- هل تأتي لتأخذني أم امرّ أنا وننزل بسيارتي ؟!
- لا ، تعال خذني ، فأنا لا أرغب في القيادة ، وهذا ما تحبه أنت !
:
منذ الأيام الأولى من صباهم ، كانوا لا يفَوتون حدثا او مناسبة إلا ويقضونها مع بعضهم البعض ،
أكانت المناسبة حفلة مدرسية ، أو فنية ، ثقافية ، أو مهرجان سياسي ، أو رحلة استجمام
أكانت قصيرة أم طويلة . همّا رفقة صبا. صديقان حميمان ، كبروا ، صارت لهم بيوت ، كبرت
عائلتهم وبرغم كل الظروف لم يفترقوا إلا قسرا ؛ وكلما مرّ الزمن وضاقت دائرة اصدقاءهما
المشتركين تزداد بينهما المودة والمحبة ، ويزداد بينهما حجم الذكريات التي صارت إرث حياتهما المشترك .
أسعد لحظات حياتهما حين ينبشون الماضي بذكرياته ، ولا ينسون أبدا تفصيل صغير حتى لو كان بالنسبة إلى الآخرين تافها !
مازالوا على طباعهم ، ف" وليد " دائما يسأل وهو يعرف الجواب ، مع أن السؤال مكرر آلاف المرات :
" هل آتِ ، أم تأتي أنت " ثم يذهبون إلى حيث قرروا ؛
أما ذاك اليوم ، فكان له حكاية مختلفة ، صدفة من النادر ان تتكرر ، ولكنها حدثت في ذلك المساء !
ركبوا سيارتهم وتوجهوا نحو العاصمة مثل كل عام وفي مثل ذلك التاريخ ،تستقبل بيروت مئات
من دور النشر العربية حيث يقام معرضا للكتاب العربي ، يُعرض فيه أحدث الإصدارات في مختلف
صنوف الأدب والعلوم و الكتب المختلفة ؛ وكعادتهم في كل عام ، يتفق " عدنان " و وليد على إما
حضور حفل الافتتاح وإما تخصيص يوم او يومين يصولان فيه ويجولان أرجاء المعرض ، باحثين
عما قرروا مُسبقا شراءه ، أو يصادف أحدهم كتاب يغويه فيشتريه ؛ وتقام في ساعات الذروة من
النهار استراحات يتحلق خلالها بعض المعجبين بكاتب حاضر لتوقيع مولوده الجديد ، أو لتناول القهوة
أو المشاركة في حوارات مع بعض الكتّاب الذين يثار جدل حول جديد ما كتبوا .. كل ذلك يجري ضمن
حلقات سمر هادئة تعكس أجواء الفن والأدب ونوعية زوار هذا المعرض
المثقفين وبعض أشباه المثقفين الذين يلتزمون بما فرض عليهم من الهدوء والكياسة والرقي .
:
انتفض عدنان فجأة وأمسك بيد وليد وأقامه عن مقعده حيث كانا يستريحان وقال بلهفة :
أنظر .. بربك أنظر جيدا .. هي أم إني أحلم ؟!
- من تقصد ؟ لا .. لا .. ربما لها نفس الملامح .. ما بالك يا رجل ، إنها عشرات السنين !
- نعم .. ولكن أنظر إلينا ، هل تغيّرَ شكلنا كثيرا منذ ذاك التاريخ ؟!
- يا صديقي هذا يتوقف على من يرانا بعد أربعة عقود ! أما أنا وأنت
فإننا نرى أنفسنا كل يوم ، وبالتأكيد لا نلاحظ التغيير على وجوهنا إلا قليلا .. لكن ضع صورة
لوجهك قبل أربعين عاما ، انظر إليها ثم انظر في المرآة !
- اتركنا من فلسفاتك الآن ، تأملها جيدا وقل لي .. قم ، قم معي
سأدور خلف ذلك الجدار وأمر من أمامها مباشرة وسوف ترى !
- ألم ترى عيناك من يرافقها ؟
- سأكلمها ولو كان جنرالا في اكبر جيوش العالم يا جبان !
