* الجزء التاسع و العشرون *
... الشّتاء هذه السّنة جاء باردا أكثر من سابقيه ... و كأنّه فقدان موسمي لعاطفة دافئة و لحضن موقد كلاسيكي بمدخنة و إطار يُفطر على فحم قروي فاخر .. و أعواد و أغصان .. و لفافة تبغ ضخمة تُعطِّر المكان من وحي مسكها الأخاذ، تنفث دخانا جائرا من صدري ذات زمن بعيد .. !! تطاردني بلعنات زمني الحاضر بدخانها، نكاية في روما و ركحها المسرحي، ذاك الّذي لفظ آخر أنفاس لعشق قديم .. قبل قرون من حادثتي .. في اقتباس تاريخي للوجع و للخيانة .. هل يعقل أن يتلثّم الزّمن فجأة و يفاجئني بأصفار و أرقام فوضوية تربكني .. تلك الّتي يعترف بها العالم من حولي .. تعترف بها التوابيت القديمة .. و القبور القديمة و الأسرار الفرعونية و جسد كليوباترا .. أنثى الجمال الشاهق .. ثم يستفيق و ينزع قناعه فجأة أيضا و يقلّدني رفاته و فوانيس الشّرق الخافتة، المنهارة .. حتّى أنطفئ و بين شفتيّ ميلاد جديد لقصيدة قديمة جدا .. حدّ البدايات الأولى للكون .. جرحي أنكر المسافات الزّمنية، ألغى قوانين حساب الزّمن .. في سابقة خطيرة و رضى فقط بالاقتباسات و التّشابه الحسّي .. لا فرق بين تواريخ ما قبل الميلاد و ما بعده .. و ما بعد، بعد عصر الجنون و الهوس السّطحي ..
الشّتاء أيضا تغيَّر، غيَّر عاداته و معطف الفرو التّقليدي .. بمدفئة عصرية، ترفض أن تُثَبّت على أرض واحدة .. صُنِعت لتكون حرّة في تنقلاتها بين الغرف و الصّالون .. و حتّى مكاتب المكاشفة .. الخارجة عن قوانين العمل، مدفئة متبرّئة تماما من تقاليدها...... كأنثى .
كلّ شيء تغيّر حتى لوحات الشّجن ..
لأوّل مرّة أشعر بوحدة قاتلة و أنا تحت شجرتي، و كأنّي لم أعتد المبيت خارج أسوار غرفتي، أواجه زخّات المطر الغاضبة المرتطمة بتقاسيم وجهي المضطربة .. كأنّها دعوة جادة و صارخة للبكاء، كأنّها دعوة للتّحالف من أجل تعبئة الوادي المجاور بمياه ساخطة متمرّدة، مستهترة .. ستجرف كلّ عاشق أراد الاختفاء بين أحجاره و تحت أشجاره الوارفة .. يحرّر قصيدة انصياع .. يحرّر الشهقات و الآهات و شيئا من حبّ مجنون .. تجاوزها الزّمن ..
الشّتاء بتهكّمه الشديد، أضاع جدِّيتي .. و شوَّه معالم نزعتي نحو الاستقرار العاطفي و الرّوحي الجاد ..
قريتي و الشّتاء قضية وطن .. تسرف في ارتشاف مياه وديانها حتّى الثمالة .. ثمّ تنهض و بين أنفاسها الشّتوية الطالع، مكاشفة وطنية تهزّ أواصل الاعترافات السّطرية .. لا شيء يضاهي كشف الأوراق علنا و بلسان فصيح .. دون الحاجة لقراءة عابرة .. ثم يأتي الفجر و فوق كتفيه حمامة بريّة بيضاء .. تفرد جناحيها لتغطّي مسافات اللّيل القاتمة ..
صارخة هي الطبيعة في عبثها هذه اللّيلة .. حتّى أفرشتي انتحرت خلف الرّداء العاجي الّذي لبسته السّماء حقدا و زهوا .. حتّى شجرتي عجزت أمام جبروتها ( الأنثوي ) .. ليلة اضمحلت فيها كلّ معالم السّكينة .. و حلّت محلها عواصف مجنونة، مجبولة على التّهديم و التّدمير ..
دلفت خارجا في ساعة جدّ متأخرة .. كان اللّيل قد مدّ قدّه الفاره ليغطي فجوات النّور المتسلّلة من مصابيح بعيدة .. و في غمرة حبّ قاسية، تجرّدت الطبيعة من هوسها و ولعها المجنون في التحرّش بالرّبيع في غير موسمه ..
فجأة تداوت السّماء بقطرة مطر .. غسلت شجنها لهنيهة، قبل أن يدّوي الرّعد و يسرح البرق كألعاب نارية في الفضاء البعيد .. كان يتصوّر على شجرتي بملامحها .. بقدّها .. بجسدها النّحيل، كثيرا ما كانت تفاجئه إغفاءة و لحظات شرود .. يسهو على جسدي .. فيتحطّم بذلك شيئا منها رفضته عنصريّتي .. حتّى تحطّمت .. أمام انكساراتي ..
تغيّر منطق الصّمت حولي .. صراخ صاخب، لرعد يتيم فقد لتوّه والديه ... و صعقات و برق و طوفان ... و نار و حريق مهوّل ...
اللّعنة تتبّعتني .. صعقة غاضبة أصابت شجرتي فأردتها قتيلة .. و قتلت بفضل اندفاعها الغيور طيف أنثى، كانت للتوّ سيّدة و مالكة على أرجوحتها، على أغصانها، على ظلالها، على زهرها و ثمراتها و أعشاش الطيور و فراخها .. كانت مالكة هناك على حقائبي، و على موطني و على آثار طفولة شرختها أصداء النّساء .. أعادت هي وصل المقطوع منها بتواطؤ نسائي و القدر الجميل .. لأنّها كانت أجمل ما حدث لي منذ زمن الرّجولة .. شبّ حريق عظيم بالشجرة واكبه صراخي المكتوم و بكائي الصّامت .. و نظرات استلهمت من البرق اندفاعه و بريقه المحموم .. تُعاكس تلك المرسومة على لوحة السّماء و تشنّجات على مستوى الجزء من الذاكرة، الّذي كان يخفيها كذكرى جميلة .. و كأنّه تزامن رهيب لعدد من الحرائق .. !!
أتراه جرحي من نقل عدوى الاحتراق لرفيقة عمر بحاله ... ؟
لم يفق أحد . و لم يجرؤ أحد على إيقاف غضب الطبيعة، من تحت أفرشته الشّتوية,, فقط كنت أنا .. أرتدي لواء وطن و ظلّ أنثى تصوّر .. نكاية في أرض حملت ظلّين .. مهووسين بالانتقام .. ظلّي و ظلّ شجرة للتوّ عاكستها رغباتها .. فماتت هي ..
وحدي كنت أراقب في سكون مدمّر .. مراحل الاحتراق، بدءا من شرارة اللّعنة الّتي انحطت على كتفيّ لمواساتي قبل وصولها لتفتكّ بالشّجرة .. كنت أرمق الدّخان بنظرات منتشية و رغبة مميتة في تقلّد مراسم الاحتراق .. و تتويج ذاكرتي ملكة على عرش الاشتعال المشبوه .. و هي ..بركان خامد بدعوة مستترة للاحتراق بين حنايا الألم .