رد: أجزاء من رواية ( تصاميم أنثى )
* الجزء الخامس عشر *
[align=justify]في شرايينها المعتَّلة تشيَّد القصور و الجسور و كأنّ العاهة دوما تصادق العبقرية بطريقة ما .. تشبه السّحر .
كنت أرفض أن أناقش أو أحاور المرايا ... حين كانت تعزف لحنها الحساس على أوتار شجني و تحفل بمشاحنتي و مطاردة هواجسي، لتفضحني أمام نفسي و تعرِّيني من موجات الغرور و الكبرياء . حين كنت أرفض أن أعترف بشرعيّة رحلاتها البحرية و النّهرية بعروقي ..
كل المرايا فاضحة ..
يوم انتحر صديق طفولتي عزيز، بشنق نفسه على شجرة زيتون .. تدلّى الألم من فوق جسدي .. حتّى كاد يقاسمني طولي و كان بظلَّين ..
الزّيتون في قريتي له منطق غريب جدا .. كلّ شجرة لها تلميحة تاريخية و نبذة عن شهيد وطن .. لها قسوة ماض و إغراء حاضر و شرعيّة مستقبل، تريده لنفسها .. لذلك كان الانتحار القروي تذكير منها بأصالة منسيّة .. كأنثى تلبس فستان أنوثتها، ببريق قسوة لافت و بكعب عال حتى تبدو فاتنة ..
يومها كنت بحاجة ربّما لفصل آخر أعنون به جرحي . و أطرحه غازا تتنفّسه أفعى لتضخّ سمّها على أوراقي فتسكرها و حتى أفقد وعيي و أنا أتفقّد أسطري المجروحة، ببارقة شجن مسمومة .. حتى أتعلّم كيف أتجرّع الألم قطرة، قطرة فلا يستيقظ دمعي لحظة واحدة، فيغرق الدّنيا .. حتى لا تستيقظ رغبة خفيّة في الانتحار كانت تراودني، منذ أن تخلّيت آخر مرّة عن آخر شعار يتّهمني بالطفولة ..
منذ التحاقي بالعاصمة فقدت تعاقب فصول صداقته و اكتفيت بزيارات واهية و ثرثارات عابرة سطحية . قد تتعدّى الجدّ ببضع كيلومترات فقط ... أيّامها، ما كنت لأطيل المكوث في القرية و لا لأشعر بميل للإقامة بين سجونها .. كانت بدايات الفرار نحو الحرّية و رحلة استكشاف لا تعترف بحدود .. غير العتمة ..
عزيز كان شابا ينبض بالحياة .. مجلّدات أفكاره تحوي مشاريع ضخمة كان يسطّرها و يرسم لها أبنيتها الهندسية الفخمة و يزّخرفها بأنواع الأحجار المضادة للانهيار .. متخرّج من الجامعة بتقديرات ممتازة .
لذا صدمتني قضيّة انتحاره الفجائي . وكأنّه أحد مشاريعه المسطّرة و المقيّدة في سجل أحلامه الموشوم بفحم أشجار الزّيتون .. قد يكون مشروعه الوحيد الذي نُفِّذ بحذافيره . آلمني باستقالته المبكّرة و بتعاطيه الموت بجرعات زائدة .. أسكنته للأبد . و كأنّه بذلك يرفض سياسة الإدمان البطيء و ما تخلّفه من نكسات قد تعطّل أصدق مشروع قد أطلق صفّارته، قبل أن يقلع من مرفأ الحياة نحو جزيرة الموت .. تلك التي لا يمكن أن تطالها قدرات بشرية .
حتى القرية الهادئة، تعلّمت كيف تمارس طقوس الضجيج المتخفّي .. تماما كما كانت النّساء و قضيّة العلاقات المشبوهة و الخيانات ..
في القرية الأبواب موصدة و النوافذ محكمة الإغلاق و الأرصفة خالية و ما وراء هذا الصّمت .. وشايات .. و أحاديث سمر و أقصوصات و نوادر .. و شواهد فجر على ليال صاخبة ممارسة في الخفاء ..