- وبالفعل التف عدنان وذهب باتجاهها مباشرة وتقدم نحو مرافقها ، تحدث إليه بعد أن باغته و سلّم عليه بحرارة وقال :
ألم تعرفني حضرة اللواء ؟ أنت خدمت في مدينتنا ! "
ابتسم العسكري وقال : " يبدو أنك تتحدث عن العميد ذياب ، فهو يشبهني إلى حد ما "
اعتذر عدنان ونظر نحو السيدة وحياها وهو يبتسم لعلها تبدي أي إشارة عبر نظرها أو وجهها تدل على شيئ ما
يتوقعه فلم يظهر عليها ما يفيد أنها رأته من قبل ولكنها ابتسمت ابتسامة عابرة بعد أن ردت التحية ومشت .
دار جدل اعتاد عليه الصديقان بين من يؤكد بأنها سعاد ، وبين وليد الذي لم يكذب صديقه الخبير أو يصدقه لكنه
أقرّ وقال : - تفاجئني دائما ايها الملعون بجرأتك وبأساليبك في الحديث مع كل الناس "
قال وليد وهو يعلم أن تلك الكلمات كافية لترضي غرور صديقه الذي طلب قهوة ساخنة مرة جديدة ،
وجلسا في مقعدهما يرتشفان منها على مهل . ضجة المكان " والمفاجئة " فرضتا عليهما الصمت ،
فعدنان كان يقلب كتابا بين يديه ، وعينا وليد تلاحق وجوه المارين باحثة فاحصة وعقله شارد ثم نظر
نحو عدنان بوجه ملحّ سؤاله ردده مرتين ، ثلاث مرات وقال :
" هل تأكدت جيدا ؟ !"
يبتسم عدنان كعادته ويردد جملة كلما وقع وليد في حيره يقولها له : " ألا تريد أن تكبر يا صبي، إكبر اكبر "
ثم يضحك بخبث وهو ما زال يقلب صفحات الكتاب ، ثم وفجأة ، كأنهما وثبا معا إلى ذلك الماضي البعيد
بدت ملامحهما متغيرة متبدلة ، مرة يبدوان كطفلين فرحان يضحكان ببراءة .. ومرة يكشف ضوء القاعة
الساطع خطوط الزمن التي ارتسمت على وجهيهما بعمق ، فذكريات ذلك الحدث تحتل قدرا كبيرا من مساحة ذاكرتهما
يكرران الحديث عنها دائما وفي مناسبات عدة كأجمل بقعة ضوء في حياتهما على تعدد مثيلاتها، ألا أن مساحتها
كبيرة وضوؤها متميز ، لا تفارق ذاكرتهما كأنها حدثت بالأمس القريب .
:
:
كانت تقف أمام مكتب موظفي الجوازات ، تنتظر دورها كباقي المسافرين قبل التوجّه نحو الطائرة
الجاثمة عند أحد مدارج مطار بيروت ؛ وكان مثل غيره ، واحد من الذين أطالوا النظر إليها مبهورا بجمالها
حين التفت نحو صديقه عدنان وجده ينظر إليها أيضا ، ولكنه لا يبدي نحوها بأي إعجاب فقال له همسا :
" يا ليتها تكون على ذات الطائرة التي ستقلنا " ! فأجابه عدنان باستهزاء : ولم لا تقل وذات الوجهة الذاهبون إليها أيضا !
أما تلك الجميلة ، فكانت تبدو أنها تعرف نفسها جيدا ، وأن كل من يراها سوف يطيل النظر إليها ، النساء قبل الرجال!
وربما اعتادت أن ترى الأعين وهي تلاحقها أينما حلّت وكيفما اتجهت ، وعلى ما كان يظهر ، لم تعد تكترث
حتى لمضايقات البعض السمجة وحركاتهم المراوغة ، بل كانت تبدو باسمة ، فرِحة ، وفي غاية الهدوء .
أسنانها اللؤلئية لا تعرف التستّر ، وتشع بنور ابتسامتها الساحرة ،
فمن يقع ضحية النظرة الأولى من عيناها ، يتصرف كالأطفال وهو يطيل النظر
إلى وجهها النضرّ، إلى ثغرها الشهي ؛ فجمالها صارخ .
