عرض مشاركة واحدة
قديم 02 / 03 / 2012, 42 : 11 PM   رقم المشاركة : [14]
حياة شهد
شاعرة و رسامة و كاتبة

 الصورة الرمزية حياة شهد
 





حياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud ofحياة شهد has much to be proud of

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: الجزائر

رد: أجزاء من رواية ( تصاميم أنثى )

* الجزء الخامس *


كل ما تجلّى أمام نظري تلك الثواني أنّ العروبة لا زالت تعيش فصول مراهقتها ... !

******************************

كما كنت تماما أسترجع تفاصيل مراهقتي ... كنت أُقلّب دفاتري القديمة علّني أجد بين أنقاض الكلمات طيف امرأة ... بتفاصيلها المرسومة على لوحات وصفي كرجل يتوق لكل ما هو خاص .. و شاعري، متدّفق البراءة و العفّة ..

كنت أبحث بين الكلمات المتلعثمة التي تخرج من شفتيّ مشلولة من أثر الانحناءات الكثيرة بمجاري دمي .. و لأنّها مرّت بقالب شراييني المكّهرب خرجت مشوّهة، خرجت مشنوقة،

أعماقي تحتضر ....

التحفت الصمت لليال طوال بعد أن شعرت ببرد يدوس باحتقار شديد منطلق الكلمات .. و أدخلت قلمي في استراحة استجمام بتاريخ مفتوح حتى لا يفضح تاريخا قد خرج لتوّه من عتمة الحاضر .... رفضت الكتابة و كلّ ما له صلة بمعترك الصفحات المشحونة ..

لطالما طاردتني خاطرة البحث عنها بين زحام الأجساد المتمايلة في تناغم شديد و الموسيقى الشاردة الحواس ... و بين الطاولات الملّغمة بكؤوس الضلال و بين قطع القماش و بين جسور الطّيش و العبث .... خرجت منتصرا من حروبي النّفسية المتجبّرة بخسائر أكثرها معنوية، زجّت بي بأقبية الشجن الموحش، الذي التهم جزءا من ذاكرتي و شوّه تصاميم قصري بمداخله الاثني و العشرين، ... و أتلف أشجار حديقتي الغنَّاء و شرَّد حدود الظِّلال، داس زهر الياسمين الأبيض، بما يحويه من معانٍ لكفنٍ عربي أصيل و أبقاني وحيدا تجلو الرّياح هشاشة عظامي فتصعقني كل ثانية و تلتّف حول عرس تَحطُّمي، ترقص و تُسرِف في بذخ التعالي المهووس بالكذب .. تركني وحيدا عند شواطئ الألم بعد أن أقفل محادثتي الشاعرية و طيور النورس، حين كشف علاقة شعري الوطيدة بالبحر ... و معالم الشتاء ..

ذات مساء و أنا أتابع أخبار طفولتي المتشرّدة، حاصرتني هي بأمومتها و قد كتبت شعارها فوق لفافتي حين كنت رضيعا، العشق يولد بمغص شديد يتزامن و لحظة الميلاد لذلك كان الصراخ لئيما .. و كأنّها بمنطق الحب الآسر و هفواته المغفورة ترّصدتني حتى زمن مولدي الأول، كتبت جملتها على زجاج الرّوح و كان المطر حينذاك يرسم ممراته السرّية على شفتيّ فلا أستطيع معه تحدي الكلمات . كتبت عصفورتي الصغيرة " على مرأى من أمومتي ولِد جنس آخر من الرجال " ... و كأنّها تستوضح أمرا من خلال تلاعبها الذكي بالكلمات .. تلك الجملة التي جعلتني أتفقّد شيئا مني لها و لي .. طفولتي و رجولتي .. فأين أنا من الصنفين .. ؟؟

قهوتي الصباحية و المسائية قطعت خلوتها السوداء قطعان الكلمات التي خرجت من مرتعها، من مللها، لتحطّ فوق فنائها و بين الفقّاعات الجميلة لتعكّر طقس استئناسي بفنجان قهوة صُنِع خصيصا ليقهر مساءً مداعبات النّوم المنافقة و ليفضح صباحا تثاؤبات رغبة خفيّة في الاستيقاظ الشرس .. الحروف المتراصّة على طاولتي تمنعني من شغل مكانها بقطعة حلوى و تابوت الدفاتر المنسية .. و هي .. هي التي اكتسحت طاولتي بملامحها الممسوحة .. فرشت شعرها كرمال فاجأتها زوبعة قاسية فقَلَبَت فنجاني و تعثَّرت أفكاري بقطعة زجاج مكسورة .. حتى القهوة لها رغباتها الخفيّة في الانتقام من كل دخيل قد يشوِّه لحظات ارتشافها .. كأنثى لحظة تجبّر أنوثة غيرها ..

