ملاحظة: اخترت هذه الحلقة المتقدّمة لكي أبعد عنكم شبح الملل من الحلقات الطويلة لنصّ مراكبي.
-2-
كان القرصان صادقاً في حديثه
أخذ يرتجف خوفاً عندما اقتربنا من المكان المحدّد
سمحت له أن يختبئ في باطن المركب
وطلبت حراسته طِوال الوقت
آن الوقت يا أصدقائي
أنا ذاهب لمواجهتها .. إذا شعرتم بالخطر
انطلقوا .. ابتعدوا عن المكان على عجل
لدي مهمّة عليّ أدائها حتّى الثمالة
حتّى القطرة الأخيرة من كأس العلقم الذي كان في
انتظاري
لا تقترب؟
قاربي الصغير يقترب من قلب العاصفة
كلماتها شجّعتني للاقتراب منها
صرخت في وجهها
قادمٌ من طرف جُمانة .. اقتليني إذا شئت
أو دعيني أواجه مصيري
لم يقترب أحدٌ قبلك الى هذا الحدّ .. ماذا تريد؟
أبحث عن إجابات
كلّنا يبحث عن إجابات .. لماذا إذاً بُعِثْنا الى هذه الدنيا؟
ولادتنا مرهونة بأسئلة لا تنتهي
أبحث عن الروح سيّدتي
أبحث عن الخلاص سيّدتي
لكنّ الروح هنا تصبح أسيرة السماء
لا خلاص للروح من قبضة القدر
كيف تجرؤ على السؤال يا كافر؟
هذا وحقّ السماء تجديف!
أنا العاشق .. لن أتراجع لحظة عن مطلبي
أقتليني ربّما كان الموت دائي ودوائي
اقترب من عين العاصفة
ولكنّ .. عين العاصفة دوارها مخيف!
ألست تبحث عن خلاص الروح؟
بلا .. أبحث عن سبل الروح سيّدتي
إذاً تقدّم الى عين العاصفة .. لا تخشى هذا المصير
كان قاربي الصغير كالريشة في مهبّ رياحٍ وتيارات
مائية عاتية.
فقدت السيطرة على نفسي وعلى حَواسي
كنت على وشك الإغماء
ابتلعتني الأمواج وغبت في لجّة المياه الباطنيّ
أخذت أغوص الى الأعماق
وسرعان ما أحاط بي هدوء غامض ومُريب
كنت أخشى الغرق وعدم القدرة على التنفّس
كنت أخشى النسيان .. صدري كنز يوشك على التلف
حطّ بي الوهم في واحة تحت ثقل ملايين الأطنان من المياه
المالحة
وجدت نفسي في حديقة صغيرة ومن حولي أسماك
لا تنتهي
منها الصغير والعملاق
شاهدت وحش البحر يفتح فمه العملاق ويترك تيار الماء ينزلق
الى جوفه حاملاً قدراً كبيراً من السمك الصغير والكبير على
حدّ سواء
شاهدت زعانف ملوّنة جميلة وكنت ذات الوقت في أمان
وفجأة سمعت صوت باخرة تطلق زواميرها
وكأنّ السماء انفتحت لتصبّ أبواق البعث في آذاننا
كان رأس الباخرة غارقاً في المياه الباردة
ومن حولها زوارق زريقة تحمل الناجين في اللحظة الأخيرة
قرأت الكلمات الكبيرة المكتوبة على جانب الباخرة
TITANIC
تيتانيك تحتضر .. تيتانيك تموت
كلّ هذا يحدث الآن أمام عينيّ
في أي زمن وقعت الآن
ظهور الباخرة ليس عابراً
حدّقت في الوجود التي كانت تنتظر الموت
كانت نورا هناك بين الجماهير المجتمعة عند سطح الباخرة
نورا وقد أكل الزمن عليها وشرب عشرة سنوات على الأقل
ما الذي تفعليه هناك يا نورا؟ ولماذا شِختِ بهذه السرعة
عندها تذكرت ما قالته لي نورا يوماً
جدّتها هربت برفقة حبيب القلب الذي حُرِمَت منه طِوال شبابها
انقطعت أخبارها بعد بضعة أشهر فقط
ولم يَعُدْ يسمَعُ أحداً أخبارها
ها هي جدّتك يا نورا تغرق مع آلاف المسافرين على ظهر تيتانيك
حدّقت في وجهها الشرقيّ الحزين
كان الشوق والألم يملأ صفحات وجهها
كانت جدّتك قد استسلمت تماماً للموت
وكانت تحتضن في تلك اللحظة ذراع الحبيب
شاءت الأقدار أن يغرقا بعيداً معاً في أعماق المحيط
وللحظة بانت لمسات من الفرح على وجهها
سرعان ما أخذت الباخرة بالغرق
ومن بعيد، كان صوت المهندس يصرخ
(حتى الخالق لا يقدر على إغراق تيتانيك .. حتى الخالق لا يقدر على إغراق تيتانيك)
وغرقت الباخرة مخلّفة من حولها دوّامة كبيرة من المياه
انتحرت الأحلام في تلك البقعة من المحيط
وحلّ الصمت على عجل
شعرت ببردٍ لا يُطاق
أين أنت يا سيّدة المحيط
وجاء صوتها عابثاً .. لمَ العجلة يا قبطان؟
ثمّ جاء صوت القطّة سميّة تموء
ما الذي حدث للقاضي .. كان على ما يبدو
مريضاً
اختلطت عليّ الأمور
لم أكن أعرف في أيّ زمن أتواجد
مرّت غوّاصة تعبّ المياه بصمت
أطلقت طوربيداً شقّ المياه بسرعة فائقة وانفجر
في مكانٍ ما في البعيد
كانوا يتحدّثوا باللغة الألمانية
ثمّ أخذ أحدهم يصيح "فضيلة السلطان أطال الله عمره"
شاهدت رجالاً يلبسون عباءاتٍ ملوّنة ومزيّنة بخيوط الذهب
يركعون في حضرة السلطان
وبعد ذلك بلحظات
شاهدته يركض ويكاد ينجو من قتلته
كان ثوبه قد اتّسخ بأتربة الصحراء
وكان وجهه كالحاً وقد بدا عليه العطش
صاح فيه الفارس متهكّماً "أتهرب الآن يا جبان"
توقّف عن الركض وحدّق في وجوههم بتحدّ ماجن
وأضاف الفارس وقد سلّ سيفه
"ألست القائل: الخيل والليل..
عندها صرخت بكلّ ما أوتيت بفوّة:
أهرب يا متنبّي .. لعلّك تكتب عن المجد الغابر ..
لعلك تكتب أحجية النصر وأيقونة البقاء
نظر إليّ المتنبّي وقال: وكيف أكون متنبّياً إذا هربت يا
قبطان
عاد المتنبّي أدراجه الى دائرة الموت ليتلّقى طعنة قاتلة
مضى المتنبّي وبقينا نلعق أثر كلماته التي تاهت عبر
خريف الدهر العربي الماطر.