قابلته ليس بعيداً عن مفرق الطرق، كنت في زيارة الى بلدتي القديمة والقابعة عند مشارف نابلس. كان شعره كثّاً للغاية ولحيته غزيرة لم تعرف الماء منذ زمن، وكان ثوبه طويلاً. استند الى حماره الأبيض وحيّاني. رددت التحيّة وسألته عن أمره. بدا لي غريباً رغم بساطته وعصاه التي كانت تحكي الكثير عن معاناته.
قال بحياء: كيف لي أن أصل الى القدس؟
فأجبته وقد أطرقت برأسي سخطاً: وكيف لك أن تصل القدس يا عزيزي؟ هناك مئات الحواجز العسكريّة، لا يمكن لذبابة أن تصل حدود القدس.
- أنا بحاجة لأن أصلّي في صومعتي.
أصبت بالدهشة وسألته صائحاً
- صومعتك! ما الذي دهاك أيّها الغريب؟ ومن تكون على أيّة حال؟
- ألم تعرفني .. أنا المسيح ..
- الدجّال أم الحقيقي؟
سال الدمع من عينيه وفضّل الصمت للحظات
- اشتقت الى الإنسانية أيّها الحبيب، أردت أن أستقي أخبار مريديّ وأتباعي من البشر
- هُمْ كُثُرْ ولكن عليك أن تختفي من هنا على عجل، أخشى أن يكتشفوا أمرك
- ولكنّي أحمل رسالة السلام الى الإنسانية أيّها الحبيب
لم يحاول الإختفاء عندما ظهرت دوريّة عسكرية إسرائيلية أمامنا. خرج منها بضعة جنود وطلبوا وثائقنا الشخصية. أظهرت أنا دعوة الزيارة وجواز سفري الأجنبي، ابتسم أحدهم مغتاظاً ولم يتفوّه بكلمة.
- وأنت أيّها الأعرابي، أين هويّتك؟
وقبل أن يجيب عن السؤال أخذوا يعبثون بشعر رأسه ولحيته وكأنّه قادرٌ على إخفاء سلاحٍ هناك.
أمسك الأول عصاه التي يتكئ عليها وكسرها، ثمّ أخذ يتفحّص داخلها. يا للسخرية! لم أكن قادراً على التفوّه بكلمة واحدة على الإطلاق. كيف أصرخ بملء صوتي إنّه المسيح فاتركوه وشأنه.
همست في أذن أحدهم قائلاً
- إنّه معتوه من القرية القريبة وهو غير قادر على الحديث.
لكنّ المسيح قال بصوتٍ مرتفع ومجلجل
- بل أرغب الذهاب الى صومعتي للصلاة .. أنا لست معتوهاً
- تصلّي .. وأين تريد الصلاة؟
- في القدس أريد الصلاة .. في القدس
- يا له من إرهابيّ، يريد الصلاة في القدس. على أيّة حال، الأقصى على وشك الانهيار ولا أظنّك قادراً على الصلاة هناك ما دمت لا تحمل تصريحاً يخوّلك على دخول الخطّ الأخضر.
- الخطّ الأخضر .. ماذا تعني؟
- يبدو أنّه معتوه حقّاً .. لماذا ترتدي هذه الأسمال أيّها الراعي الأحمق؟
- لقد باركني الخالق يوم وُلِدْتُ ويوم أبعث حيّاً.
- إذا كنت المسيح حقّاً فهل أنت قادرٌ على إحياء هذا الرجل؟
- لا أرجوكم .. كفى قتلاً وتذبيحاً
- ولكنك ما زلت مصراً على أنّك المسيح؟
- لا لست كذلك. دعوه وشأنه أرجوكم.
عندها طلبوا منّا الاستلقاء على الرصيف، أشعل أحدهم سيجارة وأخذوا يتناولون أطراف الحديث. مضى على حالنا تلك ساعاتٍ طويلة. بصقوا بعد ذلك علينا واختفوا في سيّارة الجيب العسكريّة.
نهضنا على أقدامنا منهكين، واخذت أنفض التراب عن المسيح.
- لماذا لا تحلق شعرك يا أخي، مشّط لحيتك وشذّبها، ارتد ملابس عصرية، بنطال وقميص ولن يعترض طريقك أحد. ثمّ هذا الحمار الأبيض. عندها صاح الحمار معترضاً، أدركت ساعتها بأنّ الرجل يقول الحقيقة. بكى مجدّداً وقال والدموع تملأ حدقتيه
- كيف أكون المسيح إذا تخلّيت عن عصاي وحماري ولحيتي وكرامتي؟
- أنا آسف يا سيدي، هذا عالمي اليوم، وأنت فيه مجرّد إرهابي ومشروع قتل..
- كفى أرجوك
- عُدْ من حيث أتيت، لتبقى صورتك التي عرفناها يا سيّدي. أدع لنا بالخلاص، نحن الذين ما زلنا نبحث عن ظلّنا في الأرض المقدّسة. عُدْ الى صومعتك وانتظر خلاصنا في محرقة القرن الحادي والعشرين. كنّا قد طلبنا منابع النور ومرافئ السلام في مدينة السلام، فوجدنا الطرق قد امتلأت بالشوك. أخذت رائحة الموت والأجساد المحترقة تحاصر أحلامنا وآفاق الأطفال في مدائننا. عُدّ من حيث أتيت يصعب عليّ إهانتك وأنت من ملأت الدنيا محبّة.
بقي المسيح خافضاً رأسه لا يجرؤ على النظر الى القدس. هناك حيث تُذْبَحُ الإنسانية باسم الحياة. مضى وحماره الى المجهول، لوّح لي بيده قبل ان يختفي خلف التلال.