و كأنّي كنت أبصر قصائد شعر محلّقة تعلو طاولتي ... تتراقص في فتنة و تدعوني لأن أضمّها و أسكنها عش كتبي للأبد .... غير أنّي كنت أخشى حفلات الزّفاف المفاجئة ... خفت من شبح تلك المرأة المحفور بجداري الشعري .... خفت أن يحتَّل مساحة جغرافية تتنازعها قارات عزوبيّتي فيما بعد ولم أعد أقوى على مجابهة أيّ حصار .. خفت أن أضعف أمام نداء الأبوّة رغم تنكّرها لي .. !!

و كأنّ مناعتي تداعت أمام حصانة تواجدها ... بميزة فريدة " امرأة بدون ملامح " " بدون تصاميم معلومة " ... بدون حاضر .... و بدون شاهد إثبات .. لأنّي نويت حينها أن لا أُعمِّد ولادتها القيصرية و الجرح الغائر الذي تركه مخاض ولوجها سلسلة أفكاري محكمة القيد .... شغلت عيادتي الشعرية فقط بلملمة آثار النكبة على باقي الشقوق النفسية القديمة المتهرّئة من كثرة الزلازل .... و الكدمات .. و عنجهية الفصول المتراكمة و كأنّها ملك لسنة شمسية حُذِفت في غفلة من قدر ... فاضطربت معها الشهور و تعطلّت المواعيد المقرّرة المعقودة بساعات معينة .. كل ساعات العالم ضُبِطت على زاوية الصفر و لأنّ الصفر لا يطابق شيئا من عقارب الزمن انتكست رغبتي في لقائها و انتكس القمر ..

أكيد أنّها تحمل حرفا جديدا أو مكرّرا من بين حروف شيفرات الأنوثة، حرف يئِست قدراتي عن إدراكه ..و أيّ حرف قد تحمله أنثى أشاحت بوجهها عني .. أيّ اسم قد أرمز لها به في شهادة ميلادها الجديدة ... يوم ولدت من أنقاضي .. في انتظار ميلاد آخر ..

سنة 2011 دخلت ثورية مدّمرة .... أحداث العدوان المفاجئ على قلبي المسالم بدأت تأخذ منحى خطيرا ... وشوشات طفولية تشحن ذخيرتي من الرجولة لتسحقني على حدود طيف امرأة .. وكأنّ الهزيمة لا تستحق إلا إذا كان الخصم رجلا أو امرأة مكتملي الوصف الإنساني ...

ثم من تلك المرأة ..؟؟

كي تدوس على رجل لطالما سُحِقَت حروف لنساء تحت قدميه و بحذاء شتوي فوق أرض موحلة ..

آه من تلك الحقبة التاريخية من زمن طفولتي و المطر و شرخ الكلمات ..

آه من دبدبات الكعب العالي الذي كانت تنتعله طفلة تَشَبُّها بامرأة ..

**********************



العدوى تطال أقطارا عربية أخرى لتخرج عن نطاقي الشخصي و تشغلني عن مسبح الخواطر .... مخطّط الموت يسير تحت الأنفاق المرسومة ليصل ليبيا و اليمن بوتيرة بطيئة و عدد من الدول العربية الأخرى ... لكن سرعان ما خمد اللّهيب المتفرّق ليشتعل و يتأجّج بليبيا ... احتجاج شعبي و عسكري و قتلى و تخريب و تفجير مخازن أسلحة و دبلوماسيات و أمم متحدة و خطى غربية نحو معتقلات الحرب الكلامية ... و تدّخل أجنبي في وقت كان الشتات العربي يواصل فكّ أصول ترابطه ليتبعثر على قارعة طريق غير ممهّدة لتدوسه أنواع الأقدام المتّسخة و المدّنسة بقمامة الخزي و العار ...