عيناها بلون البحر ، يحرسهما حاجبان قد رُسما بفن باهر على جبهتها الملكية .
شعرها متوسط الطول ، خصلاته ، كأنها شلل ذهبية ، يتهادى على كتفيها
ويتأرجح على إيقاع مشيتها ذات الدلال ، فتارة يغطي بعض أجزاء من وجهها
وتارة أخرى ترفعه بيدها وتحركها بطريقة أنيقة - تبدو عفوية - كلما تهادى
أو لفحته نسمة هواء تدفعه مروحة يابانية صغيرة ، كانت تحملها بيدها فلا يصمد
أمام نسيمها البسيط من فرط رقته ونعومته بالرغم من كثافته الملفتة للنظر .
بيضاء اللون ، وجهها مزهواً بحمل شفتين كأنهما حبات كرز ندية ،
وعلى الوجنتين ، يا سبحان الخالق ، كأن الجمر أكتسب جمال لونه من حمرتهما .
كانت تلبس ثوبا أبيض اللون طويل فضفاض ، يغطي حتى أخمص قدميها
يضيق عند خصرها الضامر الرشيق ، ويكشف عن نهدين بارزين وكتفان
يتمنى الورد ملامستهما بشفتيه والانتحار على صدرها .
كل ما فيها جميل وأنيق ، كطائر أبيض اللون نظيف ورائع، كأنها ملاك
أرسله الله ليختبر بها عباده المؤمنين ! فكل من نظر أليها بات مسحورا مأسورا
لجاذبيتها ،لا يسعه إلا أن يُسبّح الله الذي خلقها أو، يشكو منه إليه !
:
إلى جانبها كانت تقف فتاة بدت كأنها صديقة لها أو قريبة ..
أقل جمالا وأطول منها بقليل .. ولكن جرأتها تلفت الأنظار !
فعيناها لا تهزمان في مبارزة إذا خاضت معركة مع عينا شخص آخر ،
كانت تبدو واثقة من نفسها وتمتلك شخصية قوية وبدا أنها من تقود .
:
يبدو أن أمنية وليد قد تحققت ، وها هم يركبون نفس " الباص " المتوجه
نحو سلّم الطائرة ؛ و يا للصدفة الرائعة ، فقد جلسوا على نفس المقاعد المتجاورة
لا يفصلهم سوى ممر ضيق ، فرغ تماما من أي حركة حين أقلعت الطائرة محدثة ضجيجا قويا أسكت
لسان الجميع ولكنه أثار في تفكير البعض شيء من الشك بأن حدثا ما قد يصيبها أثناء التحليق !
فالطيران البلغاري كان ما زال يستخدم الطائرات بمحركاتها الهوائية التي لا تتسع لأكثر من
سبعين شخصا والتي كانت تطير على ارتفاعات متوسطة وتمر بمطبات تشعرك بالخوف اكثر
مما تشعر حين تحلم بأنك وقعت من علو مرتفع .
لم يعرف كيف جرت الأمور وبتلك السرعة ، ولكنه لم يفاجئ حين وجد صديقه عدنان يتحدث إلى "سعاد "
ويميل بجسده نحو منتصف الممر الفاصل بين مقعدهما حتى تسمع ما كان يقول ، الأمر نفسه قد وضع
رأسها في منتصف الممر وتميل به نحوه .
سًعد " وليد " كما عادته بتعجب ، لأن لديه صديق يفوز دائما في أي مضمار سباق
إن كانت الجائزة فيه أنثى ، وقد ضمن بأن عدنان قد استقرّ نظره على هذه وليس تلك
التي كان يتخيل لأجلها أشياء كثيرة في وقت قصير ، فأدار برأسه نحو شبّاك
الطائرة وهو مطمئن ، وسرحت عيناه في عجائب خلق الله وعقله كان يفكر
في أشياء كثيرة أقربها تلك اللحظة التي سوف يرفع فيها يده – كان متأكدا - لتسلّم على يدها الرقيقة
فهو يعرف جيدا اساليب رفيقه ؛ " فالجميلة " كانت على الجانب الآخر من الطائرة ، وكانت تنظر أيضا
من شباكها ، ولكن بماذا كان يفكر عقلها .. كان ذلك في علم الغيب !