الأستاذة فابيولا بدوي
قامت الصديقة العزيزة هدى الخطيب بفتح ملف شائك يطرح العديد من الأسئلة أكثر مما يجد إجابات. وكل ما نقوم به ما هو إلا محاولة منا جميعا لأن نكون طرفا في معادلة ينبغي وأن يتزن طرفاها كي نتمكن من الحياة في أوطاننا بالكيفية التي نحلم بها جميعا..
ـ بدأت هدى حديثها بأن المستعمر ينفذ من خلال ثغرة هي موجودة بالفعل ومن يخلقها هذا المستعمر، فلماذا هذه الثغرة موجودة؟
ـ دون أن نشعر أخذنا نتبارى لنثبت أن هذه الأوطان هي ملك للعرب، في المقام الأول، وأن العرب بطبيعتهم قادرون على امتصاص كافة الهويات الأخرى والتعامل معها واحترامها، وهذا في الواقع غير حقيقي على الإطلاق. فلو كانت هذه الأخلاق تمارس على أرض الواقع، ما كانت هناك أية مشكلة على الإطلاق.. فمن أين جاءت كل هذه المشكلات التي يعزف كل من يريد هدم هذا الوطن على أوتارها.
ـ نحن لا نعمل على سد هذه الثغرات حقيقة قررتها هدى الخطيب بشجاعة، ولكن لماذا وكيف يمكن أن نعمل على سدها، هذا هو ما يطرحه هذا الملف.
ـ قد تحدثت بشكل فيه بعض الاستفاضة عن مشاكل ووضع الأقباط لأكثر من سبب:
أولا، من حيث التعداد داخل البلد الواحد يجعل هناك تساؤل يطرح نفسه هل هم فعلا أقليات وينطبق عليهم ما يمكن أن ينطبق على بقية أقليات هذا الوطن، أم هم مواطنون مصريون من الدرجة الأولى، يقع عليهم الكثير من التمييز، مما يفتت وبقسوة كافة ملامح الوحدة الوطنية في هذا القطر العربي.
ثانيا، بوصفي مصرية وعربية ومسلمة، أتصور أن عرض مشكلة بعض المواطنين المصريين هو واجب مادمت أريد الخير لبلادي خصوصا وأني أحاول جاهدة أن أرى الصورة من بعيد وأتابعها بقدر معقول من الحيادية.
ثالثا، الأقباط مثال يمكن تطبيقه، على الرغم من خصوصيته، على بقية الأقليات، حيث أن عدم العدالة لابد وأن تدفع إلى الشعور بنفي المواطنة وحقوقها، وهذا بدوره يدفع مع الوقت إلى عدم الانتماء، الذي عواقبه تبدأ من السلبية الشديدة انتهاء بالتمرد مرورا بالارتماء في أحضان العدو في تصور أنه المنقذ الحالي.
رابعا، أنا لا أتحدث هنا بوصفي مصرية عربية مسلمة تضرب بجذورها في أعماق هذا الوطن، ومن عمق هذا الرسوخ يمكنني استيعاب الآخر. بل أتحدث بوصفي مواطنة تسعى لخير هذا الوطن الذي لن يستقر إلا إذا اتحدت ألوان طيفه كي تمنحنا لونا شديد البياض، بصرف النظر عن كوني أمثل أي لون من ألوان هذا الطيف.
ولكي ننتقل إلى وضعية أخرى خاصة ببقية الأقليات، سوف أضع هذا المقال الذي نشر بالأمس على أحد المواقع بقلم كاتب مصري من الأقباط لنقترب من وجهة نظر الآخر...
