الأستاذة فابيولا بدوي
الهويات الجزئية : في دلالة الامتياز الأقلوي كمحتوى للدولة الفوقية
تروى عن الرئيس السنغالي السابق سدار سنغور عبارة : " الدولة عندنا هي التي تخلق الأمة". وتتم استعادة هذه الصياغة السنغورية غالبا للكشف عن خصوصية التحدي الذي واجه ويواجه الدولة المابعد استعمارية وهي تتنزل على ما ظلت النخب الموروثة عن الحقبة الاستعمارية تنظر إليه صوابا أو خطأ ككيانات طائفية وإثنية ولغوية ما قبل قومية. أولى المفارقات تكمن هنا في أن النموذج الفرنسي الأوربي الذي يشكل الخلفية الضمنية لهذه المفردات يفاجئنا حين نتذكر أن الدول الفرنسية كما في أغلب بلدان أوربا الغربية هي التي خلقت ـ أو يُعتقد أنها خلقت ـ الأمة لا العكس، وبالتالي فإن مثل هذه العبارة من حيث تريد أن تنبئ عن واقع جديد لا تزيد مبدئيا عن كشف الأرضية الذاتية التي تقف عليها كل النخب التي أشرفت على الانتقال من الاستعمار المباشر إلى الدولة المابعد استعمارية. وحدها العودة إلى المتن السياقي تبين لنا الفرق الأولي بين الدولة ـ النموذج والدولة الوريثة ومن ثم الهوة المخيفة بين المفردات السائدة والواقع الماثل. لنتذكر هنا أن أول الفروق اللامنطوقة يكمن بداهة في مستوين متداخلين، أولهما أن الدولة المابعد استعمارية بحدودها الجغرافية والمؤسسية وفي بناها الفوقية ليست محصلة صراع ـ تطور داخلي والثاني ما يعنيه انفصال النخب الموروثة عن الدينامية الداخلية لواقع مجتمعاتها وعجز اللغة الصنمية لتلك النخب عن البوح بتعقيده بل قدرة هذه الأخيرة على حجبه وتقنيعه. نفهم إذ ذاك معنى الدور الذي افتُرض أن مؤسسات الكيانات السياسية المابعد استعمارية ستلعبه لخلق جسم اجتماعي قادر على التماهي معها لانتشالها من فوقية الدولة الكومبرادورية المسوغة حصرا بمعاهدات القوى الكبرى وبالمشروعية القانونية التي تؤسسها توازنات ونصوص تلك المعاهدات. مثل هذا الدور يكشف عن وعي ما ـ مبهم أو غامض ـ بتلك الفجوة المؤسسة التي تفصل الدولة المابعد استعمارية عن قاعدتها البشرية. وهو ما سيعني في جزءء غير يسير من أدبيات المرحلة أن وحدة الأولى تقتضي حتما توحيد الثانية.
لنتساءل أولا عن الفرق الأكثر مركزية بين الدولة المابعد استعمارية وبين الدولة الأوربية كما وظِّفتْ مرجعيا. الواقع أن جدلية الدولة ـ الأمة، التي كانت في صميم تكون الفضاءات السياسية الأوربية الحديثة وبغض النظر عن حيثيات ظهور الدولة الأوربية كفاعل أصل صاغ الأمة أو العكس، تكشف أن الدولة القومية تكونت أوربيا عبر ثوراتها الصناعية - العملية والسياسية - العلمية وصراعاتها وحروبها الأهلية والقومية دون أن تكون أوربا ضحية لتحد خارجي ـ أجنبي على القارة أو على جزئها الغربي بالأخص ـ يفرض هيمنة سياسية وعسكرية واقتصادية فاعلة، بينما تكونت دول العالم الثالث ـ كما كان يقال خلال الحرب الباردة ـ في ظل هيمنة شاملة هي أولى إلإفرازات التاريخية للحداثة الأوربية بكل جوانبها النظرية والعملية. بمعنى آخر وُلدت الدولة - الأمة في زمنها الأوجي ووفق جغرافيتها السياسية الخاصة وبمقتضى مفرداتها ومرجعيتها الذاتية بينما وُلدت الدول العربية والمابعد استعمارية، بصيغة أعم، في انفصال وانفصام عن زمن قاعدتها الاجتماعية المفترضة، وُلدت كصورة بلا مادة تنتمي إلى زمن فوقي يمثل انفصاما وانكسارا يهدم وحدة زمن القاعدة الاجتماعية ومن ثم وُلدت في انفصال وصراع مع مجتماعاتها. فجاءت في أبرز ملامحها دولة الخارج أكثر مما هي دولة الداخل ومن ثم فهي في أطرها ونماذجها وحدودها دولة الخارج لا دولة الداخل.