ألاف الجثث العربية و ألاف من البشر اقتُطِعوا من شجرة العروبة التي كان ينبغي أن تنمو أكثر فأكثر و تتناسل أكثر فأكثر لتضع لنا جيلا في كل منطقة من العالم، جيلا يتميّز بمقوّمات المناطق المأهولة به ... حتى نحافظ على جنسنا البشري المتلّصص على ثقافة الغرب المنطلقة ..

ليبيا و انتهاكات الذاكرة .. فصول الرّدع لشعب تفطّن لقهره المصلوب على جذع شجرة مائلة .. ذلك البلد الذي تطاول فجأة على قوانين ملكية صامتة أخرستها الدساتير و كلمة " جماهيرية " المفرغة من معانيها .. ليبيا الموت المزروع .. أكبر " جغرافية " للقتل الجماعي و انتصاب لتمثال قاتل بنظرات صاعقة ..

الثورة بليبيا تحدَّت في عظمتها حربا عالمية تدّخلت فيها و لو لمجرّد النزهة السياسية العابرة كل بلدان العالم، و لو بإطلالة حرف من شفاه تدّعي المؤازرة لروح الإنسانية .. و تداخلت فيها حروف الهجاء و الرّثاء .. الموت فيها يُشرِق بحرارة تنهيدة .. و لا داعي فيما بعد لممارسة طقوس الغروب .. الشروق كان وحده كافيا ليمرّ النهار داميا، مثقلا بألوان الشفق الكئيبة، الجريئة .. الموت يحتمل ألف خدعة و خدعة ..

*****************************

الوقت يمر و حادثتي لا زالت تشهد فصول هزيمتي النكراء ... و لا جديد يذكر غير قهقهات المساء الصامتة .. و ضحكات اللّيل المستهترة و هي تكبّدني خسائر في ذخيرة الحروف التي أمتلك و مدّخرات عمر من القصائد التي تخلّت عن معانيها و طقوس ممارساتها و أسباب طيشها و تصّببها حبرا على أوراقي ناصعة البياض بحمرة خجل واهية و نقاط سوداء خلّفتها لمسات حريق .. فقط إطلالة مقتضبة لحروف ترمز لشبح عشق قديم فُكَّت طلاسمه تلقائيا بعد سلسلة خصامات مع الذاكرة، تشغلني عن خساراتي بلقطات رقص شعبي على وقع دف مغترب .. وحدها أنثى بفارق أنثى تصلح لتبثّ الرّعب في أوصالي و ترمز لقداسة وجودها برموز لا تفكّها رعونة نساء و لا انسياق رجل خلف نزوة حب جديدة .. تُدَاخلها أشباح في قاعة عرض رئيسية مزدحمة بأطيافها و تماثيلها المصنوعة من البلور المزركش الذي يغطي كل تصدّع قد يطرأ في لحظة فقدان ثقة ..

ذات ليلة من ليال آذار تلَّبستني كآبة قاتلة حتى خرقت بفضل اندفاعها المميت بذلتي الرسمية المحاطة بوابل من عطري المفضّل ... تهيّأت للخروج، كان المساء قد ذرف بقايا دمع شموعه المضاءة ليستقبل اللّيل في ثوبه الحريري الناعم و في ردائه الخشن لحظة قسوة و تجبّر ... اللّيل و بضاعته البشرّية المزجاة .. و كان بيني و بين الشارع لحظة سفر قصيرة ... بعدها ألثم أضواءه الخافتة الخجلى من الخطى المترنّحة و عابري السعير أو السبيل ..

رحت أجوب الشوارع المتلهّفة لقطعة قمر يابسة ( و كأنّ اللّيلة المنصرمة التهمت قطعا من القمر بشراسة متشرّد )، بعدما تنحّت النجوم .. لتترك المدينة غارقة في دنسها مختفية خلف سياج اللّيل المعتّم ... بعضا من طفولتي المسلوبة، لا زالت تتجوّل بين الطرقات .. بعضا من لعبي لا زالت تتحسّر على أنامل طفولة حزينة داعبتها يوما .. فأتقنت التباهي بحنان فقدته .. حتى و هي مشروخة تتفاخر، حتى و هي فاقدة لبعض أجزائها تتحسّس بصماتي ..
حياة شهد غير متصل   رد مع اقتباس