآمال والأحلام قبل الرحلة، عن أرض إحلال الروح في الجسد وبلاد الحضارة الجديدة، عاصمة البلدان الحديثة، أين جمال المدينة.. أين الشوارع المزينة والسيارات الجديدة.. أين المصانع والأبراج الزجاجية المشعة بالأضواء..؟ كلها أوهام تبددت والصحوة كانت على كابوس لا أحد يعلم إلى ماذا ستؤول نهايته، هده التعب من شقاء الرحلة البحرية الطويلة، وطابور التقسيم والإحصاء.. والخطب التنديدية المشحنة بالأوامر والتعليمات، أرهقه السهد والتفكير.. حاول التظاهر بالنوم لكنه لم يستطع، أحس بالدفء قليلا؛ غفت جفناه، لكن صافرات الإنذار المدوية لم تمنحه فرصة للنوم والراحة، فتحت أبواب الثكنات كما لو فتحت أبواب الجحيم، اقتيدوا صفا واحدا إلى العيادة الطبية قبل بزوغ الفجر، نزعت عنهم ملابسهم الواحد تلو الآخر دون استحياء كما لو خلقوا أول مرة؛ رش على أجسامهم غبار أبيض وماء بارد ينضح بقوة من خرطوم لا تستطيع مقاومته، وأدخلوا غرف الكشف الطبي للتدقيق على الطول والوزن.. وتحديد قوة بصرهم وبصيرتهم..ومدى لياقتهم وتقييم وضعهم الصحي، فتم تصنيفهم وتوزيعهم حسب ما تراه اللجنة العسكرية الطبية مناسبا، منهم من اختير للالتحاق بالجيش للتدريب على حمل السلاح؛ والذهاب إلى الجبهة الحدودية الشمالية الساخنة، أو للانخراط في مشاريع كبرى كمستخدمين لحفر الموانئ والأنفاق، وعدد محدود جدا سوف يسترد إلى بلاده فورا في سفن خاصة لأسباب غير واضحة.
كان فنجان القهوة ساخنا جدا، لم يشعر كيف تسرب إلى حلقه كاملا دون أن يحس بحرارته، ملأ فنجانا آخر واسترخى على الأريكة؛ متأملا نقوش الحجرة متذوقا حلاوة البن ونكهته الطيبة، مستمتعا بمعزوفة يقرأ نوتاتها الموشومة على قبة السقف بوضوح، ململ أصابعه ببطء كأنها كانت في متناول يده يوما من الأيام، حرك السبابة قليلا مسايرا نغمة الكمان؛ فأحس أنه يضغط على زناد البندقية في جبهة الشمال التي لا تعرف الهدوء.
كانت ساحة ساخنة استعملت فيها جميع أنواع العتاد والأسلحة المتوفرة، تغوص أرجل الجنود حد الركب وسط الجليد المتراكم، لا يستطيعون الهروب أو الاحتماء في الخنادق التي تكبدوا العناء في حفرها، كان الثلج يقيد الحركة السريعة ويبطئها، عائقا في الاحتماء السريع والكر والفر؛ والضباب الكثيف يمنع وضوح الرؤية، صاروا صيدا سهلا في مرمى القصف المتواصل من طائرات الدعم المعادية والقناصة الذين في حوزتهم المناظر الكاشفة؛ حتى الأشجار التي يمكن الاحتماء خلفها كانت بعيدة عن ميدان القتال. ساحة جرداء كاشفة لعيوب النزال، حاول التراجع لكنه لم يستطع، الجثث ممزقة.. الأشلاء محترقة بالكامل.. ورأس صاحبه من أنبأه قلبه عن الرحلة يتدحرج على أكوام الجليد، أجساد قطعت أطرافها من خلاف ضمتها حفر واحدة، لم يستطع تمييز الأصوات التي تنادي بالتراجع إلى الخط الخلفي، دوي المدافع والرصاص والقنابل الموقوتة تطغى على كل صوت، تمسك ببندقيته كمن يتمسك بعضو من أطرافه؛ يرى الشفاه تتحرك وصراخ الجنود ولا يسمع شيئا، تراجع خطوتين إلى الوراء والتفت يمينا، من كانوا بجانبه في صف واحد تطايرت أشلاءهم وتمزقت، اشتدت كثافة النيران..امتزج النحيب بالبكاء والأنين بالألم.. حاول إسعاف البعض وسحبهم من ميدان القتال، لكن وابل الرصاص وقنابل المدافع والقصف الجوي المعادي لم يبق أو يذر على أي كائن يدب حيا في الجبهة الأمامية المتقدمة، النيران الصديقة أنكى وأشد من ضراوة العدو؛ تقنص من الخلف كل من حاول التراجع أو الفرار، ألقى بنفسه في أحد الخنادق القريبة منه، صمد في مكانه يقاتل باستبسال دفاعا عن نفسه وعن من قتلوا وهم لا يعلموا لماذا حشروا في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل! قاتل بضراوة على خط النار؛ ومعه قلة صامدون ينتظرون الخلاص، لم يتمسك بالحياة ولم يبالي لما بعد الموت رغم صغر سنه على خوض أشرس المعارك وأشدها ضراوة والوقوف على حدود الموت صابرا محتسبا متحينا ساعة الحين، صمد في خندقه طويلا؛ ونجح في سحب بعض الجرحى إلى خندقه، لم يستطع سماع توسلاتهم وتركهم يحتضرون أمام عينيه، قاوم بكل ما أوتي من قوة وعناد وإصرار على المواجهة إلى أن وصلت التعزيزات من طائرات صديقة انطلقت من عرض البحر، وقطع عسكرية مختلفة كان لها الفضل في حسم المعركة.. اضطرت حينها القوات المعادية للتراجع إلى ما وراء النهر، وتم تعزيز الخط الأمامي بسرايا كانت تزحف ببطء قادمة من مواقع متفرقة.. الجثث ورائحة الموت منتشرة في كل مكان، الجرحى يحتضرون، وآخرون مستهم هستيريا جنونية من هول ما شاهدوه في ساحة القتال.. ميدان تحول فيه كساء الثلج الأبيض إلى غطاء أحمر قاني..