رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify] كان يمكنني سلوك أقصر طريق باتجاه البحر لكني فضلت السير بمحاذاة النهر ، تارة أغوص فيه حتى يصل الماء إلى ركبتي وتارة أنط فوق الصخور الملساء التي تتوسطه أو تلك التي تنتصب على ضفته . وكثيرا ما اضطررت للتعلق ببعض الأغصان المتدلية كي أنتقل إلى أرض صلبة لأتابع السير وقد شملتني رعشة من الحبور و الشعور بالانطلاق و الحرية .
كنت بين الفينة و الأخرى أسترق النظر إلى يساري حيث الأدغال الكثيفة متوقعا أن ألمح شبحا يتعقبني أو قطعة منديل مخطط بالأحمر و الأبيض .. وأتوقف فجأة علني أسمع حفيف ورق أو وقع خطوات ، فلا أجد إلا صمتا يخترقه خرير ماء النهر وزقزقة العصافير المنتشية بشمس زاهية و سماء زرقاء الأديم .
وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي أسير مبتعدا عن النهر بعدما بدا لي الطريق إلى الشاطئ واضحا ، لكنه يوغل في الجبل إلى الأعلى .. شعرت أني سأفارق شيئا عزيزا رافقني طوال رحلتي الصباحية حتى الزوال.. وهاهو الأصيل يغلف الكون بصفرته الفاقعة وأنا لا زلت أحث الخطى على سفح الجبل صاعدا بهمة و نشاط .. على كل حال ، لن يمكنني الوصول إلى الشاطئ قبل حلول الظلام ، ولا بد لي من قضاء الليل هناك في قمة الجبل إذا كنت أريد ألا أتيه في متاهة الغابة الكثيفة والظلام قد حل .
لم أقلق من ناحية مكان المبيت لأني أعلم أن أكواخ الرعاة منتشرة هنا وهناك .. هنا تبادر إلى ذهني صديقي المفضل وأحسست بشوق إليه وألم لفراقه .. ثم انهالت على ذهني ذكريات لتتوقف عند صورة حليمة وهي تعد لي الزاد . رباه كم كانت نظرتها مفعمة بالألم .. لماذا لم أصحبها معي ؟ .. على الأقل كنت سأقضي رحلتي مستأنسا ، وكانت هي ستحس بأني أهتم بها .. كانت هذه الأفكار تراودني وأنا أسرع إلى أقرب كوخ مطل على البحر بعد أن حل الظلام وصار من العسير رؤية الشاطئ .
كان كوخا جميلا و نظيفا يدل على أن ساكنه فارقه منذ زمن قصير .. إذ كان بعض العلف لا يزال مكوما عند ركن من أركانه . ورائحة الطعام تملأ جنباته .. رائحة اللبن بـ"الدشيشة" .. كل ذلك ممتزجا برائحة روث المعز .
وضعت الصرة التي تحمل بقايا زادي وتمددت لحظات على السرير الطيني وقد أخذ التعب مني مأخذه .. كانت الصراصير قد بدأت معزوفتها الليلية في استرسال لذيذ ، بينما نقيق الضفادع يتناهى إلي من بعيد ..
ربما كان من الصعب أن أذكر حلما بعينه .. إذ كان نومي مثقلا بشتى الأحلام . منها ما يضحك لغرابتها .. حلمت أن حليمة جاءت وبصحبتها غادتي الأولى ـ لا زلت أسميها غادتي .. لماذا ؟ لا أدري ـ وبصحبتهما المفضل .. كان يمسك بيد غادتي وحليمة تقدمهما لي مبتسمة .. كنت أنظر إلى الجميع باندهاش بينما كان الثلاثة يتصرفون بكل تلقائية .. ما الذي حدث ؟ وكيف تعرف المفضل على غادتي ؟ ولماذا لا تشعر حليمة بالغيرة ؟ وهذا الغادة ؟ كيف تجرأت و قابلتني وهي ممسكة بيد صديقي ؟ هل هو انتقام مني على هجري لها و اختياري لحليمة ؟ .. نظرت إلى حليمة مستفسرا فابتسمت وأخذت بيدي إلى الخارج ثم أخذت تجري حتى وصلنا إلى كوخ آخر . وهناك جلسنا نلهث .. قالت :
ـ ماذا بك ولماذا استقبلت صديقك و رفيقته بالوجوم ؟
كنت عاجزا عن النطق .. حاولت أن أشرح لها الأمر لكن لساني تجمد في حلقي .. فأمسكت بذقني تتأملني وأطلقت ضحكة رنت لها الجبال المحيطة بنا ..
