رد: في عيد ميلادك نحتفي/ حوار مفتوح عن شاعرنا الكبير الأستاذ طلعت سقيرق
تحية احترام وتقدير
لا أجد مشاركة في هذا الحوار أصدق تعبيرا عني بكل الحب والشعور بالفقد:
ربَّ أخٍ لك لم تلده أمُّك
بلى، لقد كنت كذلك . كنت أخاً لي في السرّاء و الملمات على مدى رحلة العناء، و حروب تأكيد الحضور و الوجود في أتون حياة صاخبة موّارة حفلت شعابها بالأشواك المدمية أكثر منها بالزهور و الورود المبهجة .
كنت أخاً لي أقرب إليَّ من إخوتي، أبناء أمي و أبي . كنت كذلك توأم الروح الساكن في شغاف القلب . صديقاً فقدت اليوم ... و أي صديق .. أخاً و أيُّ أخٍ فقدت . خسارة جلىَّ، و من الخسائر ما لا يعوُّض ...
يكتنفني من سائر أقطاري بعد غيابك فراغ في النفس أليم مضن، و خواء في القلب فادح بالغ،
اللوعة تملأ جوانحي، و الحُّرقة توهن جوارحي ...
آه أيها العزيز .. أه يا طلعت .. هل حقاً مضيت ...؟ و ... حتى وداعاً لم تقل ... مضيت في صمت و رقة و دعة كما عهدناك في أيامنا الخالية .كنت تضفي على أجواء شلتنا الصغيرة حلاوة آسرة لا تنسى على الأيام .
لم تسئ \على مدى عمرك كله\ – و قد كان قصيراً واحسرتاه – إلى أحد، حتى و إن أساء إليك بعضهم غيرة وحسداً ليس إلا .. كنت تكتم الغيظ و تعفو . لم نعهدك قط حاقداً أو ناقماً .. كنت التسامح عينه، و الطيبة ذاتها . ثرَّ العطاء، سمح النفس كنت . خصالك الأصيلة العريقة .. رهافتك الأنيقة قلما وجدناها في هذا الزمان، لدى كثير من بني الإنسان . أما الوفاء، إذا ما ذكر الوفاء فلقد تجسد فيك على الدوام . كنت تؤثرنا نحن أصدقاؤك على نفسك . لقد بلوت الإيثار و لا الأثرة .. إيثار بلغ حدود نكران الذات . لم تحاول جذب الأضواء إليك .. و لو أنك فعلت لبلغت شأواً من الظهور أبعد بكثير مما نلت منه . و كنت جديراً بذلك و أيم الله .
ما برحت غير مصدق لما حدث . أحقاً غادرتنا إلى ذلك العالم الآخر ...؟ ألا ما أقربه إلينا . كنت بيننا نراك رأي العين، و إذ بك تغدو هناك في لحظة خاطفة ... بلى لقد خطفت من بين رفاقك و أحبائك و ذويك خطفاً ... و ما من أحد يصدق أنك قد مضيت بلا عودة . تفتقدك اليوم دنيا الشعر التي ملأتها قصيداً بالغ الرقة .. رفيع المستوى .. سامي المعنى .. بديع المبنى تماماً كما أنت .. قصيدك كان أنت .. لا تكلف و لا افتعال و لا رياء .. كالنبع الصافي متدفقاً من الأعماق كان.. حلواً .. سلسبيلاً يشفي العطاش .لطالما عبر عن المأساة التي عاشها بنو قومك .. و لطالما أوقد جذوة الحماس في النفوس ... و أحيا الأمل في الأفئدة .
مثلنا تماماً، و على مرّ السنين، كنت تحلم بالعودة، ثم أمسيت على يقين بأن الظروف القائمة، و المتغيرات القادمة تنبئ باقترابها، و انك عائد إلى حبيبتك فلسطين دونما ريب . كنت ترى أنها، و إن لم تكن قاب قوسين فهي قاب ثلاثة أقواس أو أربعة، على أبعد الاحتمالات و الفروض . ولكن ...
أذكر أني قلت لك ذات حديث أني أغبطك ... أنت و من هم في مثل عمرك، و الذين يلونكم، ففرصتكم في العودة مؤكدة لا شك يرقى إليها .. أما نحن فواحزناه لم يتبق لنا من العمر مدى .. كنت سعيداً .. كنت على يقين بأنك عائد إليها .. و أن جسدك يوم تموت سوف يواريه ثراها .. و عندماتبعث حياًّ فلسوف تبعث فوق ذاك الثرى .. و تحت تلك السماء .
آه يا صديقي الذي فقدت .. حتى الأحلام .. حتى أحلامنا نحرمها .. هي أقدارنا .. و هن القدر لا محيص ..
بيد أن روحك الطاهرة – و هذا عزاؤنا- قد عادت الآن إليها .. إنها هناك .. تجوب أرجاءها .. تحلق في أثير فضاءاتها .. فوق الأقصى و الأرض التي باركها الله من حوله .. فوق حيفا (بلد ذويك) و يافا .. و أنت بلا ريب تسمعني الساعة . لي رجاء يا طلعت .. لم تخيب لي رجاء يوماً في حياتنا الدنيا، و ما أحسبك إلا مجيباً لما أتمناه الساعة عليك .. أوصيك أن تمضي إلى (يبناي) الحبيبة .. لتمتع ناظريك بخضرة بياراتها و نضرة زروعها، و أريج برتقالها الوردي ....
آه يا طلعت .. أنت قد مضيت، و ها نحن ممن ينتظر .. غادرتنا أيها الحبيب إلى الرحاب السنية عند مليك مقتدر ... ألا إنها خير و أبقى ..(جنة الخلد و ملك لا يبلى ..)
عزاؤنا أننا بك لاحقون .. و كل آت قريب .. مهما بعدت الشقة و طال الزمن .. و ما نحسبه سوف يطول كثيراً بعد ...
حرُّ الساعة أنت، لا حدود و لا قيود .. لا وثيقة سفر، و لا صفة لجوء .. بعد أن سافرت إليه و لجأت إليه ...
لا أسلاك شائكة بعد .. و لا بغَّالة ... و لا حديد مجنزرات ..
المتغطرسون و من والاهم، من الغرباء، و من الأقرباء ... عبيد الهوى .. أنت الحر و هم العبيد غير أنهم لا يعلمون . هم سجناء الجسد و النزعات و الأهواء و الرغائب . و أنت الحر الطليق في رحاب ربٍّ كريم ..
بلى ها هي ذي روحك المطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية .. في جنة الخلد حيث يشاء ...
و إنا بك غير بعيد ..
بكل الحب والتقدير
يوسف جاد الحق
|