عرض مشاركة واحدة
قديم 07 / 04 / 2008, 45 : 04 AM   رقم المشاركة : [3]
ماهررجا
ضيف
 


رد: الاعلامي الفلسطيني ماهر رجا في حوار مفتوح ضمن مدارات اللغة..

أولاً ، شكراً على هذا التقديم الذي افتتحت به الحوار. أما الحديث عن أدب الحداثة فذلك يضعني في الحقيقة أمام سؤال كبير ومتشعب ، إذا لا يمكنني أن أقدم توصيفاً ناجزاً في كلمات لموضوع يملأ الدنيا اليوم ويشغل الناس..
دعني أقل إشارات.. الحداثة أولاً لا أفهمها مرافقة لتطور الزمن حين يتعلق الأمر بالإبداع...نحن هنا لا نتحدث عن تطور علم الفيزياء أو الرياضيات أو الكيمياء العضوية.. نتحدث عن المجاز الطائر المحلق لا عن الطائرة وتطورها..
ما أعنيه بكلمة أخرى أنه ليس كل أدب حديث وإبداع حديث هو ذلك الذي يواكب اللحظة بالمفهوم الفيزيائي للزمن، وإنما كما أفهم الأمر، الأدب الحديث هو الذي ينتج بنى ورؤى شعرية متجددة بشكل دائم تتجاوز قدرة الزمن على إفنائها.. أقصد تلك الرؤى المبدعة العظيمة التي يمكنها أن تحظى بالخلود..
ثم ليس ما هو معاصر ومتغير يصبح حداثياً،
المتنبي قصيدته قصيدة بحر، أي ما يشيع تسميته بالقصيدة العامودية ذات الشطرين من حيث البناء الفني، لكنه شاعر حداثة على نحو ما على الرغم من مايزيد عن ألف عام بيننا وبين زمنه.. كذلك جون كيتس و كوليردج، وحتى شكسبير الذي مازالت روح مسرحياته حية إلى الآن...
إذكر الآن عبارات للشاعر جورج شحادة، فهو يقول: (الأثر العظيم الذي يحيا مع العصور وقد لا يموت أبداً، هو الذي يستوفي هذين الشرطين: أن "يتظاهر" بأنه حديث، أو عصريّ، وأن يكون باطل الموضة. أن تكون عليه مسحة من عصره. مجرد إغراء شكلي يضمن له أن يتظاهر بأنه حديث أي يعطيه حقّ المثول مع الماثلين في عصره، ولكنْ دون أن يُفقده ذلك أبدّيته).
هنا هذا الشاعر العميق الرؤيا يفهم الأمر ويتمثله جيداً.. الحداثة أعمق من فكرة ابتداع الكاتب لأطر وأنماط جديدة أو لهاثه خلفها.. القيمة في الجوهر..
لكن أريد أن أضيف هنا أمراً.. لا تفهم من كلامي أنني أفترض أن الحداثة قشرة خارجية.. أطار للوحة الإبداعية وحسب.. فالأبداع ابن عصره بالتأكيد وهذه حتمية..وعلى النص والكاتب أن يكونا مرهفي الإصغاء لحركة الزمن المعاصر ولأصواته وهمومه وأحلامه..
نعم ، مطلوب من المبدع أن يطور في وسائله ويجدد في الشكل والمضمون لا أن يستسيغ القديم دوماً.. القديم قال كلمته ومنها ما هو قادر على الحياة حتى اليوم.. وعلى المبدع أن يقدم مغامرته هو واكتشافه هو وأن يضيف شيئاً ما إلى ديوان الإبداع بأجناسه المختلفة..
لكن ما نراه اليوم هو شيء من المبالغة على حساب الجوهر في البحث عن الأشكال .. ثمة أفانين وبدع ترهق في أغلبها مضمون النص أو تكون على كاهله.. .. وكثيراً لا تجد مضموناً..
والحقيقة أن هناك غرائب لدى بعض الكتاب في ولعهم بطرح أشكال جديدة.. أية أشكال.. وأذكر أنني قرأت نصاً (شعرياً) تحول إلى لوحة متداخلة من الأسهم والحواشي، التي تارة تشعرك أنك أمام متاهة وتارة أخرى تقول لك (ها قد علقت في شرك الخواء).!!
إذاً ـ وهنا نقطة أخرى ـ المسألة برأيي، ليست عملاً قصدياً .. لا يجلس الكاتب فيقول أريد أن أصنع نصاً حداثياً.. وأعرف أن هناك من يفعلون ذلك وهم كثر.. هناك من يحاولون أن ينحتوا طريقة في الكتابة ، وهناك من يرون الحداثة في تهديم السابق .. ومع أنني مع فكرة التخريب والتمرد على الأشكال والأساليب المنجزة السابقة في الكتابة، إلا أنني أرى أن ذلك يجب أن يكون عن معرفة واستيعاب لأهم عوامل وثقافة الموروث الشعري السابق..
فكي يقنعني رسام بلوحاته التجريدية ذات الخطوط والألوان المبهمة عليه أن يكون قد مر مسبقاً على موروث قديم من فن التشكيل.. لا أقول إن عليه أن يكون قد تدرج بشكل دقيق في ذلك، لكن على الأقل أن يدرك ذلك الموروث ويستوعبه...