غني عن أي تلميح أن الحركات القومية العربية أو الأنظمة التي سادت باسمها لم تدان تكوين أي نواة ملموسة للدولة ـ الأمة الجامعة بأي صورة من تلك الصور التي أسهبت في عرضها الدعوات القومية ألأولى. السؤال التلقائي هو لماذا لم تستطع الدولة القطرية العربية الحديثة في ظل فشل قيام الدولة الجامعة أن تحقق طموحها بما هي ـ بمعنى أو بآخر ـ كيان اعتباري قائم لتصبح دولة ـ أمة ؟ الواقع أن الدولة القطرية لم تفشل فقط في ردم الهوة بين مفرداتها وأنماطها الصورية من جهة وبين الواقع الذي تتنزل عليه من جهة ثانية كما لم تعان فقط من أن مجموع مكوناتها المؤسسية وُلدت قسريا وبشكل عشوائي يستجيب لمطالب الخارج لا لحقائق الداخل بل إنها استكناها لكل ذلك ظلّت عاجزة عن تجاوز إحداثياتها الأولية أي ظلّت رهينة صوريتها كمجرد آلية فوقية تحكم شعبا وتسيطر على أرض. إنها ظلت إذن دولةٌ ـ نظاما تعيش فوق الجسم الاجتماعي وعلى حسابه، تنمو خارجه وفي مواجهة دامية معه. لم يكن إذْ ذاك لأي نظام عربي مهما تغنى بالشعب وإرادته أن يطمح ولو نظريا أن يكون الوسيط الموكّل بالمعنى الروسوي بين الشعب ونفسه أي بين الشعب كمجتمع مدني والشعب كدولة أو كمصدر سيادة. ومن ثم ستأوي كل الأنظمة لتعويض هذا العجز إلى نهجي البلاغة الشعبوية وموازين الامتيازات.
وطبيعي أن البلاغة الشعبوية ستظهر أكثر لدى الأنظمة التي تسمّت بالجمهورية أو ما ماثلها. بينما كانت الأنظمة الملَكية وما في معناها أقل تمويها للجوئها إلى موازين الامتيازات. غير أن الأنظمة الأولى لم تكن عمليا أٌقل اعتمادا لموازين الامتيازات رغم آليتها الدعائية التبنيجية. كل الأنظمة العربية "سادت" و"ساست" "المجتمع" لا كشعب يشكله مجموع المواطنين بل منظور إليه كفسيفساء تجاورية من المجموعات القبلية أوالإثنية أوالمذهبية أو من سائرها جملة. ومن ثم ستصبح التحالفات والتوازنات العشائرية والطائفية الداخلية والخارجية في صلب العلاقة التي تربط الدولة بالجسم الاجتماعي المتفكك أو المفكك إلى هويات جزئية أو المشكل منها مُلاصَقَةً. وطبيعي أن الفئات الأكثر مغايرة من حيث خصوصياتها الثقافية أو الدينية أو المذهبية ستكون الأكثر شعورا أو وعيا بهشاشة ووهن التوازنات المبنية على مثل هذه الامتيازات. وطبيعي كذلك أن تبقى الانتماءات والولاءات الصغيرة هي القاعدة في التعامل داخل الفضاء العام وأن تزداد مركزيتها كلما ازدادت بوليسية وكليانية السلطة الأوتوقراطية. ففي غياب وجود حقوق مواطنية تتجه إلى الفرد كمواطن أي كعنصر تكويني للدولة وأمام بطش السلطة يحتل شحن الهويات الجزئية وتعبئتها كبؤر امتيازات موقع الوسيط الأكثر جاذبية ونفعية في التعامل مع الدولة ـ النظام. بل يصبح بعث الانتماءات العتيقة وإعادة توظيف رموزيتها الأداةَ بل رأسَ المال الأكثرَ مردودية.