قد يرقد اللّيل و تترصَّع السّماء بنجوم خافتة، خجلى من شروق قريب و القرية تقف خلف غطرسة جدرانها تزّف بناتها في حياء مصطنع بعد قصص عشق لا تنتهي .. لولا وشاية قصيدة .و فنجان قهوة و ليلة سهاد ..
بأعذار أنثى و حياكة أنثى و تَصنُّع أنثى، كانت تقام الجلسات الحميمية السرِّية .. تمهيدا لانقلاب سلمي ... تتساوى عند خططه إطلالة من خلف ستار و إطلالة عبر خصلات شعر صريحة في تمرّدها و تصارحها مع الذات دون نفاق ..
الفارق بين المدينة و ضجيجها و القرية و صمتها الرهيب، حالة الهذيان الأخرس بصدى جنون و فصول الشعوذة المرئية و الشفَّافة و طقوس ممارسة الحياة جهارا أو خلف أسوار معتّمة الستائر .
لم تكن القرية تختلف عن المدينة، من حيث لملمة تصاميم النّساء أو بعثرتها .. و لا في تدارس فنون الهوى و الشّعر، بقدر اختلافهما في درجات الاحتشام المرئي أو المتخفّي .. و في مدى الحرّية الممنوحة على حواف الطرقات أو المطوّقة بسياج ..
المدينة تتعرَّى كخريف من أوراقها و تتبعثر على الأرصفة و على الطرقات، ثم تسحب نفسا عميقا من غليون كرامتها و تطرحه بقوّة زلزال لتنظّف شوارعها .. تماما كحالة اللّيل و النّهار .. و القرية تخفي حتى رغبتها في تقليم جذوع أشجارها في حالة انتكاسة خريفية مفاجئة ...
ذات يوم من الزّمن الغابر، الضائع من حياته المسلوبة قال لي عزيز :
المدينة يا صديقي، أنثى تخلَّت عن عباءتها التقليدية و ارتدت فستان سهرة، مزركش .. بحدود مكشوفة، بأضواء انعكاس حلّي على مصباح معلَّق، لذلك كان البريق ساطعا، ساحرا يجذب المتطفّلين من رواد الخداع البصري لا غير .. الشوارع منطلقة و الزّقاق شحنة كهرباء زائدة، تشعل البدر ليكتمل، هوس المجون سطحي، لا تعمّقه إلا هفوة النازحين، المتذمرين من ندرة ترياق الحياة في القرى .. أمّا القرية، فنساء يدنين عليهن أشباه عباءات بثقوب مجهرية .. تماما كزجاج مخادع .. يبدو للعيان مرآة، حتى أنَّك قد تستعين بها لتعدِّل من هيئتك و لتمشّط شعرك .. بعد زوبعة رملية قادمة من عمق شرق الصحراء و لتضبط ربطة عنقك على ساعة عشاء فاخر و ترتدي بذلة تهيّؤك لتكون عريسا ليلة زفافك و أنت تدرك حقيقة انتماء تلك البذلة .. غير أنّك تصدِّق خداع المرايا لغاية مجهولة .. طبعا ليس ككلّ العرسان، بفارق سنة تحضر متأخرة ... و من الداخل مجرّد زجاج عادي، يصلح للجوسسة النّسائية .. لو تحطّم، اختلّ التوازن بين منطق المرايا و الإطار الفارغ من محتواه .. و بين تلك الصورة الّتي اعتنقتها مخيِّلتك و الصورة الّتي تُرْسَم بتواطؤ التحطّم .. حينها ستبحث عن مرآة أخرى و تقتني ربطة عنق أخرى، أكثر حنكة حتى تساعدك على شنق آخر غصّة فجّرت حقيقة كنت ترفضها بتفاصيلها .. هكذا هي تلك المدينة الّتي تدَّعي أنَّك تخرّجت منها برتبة رجل مع وقف التنفيذ ..
[/align]
|