لقد أصبح واردا أن نسأل اليوم: هل أصبحت مصر دولة دينية؟
وهذا السؤال ليس من نوع الجدل الذي جري في فترة التعديلات الدستورية الأخيرة حول المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة والمصدر الأساسي للتشريع. فليس اهتمامي هنا هو ماذا ينص الدستور إذ أن المجتمع المصري لم يصل بعد إلى مرحلة تكون السيادة فيها للدستور وللقوانين المنبثقة منه وإنما هو ما يزال في مرحلة السيادة فيها للأشخاص الماسكين بمقاليد الأمور. فالحياة العامة في كافة جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية حياة مشخصنة وليست منظمة أي تتبع الشخص وليس النظام (السيستم) أو القانون. فالعلاقات الشخصية هي أساس الحياة في مجتمع أبوي (بطريركي) يضبط فيه القوي حركة من هو اضعف منه بمجرد كلمة تخرج من فمه. وليس المكتوب والمنصوص عليه من مواد الدستور أو القوانين سوي ديكورات استوردت من دول غربية كفرنسا وبريطانيا دون استيعاب روحها أو تمثلها في الوجدان الشعبي أو الشخصي.
ما اقصده بالسؤال: هل أصبحت مصر دولة دينية؟ يتعلق بأسلوب الحياة للإنسان المصري في الشارع المصري اليوم. وبالتالي أسلوب الحياة العامة التي يشكلها مجموع الأساليب الشخصية للأغلبية الغالبة من المصريين. وما اعنيه هو هل أصبح دين الفرد هو أول وأهم الملامح المحددة لشخصية هذا الفرد وفكره وتوجهاته وآماله وأقواله وأفعاله؟ وهل أصبحت الأغلبية الغالبة للمصريين لها هذا الملمح الديني المهيمن المحدد؟ وفي هذه الحالة يمكن القول أن المجتمع المصري قد أصبح مجتمعا دينيا وان مصر قد أصبحت دولة دينية. وليس بالضرورة هنا أن يكون الحكم أو الحكومة أو القيادة السياسية قيادة دينية وإنما يكفي أن يصبح المجتمع مجتمعا دينيا لكي تصبح الدولة دينية فلا دولة بلا مجتمع ولا وطن بلا شعب.
وللتحديد أكثر: نعم لقد كان للدين دائما وجوده منذ أن ابتكره قدماء المصريين وعززه اخناتون أول من نادي بفكرة التوحيد الإلهي قبل اليهودية والمسيحية والإسلام، وكان الإنسان المصري ينظر إلى الفرعون الحاكم نظرة تبجيل وخوف وطاعة يشتبه معها وضع ومنزلة الفرعون لتقترب من منزلة الإلهة أو تتوحد معها أو تصبح صورة منها أو تجسيدا لها فإذا بالفرعون هو نصف اله أو شقيق الاله او ابن الاله او زوج الالهة وتصبـــح طاعــــة الحاكم من طاعة الله، وقد تسربت بعض هذه كلها إلى علاقة الإنســـان المصري بالحاكم وبرجل الدين الي يومنا هذا حتي في ظل الرسالات السماوية، فالسلوك المصري في اشتباك ـ او اشتباه ـ السياسي بالديني هو سلوك قديم قدم مصر القديمة وما زال موجودا الي اليوم لدي المسلمين والاقباط علي سواء.
ولقد كان الامل في حركة النهضة المصرية في مطلع القرن العشرين علي يد روادها محمد عبده وقاسم امين ومن بعدهم طه حسين وسلامة موسي وتلاميذهم من اعلام ومصابيح التنوير في مصر، كان الامل في هؤلاء ان يكملوا مسيرة النهضة والتنوير العربية لتحرير الانسان المصري للمشاركة في بناء الحضارة العالمية الجديدة. ووصل الامل الي ذروته ونشوته الاعلي مع الثورة المصرية التي حققت التحرر الوطني من الاستعمار وقطعت اشواطا كبيرة علي طريق التحرر الاجتماعي والديني داخليا ووضعت بذرة مجتمع ـ وانسان ـ مصري لم يكن الدين هو ملحمه المهمين الاساسي، ووصل الامر في ذروة الفكر التحرري القومي الي حد اننا ونحن طلبة كنا نخجل من ان يسأل احدنا الآخر عن دينه، وكانت اسماء المصريين التي شاعت وقتها لدي المسلمين والاقباط علي السواء هي اسماء عادل ونبيل ومجدي وكامل وسعد وشكري وجميلة وليلي ونادية وسامية ونوال وسلوي...