حتى أشجار الأرز الباسقة تئن لما شهدته من سفك للدماء..تئن شاهدة على من يقتل النفس بغير نفس.. تدمع شاهدة على من قتل الناس جميعا..شاهدة على ذبح الإنسان لأخيه الإنسان بوحشية دون رحمة، من أجل مسلك مائي صنعته الطبيعة بقدرة قادر؛ مسخرا للحيوان والطير والبشرية جمعاء.. الفرق الطبية المساندة شبه منعدمة والإسعافات الأولية ضئيلة، جمعت الجثث في شاحنات خاصة كثلاجة اللحوم المستوردة، دفنت بعض الأشلاء في مكان مصرعها لتعذر نقلها قطعا ممزقة، ونقلت الأجساد المكتملة إلى العاصمة لإبلاغ دويهم بالمصاب الجلل وتشييعهم في مراسيم مهيبة، تليق بمن جادوا بأنفسهم وبأرواحهم إكراما من أجل تحرير قطعة من أرض الوطن، كان التشييع وسط العاصمة في موكب ضخم بحضور القادة والجنود، التوابيت مغطاة بالأعلام يسيرون بخطوات بطيئة منتظمة في خشوع وخنوع، تعبر عن الحزن والوداع الأخير.. الجمهور الغفير يلقي الورود والأزهار على النعوش لحين وصول الموكب إلى المقبرة الخاصة بالجنود، وأطلقت البنادق بإيعاز منظم طلقات الشرف والتكريم، تلتها أسراب من الطائرات المقاتلة عابرة سماء مراسيم التشييع، تحية للأبطال المنقوشة أسماءهم على رخام مرقدهم الأخير، أما الذين قتلوا في ساحة المعركة من أهل البوادي والقرى والمهجرين، كانوا يحشرون في مقابر خاصة بهم ووضع علامة مبهمة على قبور سخرت من تضادها لحودهم.
عاد الفيلق إلى المعسكر الرئيسي في ضواحي العاصمة، وأعلن رسميا أن السرايا القادمة من جبهة القتال ستظل ثابتة في الثكنات كاحتياط إلى إشعار آخر، استعاد حياته المفقودة من جديد، صارت طوابير التحضير شبه منعدمة، والجنود منكبين على وجوههم يهيمون في مرابع المدينة ثم يعودون في وقت متأخر من الليل، كان لا يغادر المعسكر ولا يعرف ما يروج خلف الأسلاك الشائكة، يتعلم اللغات في المكتبة؛ ويتسلى بقراءة بعض الكتب..أو يحضر حصص فرقة المشاة الموسيقية وأحيانا يشاركهم العروض، لم يفاجأ حين استدعاه قائد الكتيبة إلى مكتبه وسلمه ميدالية الشرف، مرسلة إليه من قيادة الأركان عن استبساله في ساحة المعركة وتضحيته من أجل إنقاذ زملائه، كان القائد واحدا منهم قبل ترقيته، لم يحدث هذا التكريم في نفسه تغييرا كبيرا، وضع الوسام في أحد أدراج خزانته؛ وظل منزويا على نفسه غارقا في كتابة الرسائل إلى أهله وأقاربه، يقتفي أثر من هم مازالوا على قيد الحياة من أهل القرية، من قاتل أو قتل في أغوار متفرقة من البلاد.. يستمع بجفاء إلى مغامرات الجنود حول علاقاتهم المتعددة، ومقاهي المدينة ونواديها.. والحرية والرخاء الذي عم البلاد بعد توقف الحرب، وإعادة بناء ما دمرته في ظرف وجيز، أحس بفضول زائد لزيارة المدينة، التفت وراءه ملقيا نظرة على جنود الحراسة؛ وانطلق متزن الخطوات منتصب القامة يمشي متواضعا وسط الأحياء والشوارع.
كانت الأزقة ضيقة والمنازل بيضاء تغطيها أسقف حمراء مائلة، تتوسطها مداخن التدفئة.. شرفها الصغيرة مزينة بأنواع الزهور والنباتات، أبوابها متقاربة وأرضيتها النظيفة معبدة بأحجار مستطيلة متساوية تزيدها رونقا وجمالا.. كان الزقاق خاليا من المارة، صادف امرأة تسير بعناء مستعينة بالجدار، تحاول جاهدة فتح الباب فسقطت فاقدة الوعي، أسرع إليها وساعدها إلى أن مكنها من الجلوس على أريكة وسط المنزل، فاستعادت الوعي وأشارت بيدها أن يناولها الدواء الذي على الرف.
جلس على كرسي بجانبها إلى أن استردت عافيتها فنظرت إليه وقالت:
- انك تشبه ابني كثيرا ما اسمك؟ أنا مادام كوهين.
