رد: أجزاء من رواية ( تصاميم أنثى )
* الجزء الرابع عشر *
[align=justify]والدتي كانت تعرفني و تفقه لحظات الجنون التي تسكنني كلّما استبدّ بي هوس الوحدة، كانت تستيقظ باكرا جدا لتتفقّد سريري .. حين لا تجدني .. تسأل عنّي أغصان شجرة الزّيتون، التي تلتفّ بطريقة سحرية حولي لتدفئ ما جلدته قسوة اللّيل البارد .. و لتمسح بأوراقها قطرات المطر من على شعري ..
تسترجعني من حضن الشجرة بهدوء تام، حتى لا توقظني و توقظ لهفة الشجرة لأن تمارس أمومتها معي .. تعيدني إلى سريري و تسرف في تغطيتي حتى لا أصاب بالزّكام .. تلك اللّحظات تركت فجوتها العميقة بروحي .. الوحيدة التي لم تشغلها حياة أخرى ..
كثيرا ما أنَّبتني و صفعتني بكفّها المسكون برعشة غريبة و هي تواري نظرتها الحزينة، الخائفة ... لكنّي ما كنت لأقاوم نداء وطن .. في صورة شجرة وفيّة لكلّ ما هو عربي ..
كانت خيمتي التي تؤويني، كلّما شعرت باليتم و حاجتي لأم جديدة، تلفّني بصمتها حتى أكاد أغرق في نحيب مكتوم .. تحت مضلّة الأوراق و ذراعين من أغصان .. و قبلات من حبّات الزّيتون المترامية و أفرشة العشب التي تحبط محاولاتي في السهر ... و القمر الطالع كأنّه فاكهة تخلَّت عن زهرها للتّو .. كنت ألفظ تصاميم النّساء الواهية، المكوَّمة كدخان في حلقي .. و أبرئ نَفَسِي و تنهيداتي ..
عدت لأشرح لشجرتي تفاصيل غربتي .. و هجرتي و رحيلي عنها .. و رغبتي في امتلاك أنثى و لأمارس حقّي في الأبوّة و لو بخيبة متوارية خلف رغبة مغتالة .. !!
ذلك الإحساس، الذي تفجّر لتوّه صار يحاصرني و يترصّدني .. كأنّه خنجر مسموم يبحث في جسدي عن إثارة خاصة .. تفقدني الحياة بفنيّة عالية .. رغم أنّي كنت قد تجاوزت أزمتي القديمة و هواجسي القديمة و لحظة ضعف لست أدري إن كانت تقبل وصف الماضي عليها أم أنّها امتداد يوقّر العصور و الأزمنة .. يصلح لأن يتربّع على عرش حزني أبد الدّهر ..
كانت ستتفهّم، بل و تستميت لتحمل طفلي بين أغصانها بتشوّهات دمية .. كجدّة تسترجع تفاصيل أمومتها الأولى ...
عدت لأعاتب تاريخا كان يؤويها بين تواريخه الرّاسخة، تماما كعيد ميلادي و أسجّله على جذع شجرة لا تتلفها سنين النّسيان، لا تُحيِّن أقصوصات العشق المتتالية و لا تتخلّى عن الذّكرى لمجرد نزوة .. لا تدّعي نسيان تاريخ أوّل مرّة رأيتها فيها و لأورّط شجرة الزّيتون في حبّها علَّها تتلقّفها يوما، حين تعود من عمق الذّكرى، حين تستحضرها نفسي من عمق الأحزان .. قد تأتي يوما لاجئة، فارّة من ضجيج المدينة حتى تلتحف صمتي المدفون .. ستتعرّف عليها القرية و الأشجار و الطيور و الصخور و حتى الأشباح المختفية خلف حلكة الغابة المجاورة، سيتعرّف عليها الجنون من كتاب التاريخ المفتوح على الطبيعة .. من لهفتي المنثورة، من سطوة أحرف اسمها المنقوشة بكبرياء بائس .. من غصّة الألم المفضوحة هناك .. في بصمة طفلي المطبوعة على حافّة اسمها، يوما حين مرّرت بمحض الصدفة شيئا من ألمي، فوق جرح سبّبته مزهرية الياسمين الشقراء، فنُسِبَ الدّم المرسوم .. لها، بإصبع طفل صغير تزامنت لحظة عبوره مع لحظة طيش هستيرية .. صبّت غضبها على نفسي المتعبة .. بصمة تحمل ظلال جسدها المتكّرر كأنّه استنساخ للشجن .. و البصمات مجرّد توثيق لا غير، قد تحتمل التّزوير و الزّيف كما الخديعة .. كما الحقيقة أيضا .. !!!
عدت لأرتشف فناجين قهوتي و أنا أستمع للعصافير .. و أدندن معها معزوفتي التي مارستها برغبة جارفة و أنا طفل، حين تحرّشت بحسون و سجنته بين أقفاصي ليعلّمني لحنه الساحر .. ثم أطلقت سراحه، يوم كففت عن الغناء و اعتنقت ثقافة الهمس و البوح الصامت .. ساعة قيلولة صيفية متعجرفة ..
قهوتي المرّة، التي كنت أضيف لها كل يوم حرف من اسمها . كان كافيا ليرفع نسبة السكر في دمي و يدخلني الإنعاش .. و أنا على طاولة التشريح، تعلّمت كيف أمتصّ رحيق كلّ حرف مائة سنة .. حتى أحافظ على توازني و أحافظ على قهوتي حلوة، لأطول وقت ممكن . و لأحافظ على نبضاتها في كلّ قطعة سكر أشطرها نصفين .. أو أربع .. على حسب نسبة الأنسولين المتوفّرة و حتى لا تتسبّب لي في أزمة قلبية مطاوعة ..
تعلّمت كيف أحافظ عليها بين حبّات البن و في انحناءات رغوة القهوة و في دخانها و في تمايلات ظلّي داخل الفنجان . حتى أنّي كنت أنسى ارتشافها و أنا أبحث عنها بين الدخان .. فتبرد و تضيع هي في ما تبقّى من بخار، في السماء .. حتى قهوتي كانت قاسية ..
قريتي تلك و عزف أنثى الخافت بين الأشجار، لقناني دروسا في الحبّ العذري، لما وراء الطبيعة .
أدركت و أنا أسابق الزّمن و أحاسب الثواني على تلاعبها بفراشات صبري، أنّي أفتقد لكلّ ما تطوّقه المدينة . من أزقّة و مراجيح و صور و أفاعي آدمية ... و سيارات تسابق البشر في عجرفتها .... و هي .. هي أجمل ما في المدينة و أعتق ما في المدينة و أحدق ما في المدينة و أكثر النّساء تفقّدا لأعصابي المضطربة ... بلمسة هيجان خاصة، مفرطة، تشعل رغبة الأعاصير في زعزعة كياني .. تشعل رغبة شتوية في اقتحامي ..
[/align]
|