ثم انتهي ذلك برحيل عبد الناصر واستلام السادات للسلطة واعلان ان اسمه قد اصبح فجأة محمد انور السادات وليس انور السادات كما كان معروفا طوال سنوات الثورة. وكانت هذه اشارة عليا واضحة تبعتها اعمال اخري علي الارض راحت تنهش تدريجيا في المجتمع التحرري التنويري الذي كان قائما ليحل مكانه اركان المجتمع الديني المتزمت المتشدد الذي اسلم قيادته في الشارع لجماعة الاخوان المسلمين التي رأي فيها سندا له ضد مجتمع الناصريين التحرري.
وعلي مدي ثلث قرن بعد هذا راح الاخوان المسلمون في مصر بمساعدة اموال سعودية يرفعون بالتدريج من درجة حرارة مياه التزمت الديني في مصر في غياب مذهل للدولة المصرية وانحسار وجودها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين، فخلت الساحة للفكر السلفي الاخواني لكي يرفع درجة التشدد الديني في مصر الي درجة الالتهاب. ونجح الاخوان في فرض فكرهم علي الشارع المصري وعلي الوجدان والمزاج الشعبي فراينا جيلا كاملا من الفتيات المصريات يلبسن الحجاب الذي لم تلبسه امهاتهن وكانت جداتهن قد خلعنه في مطلع القرن!
وخلال الثلث قرن هذا طلع جيلان كاملان من المصريين وهم لا يعرفون سوي حالة الالتهاب الديني الماسكة بتلابيب الوجدان الجماعي فيتصورونها حالة طبيعية. فنجد الشباب الجامعي في مختلف فروع المعارف الجامعية لا يناقشون علي مواقعهم علي الانترنت سوي القضايا الدينية السلفية القديمة التي لا تضيف اي جديد للانسان في حياته اليومية ولا تقدم علما ولا فكرا بل تشغل العقل والعاطفة فيما لا يفيد ولا يصنع حضارة. وعلي هذا فالاجابة علي سؤالنا هو ان مصر قد اصبحت فعلا دولة دينية ذات مجتمع ديني تحكمه وتشغله الي ابعد الحدود الفتاوي الدينية والمظاهر الدينية والخلافات الدينية المتشابكة دائما في دوامة لا تنتهي.
لحالة الاتهاب الديني خطران علي مصر. الاول هو ان الالتهاب الديني يشغل المصابين به ـ وفي هذه الحالة هم اغلبية لا يستهان بها من المواطنين ـ بأمور من مظاهر الدين لا عائد لها علي حياة الناس وواقعهم فيذهب قدر كبير من وقت وفكر وجهد المجتمع فيما لا يرتفع بمستوي البشر حياتيا ولا حتي اخلاقيا فيتخلف المجتمع بالضرورة عن ركب الحضارة المعاصرة وهو ما يحدث حاليا بالضبط لمصر وللعالم العربي بشكل عام. والأدلة علي هذا حولنا في كل مكان وكل يوم في مصر، انظر مثلا الي احدث هذه الأدلة. فقد اصدر مسؤول بجامعة الأزهر فتوي تحلل رضاعة الكبير بين موظفة وزميلها بالعمل. وقالت المصادر الاعلامية ان خمسين (لاحظ العدد) من النواب المصريين المنتمين لجماعة الاخوان المسلمين يبحثون الموضوع لضبط عواقبه حتي لا تسبب احراجا للتيار الاسلامي، وقد قام الآلاف بالمشاركة في التعليق علي الخبر علي مواقع الاخبار الالكترونية وفي منتديات النقاش بين معترض ومدافع. فتأمل القدر العظيم من الجهد والوقت المهدور في قضية كهذه يطرحها ويطرح عشرات وعشرات مثلها دائما الفكر السلفي الذي يعيش في عصر السلف ولا يعيش في عصرنا هذا، وبالتالي لا يكون جهد وفكر المجتمع مركزا علي حل قضاياه الاساسية وكلها قضايا بالغة الخطر من التعليم المنهار الي الفقر المدقع الي البيئة الملوثة الي الامية المتفشية الي الانتاجية المتدنية الي التسيب والعشوائية الي الفساد المستشري الي أزمات الاسكان والصحة والمواصلات والبطالة، فالانشغال والاشتغال بأمور الدين بشكل يومي طاغ يستهلك المتبقي من فكر وجهد الفرد والمجتمع في كل ما هو بعيد عن احتياجاته الانسانيه الملحة.
