[frame="15 70"]
قال محمود درويش :
قصيدة " قتلوك في الوادي .. "
***
.... لا تذكرينا ..
حين نفلت من يديك
إلى المنافي الواسعة
إنَّا تعلَّمنا اللغات الشائعة
و متاعب السفر الطويل ..
إلى خطوط الاستواء ..
و النوم في كل القطارات البطيئة و السريعة ..
و الحب في الميناء ..
و الغزل المعدّ لكل أنواع النساء ..
إنَّا تعلمنا صداقة كل جرح ..
و مصارع العشاق
و الشوق الملعب ..
و الحساء بدون ملح ..
***
يا أيّها البلد البعيد
هل ضاع حبِّي في البريد ؟
لا قبلة المطاط تأتينا
و لا صدا الحديد
كلّ البلاد بلادنا
و نصيبنا منه .. بريد !
***
لا تذكرينا ..
حين نفلت من يديك ..
إلى السجون ..
أنَا تعلَّمنا البكاء بلا دموع ..
و قراءة الأسوار و الأسلاك و القمر الحزين ..
حرية ..
و حمامة ..
و رضا يسوع
و كتابة الأسماء ..
عائشة تودّع زوجها ..
و تعيش عائشة ..
تعيش روائح الدم و الندى و الياسمين ..
***
يا أيّها الوجه البعيد
قتلوك في الوادي ..
و ما قتلوك في قلبي ..
أريدك أن تعيد ..
تكوين تلقائيتي ..
يا أيّها الوجه البعيد !
***
و لتذكرينا ..
حين نبحث عنك تحت المجزرة ..
و ليبق ساعدك المطلّ على هدير البحر
و الدم في الحدائق
و على ولادتنا الجديدة
قنطرة !
و لتبق كل زنابق الكفِّ النديه
في حديقتها
فأنّا قادمون ...
من يشتري للموت تذكرة سوانا ..
اليوم .. مَنْ !
نحن اعتصرنا ..كل غيم خرائط الدنيا
و أشعار الحنين إلى الوطن
لا ماؤها يروي
و لا أشواقها تكوي ..
و لا تبني وطن ..
***
و لتذكرينا ..
نحن نذكرك اخضرارا طالعا من كل دم ..
طين و ... دم
شمس و ... دم
زهر و ... دم
ليل و ... دم
و سنشتهيك ...
و أنت طالعة من الوادي
غزالا سابحا في حقل الدم ..
دم ..
دم ..
دم ..
******
تلك هواية محمود درويش في محاورة الأرواح النقية .. المحلّقة في سماء الاستشهاد ..
لا المطر يكفي .. و لا حضن القارات يسدّ لحظة حنين ..
حينما يُحاوَرَ الوطن أتنازل عن كل المشاعر .. عن حاجتي للبكاء .. عن صمتي ..
عن تلقائيتي .. عن استعدادي ..
و أنفجر ..
الحب حين يحاصره الوطن يتشرد .. يتشتت
يسبح في كل الاتجاهات ..
يضيِّع أمسه و حاضره .. و رحلة بحرية نحو غد مجهول ..
في غزة .. و في كل فلسطين ..
يتخلَّى البحر عن مائه و عن زرقة منحتها له السماء ..
يتخلَّى .. عن أبجدية الكنوز المدفونة ..
عن صراع الديانات ..
عن المد و الجزر ..
و الدهاليز .. التي يختفي فيها القمر ..
أحيانا .. حين يستحي ..
يتخلَّى عن عروسه .. و عن أسماكه
يتخلى عن صَدَفِه .. و صُدَفِ اللِّقاء ..
يتخلَّى عن موجه .. و فاتورة سيدفعها في صيفٍ قادم
من أرواح السوَّاح .. من أبناء الوطن .. !!
يتخلَّى عن كل ما له .. و ما سيؤول إليه ..
بعد مجزرة قادمة ..
و يتعقّب الجثث .. !!
يسرح خلف عطر الموت ..
يقبِّل قطع الحجر ..
يتلوّن بحمرة طائشة ..
في غزَّة .. كل شيء يدين بديانة الموت ..
إلا رقصة شفافة ..
تختفي كلَّما داهمها الحجر ..
خلف الحجر ..
كل شيء .. عربي ..
إلا شجرة .. تعثَّرت بشمسٍ لحظة غروب ..
في غزَّة ..
المطر حزين ..
و الكهوف حزينة ..
و الشِّعر موسم تلاقت عنده الفصول
و نزعة أيلولية متمردة ..
في غزّة ..
الرعود موحشة ..
و السماء موحشة ..
و الغابات موحشة ..
و كل القصائد تحاكي وحشتي ..
من يداري السماء .. عند انزواء غيومها .. ؟
من يهطل كطوفان ..
حين يعتزل المطر .. ؟
من يُصاحب القدر .. ؟
من يُحاسب الأرض .. عن جاذبيتها .. ؟
و عن لهفتها ..
من يُحاسب .. الموت المتسكع ..
مَنْ يُحاسب .. مَنْ !!!!
[/frame]