رد: أجزاء من رواية ( تصاميم أنثى )
* الجزء العشرون *
[align=justify]... حسن درس حقوق و كان يكبرني ببضع سنين، حين تعرّفت عليه .. كان يحضّر لشهادة الماجستير بعد حصوله على شبيهتها في تخصّص قد يكون علوم سياسية ... و كان أجدر رجل قد يسخّر لخدمة الشؤون الخارجية، بتمثيله الملكي و إتقانه لأكثر من لغة أجنبية .. و ثقافته الواسعة و زياراته المتعدّدة لعدّة بلدان عربيّة و غربية منذ صغره .. كان مهتّما منذ أيّام الجامعة بالسّياسة و تعرجاتها .. كان دبلوماسيا حتّى في هندامه و جلسته و طريقة حديثه الرّسمية في أغلبها، حتّى أنّه يخيّل إليك أنّه يمارس مهامه في كلّ وقت قد تلتقي فيه، به ... كان وسيما لحدود معقولة، وسامته عظّمتها أناقته و مشيته الّتي تتحدّى كلّ أنثى " حجر " أن تقف تحت حذائه، بلمعانه الماسي و عجرفة خطواته و اللّحن العسكري .. الممجّد لثورة الغرور، الّذي يخدش كل خطّة رُسِمَت بدهاءٍ أنثوي، على قارعة طريق سيرتاده جيش من الرّجال، هو الوحيد الّذي ستنحني له الخطوط المرسومة و تفضح نزعتها.. تكاد الأرض تفرش له بساطها الأحمر ( الملكي أو الجمهوري ) و تستَّعِر من خدوشها .. و تتنكّر لطرقاتها غير المعبّدة ..
كنت أحترم فيه وقاره ... و جلسته الملكية في بلد جمهوري ..
استطعت أخيرا التسلّل من خلف الجدران الباردة، غادرت القاعة المكيَّفة في ليلة نيسانية حزينة و كأنّها اقتدت بجفاف المشاعر .. فوزّعت رعونتها على جسدي، عند أوّل خاطرة فرار، خرجت في غمرة الشّوق لهواء طبيعي .. علّه يطرد عنّي زكام المناطق المأهولة برئة مكيّفة و كنت لا أحتمل مكيّفات الهواء، الّتي تمرضني بتواطؤ شديد و نفسي المتعبة ..
جلست خارجا، أتأمّل الورود المستوطنة بحديقة متحضّرة .. و كأنّ الورود هناك جيء بها عنوة لتُستغل كجارية تسلب الأنظار و لتُنَبِّه العابرين بوجود إشارة مرور دبلوماسية، كلّ وردة تاهت عنها فصول سحرها، كلّ وردة تثاءبت طويلا قبل أن تدخل في سبات عميق، مخلّفة جسدا محنّطا طردت عنه المدينة إحساسه بالطبيعة .. كلّ وردة شُلَّ عنها عطرها .. أمام قذائف العطور المستوردة، المتناحرة، كأنّها أحلاف عسكرية نقضت عهدها .. هي تختلف عن تلك الموجودة بقريتي .. و كأنّ الحدائق أيضا، تعترف بالفوارق الاجتماعية و بانتمائها لسلالة تربة قروية أو تربة تمدّنت على يد سلالة التحضّر المرئي ..
كلّ شيء مُقلَّص في المدينة حتىّ الابتسامات .. حتىّ اشتهاءات المساء لإطلالة قمر .. حتّى رشفة قهوة مسائية، حتى لحظات الضّجر .. حتّى قيلولتي مقلّصة .. و قصائدي الوطنيةّ .. و دخان سجائري .. حتّى الشّرعية الممارسة تحت شرقية يتيمة مقلّصة ..
كنت شاردا .. حين اقتربت منّي و بلغة فرنسيّة متقنة سلَّمت عليَّ و ببصمات غربية صافحتني، حتّى أنّني شعرت أنّها صادقت على تأشيرة مجهولة .. لدخول وطن كان مجهولا أيضا .. فتناثر على كفّي، حبر جوسستها الشّفاف، شوَّه جزءا من ذاكرة وطن ..
لذلك أجبتها بلهجة جزائرية متقنة أيضا .. !!و بحركة شفاه تقطر عروبة، أربكتها .. لكأنّها شعرت بانفعال الحروف في انسيابها ... و بعصبيّة النّطق ..
ثم في لحظة تدارك .. أطلقت سراح عروبتها المشتّتة ..
كانت تتقن العربية لكن بمنحدرات ساحقة ... و كأنّ الحروف تنزلق من بين شفتيها .. فتتوه عن مسلكها الصائب .. لتصل حافّة أذنيّ ممزّقة، تائهة، مشتّتة الوصلات الموسيقية .. تبحث عن ملجأ يؤويها، من غارات فرنسيّة قد تخرسها بين لحظة و أخرى ..
أصولها جزائرية سليمة تماما .. من منطقة القبائل الكبرى إلّا أنّ والدها المغترب حتى من قبل أن تكون مشروع طفلة من المّزمع إنجابها .. حرمها من حقّها في الوطنية الحقّة .. و ألحقها عنوة بقافلة النّسيان، الّتي انطلقت بعد الاستقلال مباشرة .. فواجع الثّورة طمستها ذاكرة خلعت عنها تاج مروءتها ..
مع ذلك .. كانت حريصة على زيارة الجزائر موسميا، خاصة في الصّيف حتّى لا تقطع حبلها السرّي المعقود بشجرة زيتون ..
شَعَرْتُ لأوّل مرّة أنّ تلك المرأة تُشْبهني، حتّى و إن كان الشّبه محصور في شجرة زيتون .. ربّما شَعَرْتُ في لحظات ما، أنّها تعترف بانتمائها إلى قرى و جبال جزائرية .. أكثر من انتمائها لنجوم فندق فاخر .. يرتاده كبار الفنانين و المشاهير و رجال السّياسة و الأعمال .. تلك الأمكنة المأهولة بعواصف مربِكة ..
كانت أنثى .. بتصميم خارجي مميّز جدا، تحار أمام تفاصيله ريشة فنّان تشكيلي .. اعتاد بسذاجة قلم، التجسّس على ملامح و جسد امرأة جميلة .. هي بجمالها و جسدها الممشوق .. تربك الرّيشة لا محال، أمام تقوّساته المتقنة .. قد تتجاوزه ضربات ريشة ملوّنة تتقن إرباك الألوان ..
صارحتني أنّها منذ استقلالها و استئجارها لشقّة خاصة، بسبب دراستها أصبحت كثيرة العلاقات .. مع احتفاظها بلقطة شرف ورثتها صدفة عن نظرة رجولة من جدّها في صورة قديمة عُلِّقت للذّكرى .. و للتطفّل على أجيال ما بعد الشّرف ... الجيل الرّابع و ما بعده بعد الاستقلال ..
كانت امرأة بثقافة غربية كاملة المراحل التعليمية، مع لحظات حنين عابرة للأبجدية العربية و طقوس الوّلاء لوطن، سُقِيَت من مياهه العذبة المتفجّرة من صخرة في أعالي الجبال الجزائرية، ذات زيارة .. فأدمنت وطنيّتها من خلال كأس بريّة ..
[/align]
|