فالفكر السلفي والاخواني مهووس بمشكلة المرأة والجنس ويوجه قدرا هائلا من فكره ووقته نحو المشكلة فيترك خمسون نائبا في مجلس الشعب المصري اعمالهم لمناقشة قضية رضاعة الكبير.
المجتمع الذي يعاني من الالتهاب الديني لا يملك الفكر ولا الطاقة ولا الوقت لكي يبدع وينتج في مجالات الحياة والواقع ولذلك سرعان ما يسقط من المسيرة الحضارية ويقبع خاملا متسولا في قاع العصر.
الخطر الثاني لحالة الالتهاب الديني في مصر هو ما تسببه من حالة انفصام الشخصية المصرية وانشراخ الوحدة الوطنية فمع دخول الاغلبية المسلمة في دوامة حالة الالتهاب الديني وما تصاحبها من طقوس ومراسيم وفتاوي وعادات وعبادات وسلوكيات تتسم كلها بالغلو في المظاهر الدينية في كافة نشاطات الانسان ولا يتبقي في حياة المواطنين المسلمين العامة مكانا لا يشغله الدين يمكن ان يشاركهم فيه المواطنون الاقباط. وبالتالي يجد الاقباط انفسهم مطرودين من ساحة المواطنة العامة التي اصبحت ساحة اسلامية متشددة مليئة بمظاهر تقترب من الدروشة وتزدحم بالخرافة والفكر السحري. فينعزل الاقباط داخل الكنائس ويصابون بحالة رد فعل هي ايضا نوع من الالتهاب الديني المضاد.
تحت راية الفكر الاخواني السلفي يطرد الاقباط خارج ساحة المواطنة ليلتحقوا في ادبيات المتشددين بالكفار من اليهود والنصاري ! وبهذا انقسم المجتمع المصري في الثلث قرن الاخير الي مجتمعين مختلفين دينيا واجتماعيا وثقافيا واصبح وجود الاقباط ثقيلا علي قلب الكثيرين من المصابين بالالتهاب الديني ـ ولذلك فما ان يطلق احدهم بشائعة ضد الاقباط حتي يخرج المئات من المسلمين الي الشوارع كما فعلوا مؤخرا ـ للمرة الالف ـ ليعيثوا في الاقباط ومتاجرهم وكنائسهم ومنازلهم تدميرا وحرقا وقتلا. وكلما تكررت هذه الاعتداءات وهي دائما تتكرر ـ يقال ان الامر مشكلة فردية او عادة التأثر الصعيدية!!
ولكن الواقع ان مشاعر التآخي والمشاركة الوطنية قد تآكلت الي حد كبير بين الاقباط والمسلمين بسبب حالة الالتهاب الديني التي اصابت الاغلبية. وهذا الانفصام في الوحدة الوطنية هو خطر كبير علي مصر وسلامها الاجتماعي وأمنها الاستراتيجي. فكثيرا ما يتذرع الغزاة بحماية الاقليات لغزو مصر، ولا شك ان استمرار حالة الانفصام الاجتماعي وتآكل المشاركة بين عنصري الأمة سيزيدان من الشرخ الذي بدأ فعلا وقد يصل به اذا استمر الي حالة التصدع والانهيار.