لم يجب فاستنتجت أنه يريد الاطمئنان عليها ويغادر إلى حال سبيله، لكن رموز عينيها تشير إليه بالبقاء أمسكت يده بكفيها بقوة تشتكي له في صمت ما ألم بها من عذاب الوحدة وطول المعاناة، نظر إليها بإشفاق مخاطبا نفسه: "صبرا جميلا فكلانا مبتلي".. جال بنظره في أرجاء المنزل الضيق وأحس بدفء المكان وجمالية ترتيب الأشياء فيه كان يود البقاء معها لكنه لم يستطع، فودعها بحرارة ووعدها بزيارة قريبة للاطمئنان على صحتها ثم غادر المنزل.
رغم زحمة الناس في الشوارع المزينة بالأنوار والأعلام وأقواس النصر، والبهجة والسرور التي تبدو على وجوه المارة تعبيرا عن نشوة الحرية بعد محنة القهر والاستعباد..والمقاهي والمطاعم المصطفة على أرصفة الطرقات، كان يمشي شارد الذهن يفكر في مادام كوهين الوحيدة، ليس معها في منزلها الضيق الأنيق سوى صور من افتقدتهم، يفكر في مصيرها كان حزينا لأجلها ملامح وجهها البريئة أدكت في قلبه ذكرى الأحبة؛ قالت له: يشبه ابنها المفقود، لكنه لم يخبرها أنه رأى في ملامحها والدته الحنون البعيدة عنه هناك وراء الشط الآخر من هذا العالم.. فقبل أن يتوجه إلى الثكنة عرج على صندوق البريد، لم يصدق أخيرا أن تهب عليه نسمة أخبار من القرية والأهل والأقارب، أمسك الرسالة بلهفة، متشوقا لمعرفة أخبار من يحمل حنينهم ووحشتهم في قلبه مدة طويلة، فتح الرسالة بقلب يخفق وبيد ترتعش:
ابن عمي العزيز بعد التحية والسلام:
لقد ترددت كثيرا في كتابة هذه السطور بعدما اطلعت على معظم خطاباتك التي لم تلق لها جوابا، لكن مصابنا في من نحب كان عظيما وقسوة الأقدار علينا كانت عسيرة، عاقبتنا الطبيعة بشح المياه وانقطاع المطر.. وصارت القرية بعدما كانت أسوارا عالية أنقاضا خالية تعصف بين أطلالها الرياح.. تشرد أهلها في براثين المدن الصاخبة يبنون منازلهم أكواخا من الطين والصفيح...... "
ولا تبكي يا مجدوب بلادو صدق من قال:"- اللي عندو محبوب عازو وأنت محبوبك جفاك ولا تبكي.. اللي ضاع يخلفوه الرجالة..ما يدوم حال..كل شيء غادي والدايم مولانا.. خايي كنت عايش معانا واليوم فحماك يا العالي مولانا."....لا تلومها يا سيدي لا تلومها.. محبوبتك سترها راجل كفاها شر الحال..شحال قدك ما تبكي شحال.. وصدق من قال:- "حالك يا مكواه خذاتك الغربة بخيط وصنارة هناك فبلاد بعيدة.. والشط راه فين راه.. والموت قريبة".. والدتك اختارها الله بقربه بدقة صعيبة.. وإنا لله وإنا إليه راجعون والله يرزقك الصبر على هذا المصاب.. وأستودعك الله والسلام."
لم يتمالك نفسه.. رجلاه لم تستطع الوقوف بثبات.. جلس على الأرض.. سقطت الرسالة من يده ..عبثت بها الرياح لتلتصق بالأسلاك الشائكة بعدما غرزت أشواك سطورها في صدره.. أمسك رأسه بكلتا يديه.. كل شيء يميل.. يتهاوى، يدور من حوله.. انطلقت صرخة من أعماق فؤاده الجريح..آه آه لماذا يا الهي لماذا هذا العذاب والألم لماذا..؟ آخ ليت الرصاص الطائش اخترق صدري قبل أن أشهد هذا اليوم..؟هرع إليه زملاؤه حين لاحظوا ما ألم به، ساعدوه على الوقوف.. لم يشعر كيف وجد نفسه هائما وسط الشوارع، رغم الأنوار التي تضيء فضاء المدينة بدا له كل شيء مظلم وقاتم.. لم يعرف كيف وصل منزل مادام كوهين يطرق الباب.. وكيف ارتمى على حضنها والدموع تنهمر من عينيه بغزارة.. ضمته إلى صدرها تشاركه الحزن والحسرة والدموع...