ـ هل أنت نائم ؟.. ألم تشبع نوما ؟ .. استيقظ .. استيقظ أيها الكسول .
فتحت عيني وقد بهرني ضوء الشمس المنبعث عبر كوة الكوخ .. وعند رأسي جلست حليمة ضاحكة ..
ـ ماذا بك ؟ مفاجأة .. أليس كذلك ؟ ألم تسرك ؟
التفت من حولي وأردت أن أسأل عن المفضل و أشرح لها ما عجزت عن قوله منذ قليل، لكني توقفت .. لم يكن الكوخ نفسه الذي جرينا أنا وحليمة إليه .. أنا في الكوخ الذي قصدته في طريقي إلى النهر .. فركت عيني فلم يتغير شيء .. أما حليمة فلبثت صامتة مطرقة .. لاشك أنها فسرت ذهولي باستياء من قدومها .. نظرت إليها برهة ثم أطلقت صيحة تضاهي صيحتها . فانتفضت مذعورة :
ـ باسم الله عليك .. الصلاة على النبي .. ماذا جرى لك ؟
أخذتها من كتفها ، أتأملها ثم ضممتها بشدة إلى صدري .. أحسست بارتعاشها كالعصفورة التي بللها المطر يوما في عشي .
أحسست أني لا أستطيع تركها ، لكن ضمي لها كان يمنعها من التنفس بسهولة .. فتركتها ، لكن سرعان ما أخذت برأسها أدفنه في صدري وقد شملتني رعشة .. وعمتني أحاسيس شتى من حنان و شوق و ولهفة و أنس ..
نسيت للحظات أن وجهتي هي الشاطئ .. فحضور حليمة المفاجئ أذهلني عن كل شيء حتى عن الزمن .. وكم ضحكت حين أخبرتها أن الليل بحضورها جميل .. ونبهتني إلى سطوع شمس الضحى .. فضحكت بدوري وقلت ..
ـ لا يهمني إن كان الوقت ليلا أو نهارا .. أنت هنا معي .. وكفى .
حليمة جميلة .. ولها ذاك الحسن البدوي البريء الذي لا تصنع فيه .. لكنها تزيد حسنا حين تطرق خجلا أو حياء من كلماتي وخاصة حين أسترسل في التغزل بها .. أحس بها تطلب المزيد دون أن تتكلم .. وحين أتوقف .. ترنو إلي بعينين جلل نظراتهما الوجد و أبحر فيهما الشوق والوله ، فأتابع حديثي وتغزلي .. ولا أشعر إلا ورأسها مال على كتفي .. كانت تستمع بصمت لا يقطعه سوى تنهيدة عميقة .. حدثتها عن حلمي فضحكت .. وحدثتني عن رحلتها وكيف تعقبتني منذ مغادرتي للكوخ .. كنا نحكي ونعيد ما حكيناه دون أن نكل أو نمل والوقت يمضي ، فلم نشعر بالجوع إلا و الظلام يحل من جديد ..ياااه .. ألهذا الحد كنت مشتاقا إليها ؟ ..
اقترحت عليها الجلوس خارج الكوخ .. وأن نتناول عشاءنا على صخرة مسطحة هناك فنهضت تعد المكان و تفترش منديلا ثم ترتب "مائدتنا " كأحسن ما يكون .. ثم نأكل في شهية ولا نتوقف إلا إذ ضحكنا لدى تذكرنا شيئا .. أو لامتلاء فمي بالطعام .
ونعود بعدها إلى جلستنا .. هذا الليل .. أشعر أنه مختلف عن غيره .. كل شيء مختلف .. حتى هذا الصمت .. حتى نظرات حليمة وارتعاشها وهي ملقية برأسها على صدري .. وصوتها المتهدج وهمسها .. لكنها الآن في شبه إغفاءة .. أخذتها سنة و هي تنظر إلى السماء المرصعة بالنجوم .. كأنها تعيش حلما لا تريد أن تفيق منه .. تمسك بيدي وتشد على راحتي كمن يخاف أن يفلت منه شيء عزيز عليه . وتوغل برأسها في صدري كهارب من شيء يهابه .. أحس بالليل طويلا سرمديا .. ومناجاتي لحليمة لا تنتهي .. أهمس لها وأغني و أنظم القصائد وهي ساكنة لا تتحرك .. أتنهد فتجيبني بتنهيدة أخرى .. وأحدق فيها فيلفحني لهيب أنفاسها المنتظمة .. [/align]
|