من هنا يمكننا أن نخلص إلى أن الميزة الأساس بين ما يمكن أن نسميه بالكليانة العربية وبين النموذج الكلياني الذي راج الحديث عنه منذ ثلاثية الفيلسوفة حنا ارندت هو أن الدولة ـ النظام ككيان كومبرادوري معلق فوق "الأمة"، هي دولة غير قادرة على دمج الجسم الاجتماعي أو الإندماج فيه ولكنها على العكس تشرّحه وتدخل في تحالفات استفرادية مع أجزائه المفككة.
هل يعني ضمنيا الجدل الجاري عن الأقليات وعن حقوقها في البلدان العربية وجود من يتوهم أن الأكثرية أو الأكثريات ـ إن سلمنا بوجودها ـ تتمتع بحقوق ما؟ لنعترف ابتداءً أن سؤالنا هذا ليس بريئا بل يستهدف بداهة إعادة لفت الأنظار إلى أنه مهما كان المعيار أو المعايير التي يمكن أن نستدعي لتصنيف الأقليات والأكثريات في الدول العربية ومهما كانت المشروعية النظرية والمعقولية السياسية للحديث عن الأقلية مفردةً أو جمعا فمن العسير الحديث عن حقوق أقليات ما في مقابل حقوق أكثريات ما ما دامت الدول العربية المعاصرة ممارسةَ وفعلا هي بالأساس دول امتيازات لا دول حقوق. وهي من ثم دول تسود كليا رعاياها وليست دول تعبر ولو جزئيا عن سيادة مواطنيها. ففي موازاة ميزان الإرادات الاجتماعية المتنافسة "دالت" وتردّت الدول العربية الحالية وجثمت على صدور مجتمعاتها كمحض إفصاح حسابي عن ميزان القوى الردعي السلطوي دون أن تعبر ولو مجازا عن أي مستوى من مستويات شرعية الإرادة الجماعية. لم تتطابق معا الشخصية الفردية للحاكم والشخصية الاعتبارية للحكم فحسب وإنما تطابقتا أيضا مع الشخصية الاعتبارية للدولة وهو ما ألغى جذريا كل المعاني الممكنة للسيادة كمصدر لشرعية الدولة. ولذلك لم يعد للحديث عن السيادة في الخطاب الرسمي لأي دولة عربية إلا دور بلاغي محض. عمليا لا تعني السيادة كما تستنفر دعائيا سوى احتكار الحاكم لكل الامتيازات ولإمكانية منحها لهؤلاء وسحبها من ألئك، أي أن الحديث الرائج عربيا عن السيادة هو فعليا حديث عن عكس دلالتها الحصْرية. الدولة العربية المعاصرة لا تعترف بالمواطن لا كموضوع لحقوق وواجبات ولا كفاعل يمثل مصدرا أول َ للشرعية المفترضة للحكم وإنما تراه كرعية وتابع للسلطة أي كموضوع لممارسة هذه الأخيرة يخضع لها ويترجى إرادتها بمقتضى ما تتمتع به من وسائل محتكرة أي بمقتضى احتكار الحكم الأحادي للريع والبطش أي امتلاكه لآلية الترغيب والترهيب كامتياز مطلق. إنها إذن دولة القوة ـ الامتياز وليست دولة الحق ـ المواطنة.