سقط كوب الماء من يده.. دخلت السيدة تحمل في يدها عددا من الأسطوانات والكتب الجديدة؛ رتبتها على رفوف المكتبة وجمعت شظايا الكأس المكسور على البلاط، رفعت عينيها إليه لاحظت مدى الحزن والحسرة على ملامح وجهه وعبرة مهراقة على خده، ترددت في التحدث إليه، لكنها غادرته تاركة الحجرة يعمها الصمت والحزن والدموع.. تناول آلة العود وبدأ يعزف تقاسيم هادئة، رفع عينيه إلى سقف الغرفة وصارت وتيرة العزف تزداد سرعة وحدة تكاد الأوتار أن تنتزع من مكانها أو تشتعل، وكأن القبة الدائرية تتناثر نوتاتها المنقوشة في فضاء المكان كفراشات مشتعلة حول جذوة الثريا الذهبية الملتهبة في قرصها المتقد، عادت السيدة حينما سمعت تلك التقاسيم، جلست على كرسي المكتبة تستمع إليه مبهورة لما يعزفه، كأنها اوركسترا متكاملة في شخص واحد.. لكن ذاكرته وأنامله هناك.. تتحرك بخفة ورشاقة على مفاتيح البيانو وملامسه في بهو منزل مدام كوهين الضيق الأنيق، كمتحف صغير لما حواه من تحف وزرابي ذات ألوان متداخلة ومتعددة، على جدرانه مجموعة من أواني فضية ونحاسية مزخرفة تتوسطه مائدة مستديرة تعلوها أقواسا من جص ثلاثية الأضلاع شبه دائرية تفصل البهو عن الممر والحجرات، نصبت على أطرافها حواجز من قطع خشبية صغيرة مستديرة، جمعت متسلسلة يشد بعضها بعضا لتشكل في الوسط فاصلا بين مجلس كأنه غرفة للضيوف بأحد منازل درب "السماطين" في الحي العتيق، يفتقر حائطه إلى لبكة الطين والتبن وأحجار الكلس وخشب الصفصاف ونكهة الزيتون عند بلوغه المجج حين ينبعث شذاه من معصرة "جنان العروس"؛ تلك الجدران العتيقة الصامدة منذ مئات السنين تستند أرجاءها المترامية على ذراعي الأطلس يحتضنها برفق ويشعرها بالأمان إبان ملازمة الثغور ومواضع الرباط.. أماكن يملأ فضاء أزقتها الضيقة المزدحمة بالبشر المتدفق صوب "زاويت لخضر" و"سيدي بلعباس"، دخان الحطب المحروق المتسلل من أفران الرغيف و"الطنجية" وغبار الأرض القاتم، القادم من عمق التراث وتعاقب الملل والنحل عبر الدروب المحمومة بنقائض الزمن المارق عن سلطة التأريخ، تشده إليه ذكرى الأم والحبيبة والحنين إلى الماضي الجميل... وبين مجلس فيه مائدة مستديرة تحيط بها أرائك قطنية يميل لونها إلى لون السقف المائل، صفت من حوله أحواض الزهور ونباتات مختلفة الأنواع، وفي الزاوية اليمنى آلة بيانو عتيقة الطراز بالقرب من مدفأة ينير حطبها المشتعل باحة البهو، وفي الزاوية اليسرى نافورة صغيرة من الرخام، نصب في وسطها تمثال لسيدة جميلة ينبع الماء من بين أناملها تنثره بالتساوي على أجنحة ستة صبية صغار يمدون أياديهم البيضاء للماء المنهمر دون انقطاع، يتقلب الأوان على صفحات أكفهم بانتظام حين تمضي الساعات والأيام والشهور، كآلة خفية تحركها قوة الماء المتدفق ليعيد الكرة من جديد كي لا تتمرد أرقامها على التاريخ المروي من بؤرة الزمن القديم إذا اعوج المورد المستقيم.. يحيط بها نبات متسلق يصل حدود سقف تتدلى من بين أركانه مصابيح ملونة تبعث نورا خافتا يمتزج بضوء اللهب المتقد ينعكس بريقه على الماء المنسكب، يضفي على المكان لون الغروب الخافت ليبعث الدفء والطمأنينة لتستمر الحياة من جديد.
كان نغما حزينا وإحساسا صادقا، تتحرك ملامسه على مفاتيحه كإيقاع يترجم نبضات قلبه وخفقان فؤاده؛ مقامات تتدفق كشلال قوي ينحدر من أعلى الجبل..أو رسالة خطت من نزيف جراحه.. كان صوت البيانو صدى يداعب لهب المدفأة في تدرجه وتموجاته يشب وهجها رقصا على نغماته، بينما "مدام كوهين" جالسة على الأريكة بقربه تستمع إلى معزوفته باهتمام..كانت ترى فيه ابنها المفقود رغم كلام تشكو لها الأوتار أنينا ما أحدثته الجراح في خاطره، كان تواجده في بيتها أياما طردت عنها شبح الاحتضار، أحبته ولا يمكنها تحمل فراقه، تأملت ملامح وجهه وهو منسجم في ضروب ألحانه كمن حملها على بساط الماضي والذكريات، سافرت عيناها الحزينتان وشفتاها المبتسمة وهو يعزف"قمر منتصف الليل" على ضوء الحطب المتأجج والنور الخافت، حملها بين أحضان ترانيمه العذبة إلى حيث اغتيلت فيها كل الأحلام الجميلة.. كانت موجودة هناك حيث التاريخ توقف.. كانت هناك حيث اللاوعي يؤسس للوعي ويشرع له، سافرت مع رقصات اللهب في زمن تنكر لنفسه الزمن، مذ محرقة الكماليات إلى محرقة الأجساد والأرواح والعقول مذ تحولت الأبدان إلى حطب الأفران"تسمع للرضف بها نضائضا"، فلا الذين يقدسون الكأس شفهم ما شفهم ولا الذين يقدسون الدم والأسفار، يتساءلون أيان يسألون عن مطحنة الخراب والدمار وخلق الفوضى بين البشر، تذكرت يوم أخرجوا من ديارهم غصبا إلى ساحات العذاب...تذكرت يوم عبرت الحدود خوفا من جحيم كان العقل فيه ضحية له، صور تمر أمام أحداق جفت من مآقيها الدموع، كان يعزف ويقرأ في عينيها كل أشكال المعاناة والأحزان، شاردة الذهن في زمن اللامعقول.. جدلية حملت أتعاب الإنسان منذ نشأته راسخة في ذاكرته..غيرت طبيعته إلى آلة يمكن تفكيكها وإعادة تكوينها من جديد، ينعدم فيها الإحساس بالشعور.. آلة عملاقة تقتات قار الجماجم وأنقاض الهياكل من عمق الأرض، كاسحة تستحوذ.. تغزو تقتل تحرق وتدمر.. كي تبقى ولا تنقرض.. تجربة تسللت من مختبرات موصومة بالعار؛ ملغومة بالحقائق المسجونة..
