جزء من كتاب
كيف تكتب الشعر في سبعة أيام ؟!
الدكتور: كمال أحمد غنيم
أستاذ مشارك في الأدب والنقد
الجامعة الإسلامية - غزة
kghonem@gmail.com
1426هـ – 2006م
حقوق الطبع محفوظة
الإهداء
إلى
الخليل بن أحمد الفراهيدي...
عميد الإبداع اللغوي والأدبي،
حباً وعرفاناً، وفخراً واعتزازاً،
وإدراكاً لحجم عبقرية العطاء،،،
كمال أحمد غنيم
ليس من الضروري أن تقرأ المقدمة !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...
قد تسألون: أوَفي أيام معدودات يكتبون؟
أما بيني وبين من أحب فأقول: يكتبون بإذن الله! ولولا التجربة والبرهان لما تجرأت في الزعم لأنني أكره الدعاية المبالغ فيها، فقد كتب أحدهم معي في معتقل النقب بعد يوم واحد في ظروف أشبه بالمستحيل: كنا قد أُجبرنا فيها على ترك المردوان (مجموعة خيام تضم ما يزيد عن ثلاثمائة معتقل)، وتمّ حشرنا في ممر ضيق بين الأسلاك الشائكة في شمس النقب الصحراوية ظهراً حتى يتم تفتيش محتويات الخيام، وعاتبني صاحبي لأنني لم أبيّن له ماهية موسيقى الشعر، فقلت له: "هذا قلم معي فهات ورقةً نكتب عليها"، فجاء من زملائنا بورقة مثل حجم كف اليد كانت مغلّفاً لعلاج حصر البول بحبوبه الحمراء، وورقة أخرى كانت عبارة عن مغلف علبة سجائر "اسكت" المعروفة في المعتقل، وكان درسنا الأول هناك على مدار ساعة تقريبا، ولما عدنا انزوى صاحبنا جانبا، ولم تمضِ ليلته الأولى حتى كتب قصيدة جميلة على تفعيلة بحر الوافر!!
صديقه في المردوان المقابل تفاجأ مما حدث بعد أن قرأ القصيدة، وأصرّ على تعلّم الشعر، وتعلّمه مني في أقل من ساعة، وكان يفصل بيننا خطّان من الأسلاك الشائكة، والممر الضيق الذي تعلّم فيه صاحبنا الأول، ليكتب هو الآخر قصيدة أخرى... ليحدث انقلاب في المعتقل وهجوم للراغبين في تعلم كتابة الشعر، اضطرنا لصياغة كتاب في موسيقى الشعر من نسخ ثلاثة، يُلقى بها إلى أقسام المعتقل المتباعدة، وذلك كان كتاب مجلة الرابطة الشهري الأول حسب ما أذكر!!
لا شكّ أن الموهبة مطلوبة... لكنني أشبه الموهبة بالبترول! فأحيانا لا يكتشف المرء ما بداخله كما لا يكتشف أصحابُ أرضٍ حقيقةَ كنز البترول الذي يدوسونه بأقدامهم! ولا شك أن الشعر كالبترول قد يتدفق من ذاته، لكنه حينئذ لا ينفصل عن آلية اكتشاف وإعداد أخرى نسميها الطبع، وما الطبع؟ إنه سليقة يكتسبها الإنسان من خلال معرفته للشعر وقصائد الشعراء والثقافة العامة، فهو أشبه بترويض غير مقصود، لا يكتب الشاعر شعره دونه، لأنه لا يولد شعراء هكذا دون تعلم لغة واطلاع على ما كتب السابقون...
ويعدّ شعراؤنا العرب القدامى من مكتشفي البترول بالفطرة، فأولئك لم يدرسوا العروض ولا الموسيقى بل تعوّدته آذانهم، ومنهم رجل مثل "أبو العتاهية" الذي كان إن سأله أحد: "هل تعرف العروض؟"؛ يقول: "أنا أكبر من العروض". ولعلنا لا ننسى أن الخليل بن أحمد الفراهيدي لم يضع قواعد العروض إلا من خلال قصائد العرب القدماء، وبناءً على أشعارهم التي قالوها قبل تفاصيل ما أسّس له وفصّل فيه.
ويمكننا القول إن الشعر عندما يأتي فيما بعد؛ يوظّف الوزن والثروة اللغوية والتجارب الإنسانية المختلفة دون انتظار... فالوزن يصبح مجرد مهارة سلسة تنضاف إلى المهارات والخبرات الأخرى، وتنطلق دونما إعداد أو سعيٍ لها. وذلك يؤكد (نظرية البترول) التي تحدثنا عنها سابقاً. لكن حتى استخراج البترول يحتاج إلى معدّات واستعدادات، هي ما نسميه الصقل والتهذيب والممارسة في عالم الإبداع، وأهم استعداد أذكّر به دائما هو: "سعة الصدر للنقد، مع التمييز بين نقد صادر عن صاحب هوى أو عدم خبرة، فالأول قد يذم فيحبط، والثاني قد يمدح فيقتل بزرع ما نسميه التعالي ورفض النصيحة الحقيقية"، وحاشانا جميعاً أن نكون من أولئك أو من هؤلاء!