على كل حال الحديث في هذه النقطة وحول هذا السؤال يطول ويتشعب.. هذه إشارات فقط، ومع ذلك أشعر أني أطلت...
.................................................. ..
دعني أذهب إلى سؤالك الثاني..
ما يمكن أن نسميه بالهم الإنساني .. ومن ثم الهم الفلسطيني بكل عذاباته وذكرياته الموجعة، هذا رافق القصيدة الفلسطينية إن جاز التعبير وما زال..
وأنا لا أوافقك على صيغة طرح السؤال ، حيث أسميت تجربة الألم الوطني والإنساني بـ"الانعكاسات السلبية" متسائلاً عن كيفية توظيفها في النص الشعري... أفهم أنك لم تقصد كلمة سلبية بالمعنى الشائع للكلمة، لكنني أرى تلك الانعكاسات عاملاً دافعاً ورافعاً وينبوعاً ثراً للفعل الإبداعي..
لماذا أقول ذلك؟.... لو نظرت إلى الأعمال العظيمة في الإبداع الإنساني عبر تاريخ البشرية المكتوب والشفوي، لرأيت أن معظم تلك الأعمال ينبعث من الألم ومن مغامرة مواجهة غير متكافئة بين هذا الألم والهشاشة البشرية.... ذلك قد يصل إحياناً إلى أن يكون ألماً عبقرياً كما أسميته في سؤالك..
سأذكر لك أمثلة من هنا وهناك.. عد بذاكرتك إلى الأوديسة لهوميروس وما فيها من فكرة الغربة والضياع والحنين إلى (إيثاكا) تماماً كما في الحالة الفلسطينية.. أو قصائد حنين كافافي إلى الإسكندرية...
أجمل قصائد المتنبي تلك التي قالها في مصر بعد أن انهارت أحلامه.. وهناك كمثال سريع أيضاً معظم أعمال غوغول التي تتعمق في عذابات صغيرة أو كبيرة لأناس عاديين.. أعمال لتشيخوف الرائعة الجارحة الحالمة.. السياب الحزين دوماً وما أنتج لنا من الروائع..

الحكاية الفلسطينية إلى ذلك، تنطوي على ما يشبه الملحمة أو الأسطورة.. كل تفاصيل التجربة الفلسطينية الموجعة تبدو وكأنها قطعة من مخيلة أسطورة قديمة.... هنا أتحدث بالمعنى الإبداعي والواقعي.. قضية فلسطين بألامها وجراحها وذكرياتها شديدة الغرابة بحيث لا تتخيل أن أول فصولها وقع قبل ما يزيد بقليل عن سبعين عاماً.. لقد سرق وطن في وضح النهار، وقاتل أبناؤه ومازالوا بصدورهم كالشعراء المحاربين.. ماتت الأمهات في المنافي والشتات وهن يوصين أبناءهن بوطن لم يروه، وعاشت المخيمات ساطعة الحضور والحياة في ذاكرة لم تمت ولم تذبل.. هناك على مقربة منا مقابر شهداء لشبان وفتيان لم يتسلقوا شجرة الحياة ولم يتقاذفوا بثمارها ولم يختبروا الحب الأول وقررا الذهاب إلى الأضرحة مبكراً.. لعل فلسطين الحبيبة ترضى وتبتسم ولو قليلاً..!!
هذه المشهدية هي أفضل مناخ للقصيدة.. وهي قد لا تبدو واضحة دائماً في قصيدة عن الوطن تقول ما لديها مباشرة.. هذه المشهدية المعذبة أو آهة من غابتها قد تظهر أيضاً في قصيدة الحب الفلسطينية أو في نص يتحدث فيه الكاتب عن هواجس وهموم خاصة...



ماهر رجا