توقف عن العزف أعاد العود إلى مكانه، فدخل عليه رجل يلبس بذلة سوداء أنيقة وقميص أبيض وربطة عنق، وحذاء براق بنفس لون البذلة، ذو شارب ولحية شقراء خفيفة، تظهر بعض التجاعيد أسفل عينيه المتسعتين، وشعر أشيب خفيف يتخلله بعض الفراغ..حياه بإجلال:"عمت مساء سيدي" وأخرج بعض الأوراق من حقيبته الصغيرة ووضعها على المكتب ثم غادر الحجرة ولحقت به السيدة، لم يعر اهتماما إلى ما يروج حوله، كان يتأمل سكون الليل من الشرفة..استدرك تحية الرجل له؛ تلك اللكنة التي نطق بها لم يسمعها إلا في منزل مادام كوهين عندما كانت تلقنه كيف يتكلم لغتها، تذكر حينما كانا يناقشان المترادفات على طاولة العشاء ويضحكان معا عن بعض مدلولاتها، لم ينسى حينما أخبرته بلغتها أن ينام ولا يغادر حتى الصباح لكن الليل وسكونه يغريانه بالتجول في المدينة.
كانت حدائق المدينة ليلا ترفل بحلتها الجديدة، النوافير تتفاعل مياهها مع الأنوار، التماثيل العملاقة المنتصبة وسط تقاطع الشوارع تشخص في حركاتها الثابتة تعبيرا عن تاريخ المدينة ونضالها، صور نحتت على صخور كالأحجار الكريمة، يخالها تنبض بالحياة كأنها تتحرك؛ تنطق بلسان المثل، وتشير إلى لغة الواقع سوف تنطلق.. تتغنى بالثورة وتفتخر بالحرية.. كان يسير وسط الشارع الرابط بين المدينة ومقر إقامته ومازال حنين من افتقدهم يعصر فؤاده.. يسأل القمر والنجوم كأن الليل يأبى أن يحجب ستاره.. لماذا نرفض النهضة؟ نأبى الحياة.. ندوس الكرامة.. لماذا نلبسها ثوب الآخر لنضرب بها مثلا؟ كيف نصحو من غفلتنا والحمية العصبية وقول نحن من اكتشف الدورة الدموية؟ مرة نقصر رداءها حتى الركب، وطورا نكمم فاها بالتقية وأحيانا نكرمها بأسماء طائية سفسطائية، رابطة كانت أم أحلام جماعية... وما هي سوى إشكالية.. منح الإنسان حقه في الاختيار والحرية!! واصل سيره إلى الثكنة فلفت نظره بعض الجنود يتصفحون كشوفات معلقة على الجدران، فانضم إليهم فوجد اسمه ضمن القائمة التي اختيرت للالتحاق بالكلية العسكرية، غمره الفرح لم يستطع النوم والانتظار، خرج مبتهجا مسرعا إلى منزل مادام كوهين يطرق الباب فلاحظت الغبطة والسرور على محياه فعانقته دون أن تعرف السبب، جلسا بباحة المنزل وأخبرها بالأمر.. فأمسيا يتسامران طوال الليل عن الآمال والطموحات، لكن الفرحة لن تكتمل إلا بعد تجاوزه المباراة وحصوله على وثائق الهوية.. كانت تساعده وتحضر له المراجع وتوفر له المناخ الملائم لاستيعاب ما يذاكره، كانت له بمثابة قاموس يشرح ويفسر له كل ما استعصى عليه، امتنعت عن تناول الدواء لتسهر بقربه، لتوقظ فيه رغبة التحصيل والمثابرة وتطرد غفوة النوم وسهد الليل عن عينيه.. وعند اقتراب زمن الامتحان كانت متوترة أكثر منه، رافقته إلى الباب الرئيسي وظلت تنتظره طوال الوقت. كان الامتحان بسيطا وسهلا بالنسبة له، لكن المقابلة الشفوية كانت صعبة أمام لجنة من كبار الضباط ، فبعد الإطلاع على ملف سيرته والتدقيق عليه ومناقشته، اتفقوا بالإجماع على منحه الموافقة للحصول على وثائق الهوية؛ إلا واحدا منهم يلقبونه الجنود بالقط البري، لاصفرار شعره واخضرار عينيه.. وقف من مكانه قائلا بكل غضب وعصبية انتفخت لها عروق أوداجه:" أبناء الوطن أولى بالولوج إلى الكلية من قوم سيحولون عرق مجتمعنا الصافي إلى مجتمع مسخ.." فرد عليه رئيس اللجنة قائلا له:" من منحك الحق للحديث بلسان المجتمع؟ ومن هو ذالك الإنسان الذي يمنع رجلا حمل السلاح يوما للدفاع عن حرية هذا الوطن؟.. حمل نعشه على كتفه متقدما في الصفوف الأمامية أيام النكبات والمحن، يوم كنت مختفيا خلف أدراج مكتبك تشرع ما يصلح وما لا يصلح وغيرك على شفير الموت يقدمون أرواحهم بسخاء لهذا البلد العزيز.. إن بلادنا مجتمع حر، يؤمن بالحرية والعيش الكريم للجميع.. نأمرك بموجب السلطة المخولة لنا أن تغادر اللجنة فورا..وأنت أيها الجندي استحققت الفوز في الامتحان وامض في طريقك وتمتع بمواطنتك كسائر أبناء هذا الوطن".. كانت هذه الكلمات بمثابة دواء التأمت لها جراحه، أدكت روح وطنه الجديد بين فؤاده وجوارحه، هفا قلبه وسالت لها دمعة عز وفرح و نشوة انتصار، كأنها بداية لحياة جديدة في عالم يعمه الحب والسلام بين أحضان مجتمع تتماسك عناصره بقوة لأجل الحرية والكرامة والمساواة.