ولا شك أن إتقان الموسيقى الشعرية ليس شرطاً لحدوث الإبداع الشعري، ولذلك لعلنا نقول عن حال من أتعب نفسه في تعلم موسيقى الشعر ولم يكتب فيما بعد (لم يكتشف بترولا... إذ لعله يمتلك منجنيز أو فوسفات أو ثروات إبداعية أخرى!!) إنه لن يخسر؛ بل سيربح معرفة علمية دقيقة تتيح له فهم أسرار جمال الكلام، وتذوق التعبيرات والوصول إلى فهم أعمق وأجمل.
ومن التجربة نقول: قد يتأخر البعض في اكتشاف بتروله الكامن لكنه إن كان أصيلاً يظهر ولو بعد حين، مثل النابغة الذي اعتبره الشعراء الجاهليون مرجعيتهم، لكنه لم يكتب الشعر ليصبح من ضمن الشعراء إلا بعد الأربعين كما جاء في بعض الروايات التي فسّرت تسميته بالنابغة! إذاً لا يأس ولا بأس إن شاء الله!
أما عن تطوير الموهبة والقدرة الإبداعية الشعرية فلا شك أن كل شاعر مهما بلغ من الإبداع يحتاج إلى ذلك التطوير من خلال وسائل أهمها القراءة، والبحث الدائم عن النقد البنّاء والاستفادة منه.
ويمكن لمن أراد أن يتواصل معنا أن يتفاعل مع التدريبات العملية، ولعل الله أن يوفق من نحب إلى ما نحب بسرعة بالغة لا تعقيد فيها ولا تفصيل مع مراعاة عدم استباق الأمور، فالتدرج في طرح المعلومات أو تناولها عنصر هام من عناصر هذه الطريقة السهلة.
ولعل من أسرار السهولة في طريقتنا هذه هو كثرة الترميز واعتبار النماذج الكثيرة التي نرمّزها نماذج يعود المتعلّم لحلها وترميزها، ويقيس عليها، فيتعلم دون معلم، ويمتلك أداةَ تقييمٍ، تكفيه، وتصوّب مساره إذا ما انطلق لغيرها من النماذج. ومن المهم هنا التروّي وعدم الانتقال للمعلومة التالية إلا بعد فهم ما قبلها، وعدم استباق الأمور.
ومن المهم هنا أيضا عدم الإطالة في التقديم لكتابنا! لأن قوام طريقتنا فيه الإيجاز والابتعاد عن المصطلحات والتفاصيل، التي لا تفيد كثيراً في الإنجاز العملي، وتشرّب متلقّي هذا الكتاب موسيقية الشعر بسهولة بالغة. وقد دعمنا ذلك بمفاتيح للبحور الشعرية، والتفصيل المتدرج لآليات التعامل مع أي بحر من البحور، ففصّلنا في تحليل البحور الأولى حتى إذا ضمنا تفهّم المتلقي لها بدأنا نعتمد على هذا الفهم في تقليل الشرح نسبياً، في بساطة تجعل الكتاب معلِّماً يعتمد عليه المتلقي دون استعانة بأحد. وقد بدأنا بتحليل البحور الصافية الخالية من وجود أكثر من تفعيلة على غير عادة كتب موسيقى الشعر العربي، ولجأنا إلى الاعتماد على نماذج شعرية حديثة ومعاصرة قدر الإمكان حرصاً منا على منح المتلقي إمكانات التفاعل مع لغة ينتمي إلى زمانها، وحتى لا يبقى في أسر كلمات قديمة وغريبة قد تقف حاجزا بينه وبين الفهم، وقد تترك آثارها عليه في انفصامه عن لغة عصره عندما يتفاعل ويكتب ويسلك طريق الإبداع.
وحرصنا في الكتاب على تبسيط التعامل مع الحركات والسكنات قوام الوزن والموسيقى الشعرية، لما لمسناه في التجربة العملية من ضرورة حسيّة الربط بين كل حركة منطوقة أو مسموعة، حيث يضمن هذا الترابط والتعادل سهولة عملية الترميز على المتلقي المبتدئ مهما كان عمره، فالأمر لا يحتاج إلى زيادة التعسير عليه بالجمع بين أكثر من حركة أو سكون في رمز واحد.
وتلك السهولة تتطلّب منا هنا دعوة المعنيين والقائمين على المناهج التعليمية في بلادنا تجنب الطرق الغريبة في بعث علم العروض بين طلابنا، من ذلك اعتماد طريقة تحتوي على إضمار الحركات والسكنات، من خلال رموز تحتوي على أكثر من دلالة، ومن خلال الابتعاد عن المصطلحات والتفاصيل في سبيل الوصول إلى فهمٍ أوسع انتشاراً بين الطلبة، فالفهم الدقيق والسريع هو غايتنا، وسهولة تطبيق المهارات وإعطاء فرص كثيرة لأكبر عدد منهم في ممارستها هو هدفنا. وعلى الرغم من ذلك لا يسعنا هنا إلا أن نثمّن إعادة موسيقى الشعر لمناهجنا ومؤسساتنا التعليمية بعد غياب كبير.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب،،،
د. كمال أحمد غنيم