كانت مدام كوهين تترقب خروجه من المقابلة الصعبة، ممسكة بباقة من الورود متيقنة علم اليقين بأنه سيجتاز كل العقبات.. شاهدته قادما إليها مبتسما، فسقطت باقة الأزهار من يدها وهرعت إليه تعانقه ودموع الحزن التي أضعفت بصرها يوما صارت تنهمر شفاء وفرحا وتفاؤلا بمستقبل وردي جميل.
دخلت السيدة الحجرة لتسقي أحواض الأزهار المصفوفة على جنبات الشرفة، نظرت إليه فلاحظت الابتسامة تعلو وجهه، أحست بالسرور من أجله..فنظر إليها بإمعان متفحصا ملامح وجهها فتذكر أول يوم شاهدها فيه عندما فتحت له الباب..
غادرت ذاكرته إلى اليوم الذي قدمتها فيه له مادام كوهين قائلة له:" هذه كاترينا الجميلة سوف تقيم معنا في المنزل " نظر إليها مبتسما:" مرحبا بكاترينا الجميلة".. تمضي الساعات كسهم خاطف يخترق صفحات الأيام، كأحلام جميلة تغري بحب الحياة.. لكنها تجري كالخيل الظمآنة تنهل بشغف لتروي عطشها في مورد ماء صغير وسط صحراء قاحلة.. كالزمن إلى عمر الإنسان أظمى.. وأنا لها أن تروي ظمأ الزمن؟ كانوا عندما يجلسون حول المائدة يستمعان إلى مادام كوهين تتلو دعاءها تشكر العلي القدير على نعمته، يجيبانها آمين ثم يصغيان إلى كاترينا تشكر الله من في السماوات على رزقه، ويجيبانها في خشوع آمين، وبعدها يتلو دعاءه حامدا الله الواحد الأحد على نعمه ويقولون جميعا ربنا استجب، ويبدأ طعامه باسم الله.. كان كل واحد منهم يمارس طقوسه وشعائر دينه وقت ما يشاء، أما هو فلا يترك صلاة أو فرضا من فروض دينه إلا وقضاه، يمضون أوقاتهم إما بالذهاب إلى السينما أو المسرح، أو التنزه في حدائق المدينة والتمتع بجمالها الخلاب، أو السمر في باحة المنزل إلى طلوع الفجر..وفجأة تنقطع زيارته لهما بسبب اقتراب يوم الحفل العظيم الذي ستشهده البلاد.
كان ميدان الكلية العسكرية محاطا بالأعلام، والخريجون يرتدون الزي اللامع بأزراره الفضية ونطاقه البراق وشعاره المشع.. شكلوا طوابير متساوية في الطول والبنية، ثابتة لا تتحرك يحسبها الحضور صخورا جامدة انبثقت من جوف الأرض، فجأة وبإيعاز من القائد يؤدون سلام السلاح في حركة واحدة موحدة قوية، كأنها آلة تحركت بعد جمود ارتج لها قار الميدان كاد يتشقق، الأولى على مخزن قطعة السلاح والثانية بأقدامهم اهتزت لها البسيطة، أيقظت سبات فرقة المشاة الموسيقية لتبدأ العزف، تحركت على إيقاعها السرايا تسير في خطوات بطيئة على وقع الطبول، تدك الأرض دكا وتلتف تباعا متسلسلة كخرز القلادة، تارة إلى اليمين وطورا إلى اليسار، تحسبها قطارا يسلك منعرجات الجبال في سهولة ويسر، فلما اقتربوا من الحضور ولوا وجوههم صوب المنصة ناظرين إلى اليمين بالتحية، سائرين في نظام وانتظام ثم معتدلين في المسير إلى الأمام منتبهين، كأن الأرض تشدهم وعظمة السماء ترفع هاماتهم شموخا.. شكلوا حلقات متقابلة يداعبون قطعة السلاح بين أياديهم بخفة ورشاقة، يتبادلونها رشقا في الهواء رغم الحراب الحادة التي على رؤوسها؛ تأتيهم بالرغم وهي طائعة دون خشية من حدتها أو طعنتها في تآلف دون تخالف.. عروضا عسكرية أبهرت الحضور بحركات متزنة متحدة منتظمة وجمالية التشكيل، كأنها قطع متحركة متشابهة تسير في الميدان على وتيرة إيقاع رصين يثير الحماس ويذكي شعورا بحس عجيب، إيمانا صادقا بالتضحية والولاء، أحاسيس لا يمكن وصفها.. تلك الفواصل سرايا تتحرك كجسد واحد، تنفصل لتتجمع من جديد، تارة تشكل علما وطورا تشكل سهما تزحف بانتظام متقدمة نحو المنصة الشرفية مشكلة شعار الحرية..كانت السيدتان تحاولان معرفة مكانه بين المشاركين، لكنه لم يكن ضمن السرايا المشاركة في العرض فانتابتهما الحيرة والقلق، في حين شكلت الفواصل دوائر متماسكة، وتوقفت فرقة المشاة الموسيقية عن العزف والكل ثابت وسط الميدان.. إذ بطائرة تحلق عاليا يقفز منها مظليون يسبحون في الهواء، ينزلون تباعا وسط الدوائر.. إنهم الخريجون المتفوقون من سيحصدون الجوائز حين انتهاء الحفل، كان في مقدمتهم حين شكلوا طابورا ليواصلوا مع زملائهم عرض السلام الأخير تحية العلم والحضور، على العهد سائرين إلى الأمام بخطوات معتدلة، مقسمين على فداء الوطن وهم يغادرون من أمام المنصة الشرفية.. تلاها سرب من الطائرات المقاتلة تعبر سماء المدينة.. لأجل كل أمة ناضلت من أجل الحرية...
كان يوما خالدا في ذاكرتهم، اتجهوا إلى الثكنات يغمرهم الفرح لما حققوه من إنجاز في يوم كان عصيبا، ارتدوا ملابسهم المدنية وغادروا الكلية لاستكمال الحفل على طريقتهم، بعيدا عن الضبط والربط والأوامر العالقة في أذهانهم.. كانت مقهى لورانس مكانهم المفضل لارتشاف الشاي وقهوة البن الطيبة، يعيدون ذكرى ستة سنوات جمعتهم فيها الكلية رغم صعوبتها تركت في نفوسهم الأثر الجميل، يتذكرون طوابير العقاب الجماعي ويضحكون، كما ناقشوا تعييناتهم والمستقبل المشرق الجديد، أما هو فقد عين ضابطا في إدارة الشؤون القانونية بقيادة الأركان.. في حين كان المنزل يرفل بالأنوار والأزهار وبالونات ملونة وشموع تنير بهو البيت، وعلى المائدة كعكة كبيرة وأصناف من الحلوى والمرطبات.. كان احتفالا آخر مع كاترينا ومادام كوهين، أجمل ليلة يشعر فيها بأنه ليس وحيدا وليس غريبا عن وطنه.. رقصوا معا متماسكي الأيادي يجمعهم الحب والسعادة، الكون كله بين أياديهم، كأن الشموع المنيرة التي تحفهم تدمع فرحا وتأبى أن تنتهي قبل الصباح، حينما كان يعزف لهما رائعة جاك بريل"لا تتركيني" في لحن يمتزج فيه الحزن والفرح، إحساس بالسعادة والأمل وصبابة الحنين إلى الماضي ولهفة الطموح إلى المستقبل، يعزف ويتأمل ملامح كاترينا التي تسبح مع نغماته، تهيم في فضاء الحب؛ تهدهد جسدها الرشيق ببطء يتمايل له شعرها الذهبي الطويل المنساب، تحملها الألحان في سماء صافية على قمم عالية حيث المياه العذبة وعشق الحياة، يقرأ ما تخفيه نظرات مدام كوهين حين تسترق إليهما النظر، تتذوق روعة الكلمات بين معاني العيون وسطور القصيدة لما تكنه في خاطرها من أفكار، فأجابها مبتسما منشدا:" المسنون يتكلمون أحيانا برموش أعينهم أو لا يتكلمون أبدا"..وفي صباح الغد وهم حول مائدة الإفطار تكلمت العيون والشفاه، حين أعلن خطوبته بكاترينا بعد أن حطم جدار الخجل الذي كان يمنعه، ابتسمت كاترينا وبدا عليها الرضا والموافقة...
كانت جالسة على الأريكة بقربه بعد أن انتهت من سقي الأحواض..أحست بأنه يود قول شيء لكنه تراجع أو تردد فهمت بالمغادرة لكنه هب واقفا من مكانه مناديا:
- كاترينا... كاترينا...
أدارت وجهها والفرحة تغمرها فأجابته: - أجل أنا كاترينا
- أجل أنت كذلك.. لكن أنا من أكون؟
- أنت زوجي من افتقدته منذ زمن وهذا منزلك الذي أنت فيه.. كل شيء هنا ملك لك أنت..
كانت هذه الكلمات التي نطقت بها كاترينا كبركان صامت، أشعلت ذاكرته من جديد، أحس بوقعها في صدره كأنها تلك الصعقات الكهربائية القوية التي أدكت جسده نارا؛ سرت شحناتها في شرايينه لتستعيد نبضات قلبه عافيتها من جديد، لم يستطع ترتيب الكلمات للرد بل تداخلت الصور في مخيلته، سور المحكمة العتيق..أضواء الكشافات في غرفة الإنعاش..الأيادي والأقنعة..الدراويش يدخلون باب المحكمة المنيف..الطائر الذبيح والمطر..حانة الصيادين والموج وطيور النورس.. الكرسي العملاق حول الدائرة المشتعلة..المدينة القديمة تحترق.. الفلاح باع محراثه وأجل رحلة الصيد..الوجوه الحزينة البائسة تسير أشتاتا على قارعة الطريق..زحمة الناس في الشوارع بين الأحياء والأزقة الضيقة من الطين والحجارة الآيلة للسقوط..عبد السلام الحلايقي مازال يعزف على الربابة ويحكي حكاية الصياد..الحمادشة ينشدون:"العشية عشات والليل راح.. "... الثور المارد يخرج من الصندوق والأنعام في الحظيرة..الناس يشاهدون الكاراكوز ويشترون تذاكر ليفوزوا في لعبة الفأر..البوهالي يضحك التذاذية.. والفأر يبحث ويبحث..جحور متعددة..الفأر يبحث بين المنعرجات..البوهالي يضحك بهستيريا مشيرا بسبابته إلى الفأر.. الفأر يستقر في أحد الجحور فلا أحد يفوز بالجائزة..البوهالي يضحك ويبكي في آن واحد..أفواه مكممة وصراخ..أنين مكتوم في الأفواه.. حرب ومحراب وحراب... والدراويش مازالوا خلف الباب لم يبرحوا باب السور العتيق.. و"الشاوش مصطفى بالعربي"مازال في قفص الاتهام.. وعاد صدى صوته يسأله من جديد:
- من أنت..؟
- أنا البوهالي من حلقة الدراويش.
- من كمم الأفواه بسوط الجراح؟ - البوهالة والدراويش. - من علمك عزف العود والغناء؟
- الدراويش.
- من قطع أوتار الربابة والعود واغتصب الألحان والنشيد؟
- البوهالة والدراويش.
- ألم نقل لك إنهم ملاعين؟
- أعطني حبة نوم لأنام وأستريح.
- خذها وارحل عن ذاكرتك
ارتمى على الأريكة وأغمض عينيه واستسلم لذاكرته، بينما كاترينا بدا عليها الحزن وقلة الحيلة.. لم تستطع منع الدموع من عينيها وهي تنظر إليه مغمض العينين يتمتم:" كيف لم يدخل الجحر؟" لماذا هذا الفأر اللعين لم يدخل الجحر رغم أن الجحور متشابهة..؟
يسمع أزيز مروحية يقترب شيئا فشيئا.. جنود يزحفون وسط الأدغال بين أكواخ من أوراق الشجر و سعف النخيل..فعادت المروحية من جديد تقصف الأعشاش وتحرق الجثث وتبتلع الجنود في جوفها تباعا لتعود بهم إلى الأسطول المتمترس في عرض البحر لتحتفل الجحافل بنجاح عملية "الصقر الجريح".. رفع عيناه إلى كاترينا وقال بصوت خافت:
-" كنت هناك يا عزيزتي، لم أكن أعلم أنها لعبة الفأر.. جرذان وجنود من مختبر واحد..الأجراس للفئران والصفارة للجنود..منبه تختلف نغماته لكن الاستجابة سريعة..أما ردة الفعل دراماتيكية.. ذاك يحرمك من الجائزة، والآخر يحرم حقك في الحياة..فبدل أن تسألي لماذا لم يدخل الجحر؟ سلي الفأر كيف لم يدخل الجحر..؟ سليه ولو عز عليه سؤالك سليه فلو كان غير ذلك لأجابك.
غادرت كاترينا وتركته هائما في ذاكرته، بين ماض يسليه وأحيانا يعاتبه.. وحاضر من الزمان بدد الآتي ملامحه، تارة يستحضره وتارة يجافيه ويفارقه، فتح عيناه ليطرد عنه أشباح اليقظة لكن الحجرة بدت مظلمة، التفت صوب الشرفة ليرى النور سمع صوتا خافتا وسط العتمة كأنه قرص منير وسط الغرفة تجلت فيه مادام كوهين تخاطبه:
- أتذكر وصيتي لك عن بيتنا القديم قبل الرحيل في الحي العتيق؟..كنا نروي حديقته بماء الورد ونغرس الرمانة والزيتون.. كانت أمي لا تريد هجره سوف نعود لنسقي الكرمة قبل أن تجف..الفأس هناك وماء الغدير مازال ينبع في الحديقة..
- جفت الكرمة والزيتونة.. ونضب الماء يا أم يعقوب..
- والقرية..؟
- أطلال تعصف بين جناحيها الرياح.. تتنافس على طمرها عراقيب الرمال الزاحفة..
- لماذا رحلت إذن؟
- لابد للطير يوما أن يحن إلى فننه..إذا الحنين سرى شوقا في جسده..
- قيل أنك مفقود..
- لم أكن أعلم يا سيدتي أن لعنة الصقر الجريح ستلوثني دماءه..
- عد إلى بيتك.. إلى لهب المدفأة الدافئ ونور الموقد المتقد.. إلى آلة البيانو العتيقة معشوقتك.. إلى خزائن المال والمجد..
- سوف أسقي الضيعة بنور القمر.. أمسح دموع جدرانها العالية بوشاح الشمس، فلابد يوما من هطول المطر.
- أهل القرية باعوا الحدائق.. والرياح هاجرت السحاب والبرق.. فلن يهطل المطر..
- الرعد يدوي في سماء القرية.. يهز أركان أسوارها العالية ومازالت صامدة لن يجرفها بطش العواصف ولن يبتلعها ثغر الإعصار.. عيونها أدمعت لتسقي الضيعة..
- من يوقف رمال الشرق الزاحفة؟
- الأطلس الساهر يصدها والينبوع سوف يتفجر.. إنه نبع الحياة وإرادة الحب وجوهر الحقيقة.. سوف نصلي يا أم يعقوب.. نعزف معا تراتيل المطر.. لن أعود لن أعود لأني اخترت الأم والأهل والوطن..
جلس على المكتب، تصفح الأوراق؛ كانت تتضمن وصية عجوز له كان قد أحبها بصدق، تلك التي وجد فيها سندا له في غربته ومحنته وكانت له بمثابة من افتقدهم يوم نكبته، وهاهي الآن تفارق الحياة تاركة له كل ما تملك وأوراقا عشر على مكتبه فانهمرت الدموع من عينيه.. سحب درج الاسطوانات التي جلبتها كاترينا، وكبس احد الأزرار لتصدح نغمات راحلة بصوت احمد الحياني فجلس على الأريكة مستمتعا بالقصيدة، في حين دخلت كاترينا عالمه؛ أمسكته من يديه ثم عانقته.. راحلة معه على رحالة صبابته وحنينه، فرقصا معا على نغمات اللحن الحزين..لحنا خالدا كانت فيه رحلة العودة حزينة..إنها رحلة الدراويش.