رد: (( لا تحيا إلا بالعناق ! ))
بالرغم من أن جميع الأيام متشابهة ، ألا أنها كانت من أجمل الايام التي مرّت على الأشخاص الأربعة كما أسرّوا لبعضهم .
كانوا ينهضون باكرا ، لا وقت ليضعوه في النوم ، يتناولون طعام الإفطار والذي غالبا كان في مطعم الفندق وهم في لباس البحر
يتسللون إليه من خلال بركة السباحة الملاصقة لبهو المطعم المخصص للإفطار المجاني .
الجميل في الأمر أن ممرا مائيا ضيقا يربط ما بين عدة اماكن للسباحة ، فهذا مسبح مغلق مياهه دافئة
تخرج منه إلى مسبح آخر مفتوح عبر ممر مائي وانت تسبح ؛ ما يفصل بين المياه الدافئة والباردة ارضية ملساء
ترتفع رويدا رويدا وسط الممر ثم تنحدر نحو الجانب الآخر دون أن تشعر بتغير فجائي في درجة المياه ،
ولو أردت يأخذك هذا الممر نحو برك المياه الساخنة التي تخرج من الينابيع الجوفية المعدنية الحارة ..
ولو شئت أيضا لسلكت ممرا مائيا يوصلك إلى مركز العلاج الطبي حيث يعالج الكثير من المرضى ويشفي كثير
من الأمراض على ما تقول تلك الطبيبة التي تغزّل بعيونها عدنان عندما كان ممددا على سرير الفحص ، أحب
أن يدلّع نفسه ويجرى لجسده فحصا طبيا مجانيا فردّت عليه بعربية فصحى قائلة : " أنت في أحسن حال ،
شكرا لك لأنك قلت أن عيناي جميلتان " فصاحبنا لم يفاجئ بل وبدلا من ذلك صار يغازلها ويضرب لها موعدا
حتى أضحكها ومساعدتها لكثر إلحاحه وطريقة حديثه ، وأضحك رفيقه الذي سحبه من يده وشده نحو الباب ، والطبيبة تقول :
" خذه ، اسحبه خارجا لئلا يأتي صاحبي ويضربه فهو رياضي مثلك !
الشواطئ هناك ممتدة على مدى النظر وابعد ، رمالها ذهبية نظيفة رائعة ؛ كانت الساعات تنقضي ولا يشعرون
بالوقت كيف مضى ما عدا الجوع الذي يدفعهم للخروج من الماء ، كانوا يتناولون أي شيء على الغذاء ، ينامون قليلا
وقسرا ..ولو شاءوا العكس سوف لا يجدون بعد الظهيرة سوى الفراغ ، أو الذهاب إلى وسط المدينة للتسوق أو
التجوال في شوارعها ، جنائنها ، متاحفها القديمة والحديثة ، وبإمكانهم تناول أطعمتهم بمطاعم مختلفة وبأسعار
رخيصة لا تصدق كان أشهرها ذلك الذي يقع على حافة المدينة يقدم الأسماك و " يخنة السمك " .
وأغربها كان مطعما يرفع يافطة باللغة العربية كتب عليها " خروف محشي " ! يافطة كانت تغش كل عربي
يراها .. يدخل فلا يرى سوى أرزا مطبوخا " مفلفلا " يقدمونه في صحن متواضع فوقه قطعة لحمة مقلية !
أما سهراتهم ، فكانوا يقضونها في أماكن اللهو المختلفة ؛ في الليلة الماضية ذهبوا إلى دار الأوبرا ووقفوا
طويلا بانتظار أن يحصلوا على مقاعد فلم يوفقوا ، تعرفوا هناك إلى عائلة روسية ( امرأة ورجل وابنتهم )
تحدثوا إليهم طويلا ، كان وليد ميالا لليسار وكان يعتقد أن كل روسي شيوعي .. فحين قال للرجل " يا رفيق "
رد قائلا وبلطف زائد " باستطاعتك مخاطبتي باسمي ، ديمتري "
- ألست شيوعي ؟ " فقال : " دعك من ذلك " ضحك واردف " فرق أيها السيد بين أن أكون شيوعي أو
عضوا في الحزب الشيوعي ، خذ عنواني حيث اقيم وتفضلوا إلى مسكننا " فقاطعه وليد وسأله :
" ألا تسبحون ؟ دعونا نتعرف عليكم أولا فأنا وباسم اصدقائي ادعوكم لنشرب شيئا سويا عند مسبح الفندق غدا "
نظر الرجل الخمسيني إلى زوجته وابنته وتحدث بلغته حيث بدا أنه أخذ موافقتهن فقبل ذلك وافترقوا .
اليوم التالي . شعر وليد بتململ سعاد وبيرنا فهن لا يتحدثن الإنكليزية ، كان هذا هو المبرر .. لكن الأمر قد فرض نفسه
ولا يمكن لوليد التراجع عن الموعد ، فاعتذرتا عن حضور اللقاء على أن يلتقون عند الغذاء .
كان الرجل الروسي دقيقا في موعده ، لم يعرف وليد كيف دخلت العائلة مسبح الفندق دون تصريح ، لقد حضروا بلباس البحر
زوجته وابنته سبقتاه إلى بركة السباحة ، توجه الرجال الثلاثة إلى هناك ، تعرفوا على بعضهم البعض ودار حديث يتعلق
بالمنظومة الاشتراكية و" الإمبريالية العالمية " والحزب الشيوعي والحرب الدائرة في لبنان والقضية الفلسطينية
وغير ذلك من قضايا .. المستغرب أن الزمن في مثل ذلك الزمن حيث لا وجود لثورة اتصالات ولا ثورة معلوماتية
ولا انترنت ولا فضائيات ومع ذلك استطاع وليد و" ديمتري " الفهم على بعضهما البعض ، الفضل الأكبر في ذلك
كان لأستاذ الكيمياء الروسي الطيب ، والذي اوضح لوليد ما أشكل عليه بالأمس حين قال :
" أنا شيوعي ولكني لست حزبيا ، أؤمن بالفكرة ولكني اشك بتطبيقها " !
حين قال ذلك كان فمه قريبا من اذن وليد الذي كان معتادا على انتشار الجواسيس والوشاة في وطنه
أولئك الذين دمروا كل شيء إنساني ! أما عدنان فقد سحر " تتيانا " وابنتها " آنّا" ببهلوانياته ومواهبه
بل انه غاب معهن حيث قدم لهن البوظة وترك وليد ودمتري تحرقهم الشمس والعيون .. !
لقد كان ذاك الروسي كريما جدا بالفعل ، ولم تكن دعوته لوليد وأصدقاءه لبيته دعوة عابرة ،
بل كان متماديا بالكرم ؛ في اليوم التالي حضر إلى الفندق باكرا جدا ، لم يكن متطفلا ، اختصر
الحديث وهو واقف ، أعطى وليد أربع اسطوانات موسيقى كلاسيكية ، وطلب منهم الموافقة
الفورية على دعوته للعشاء في بيته ! احتار وليد وعدنان وترددوا خوفا من عدم موافقة رفيقتيهما فاقترح ديمتري
أن يبعث ب تتيانا لإخبارهن بل ولترافقهن إلى منزلها إن احبوا ذلك !
لم يكن الأمر صعبا ، ولا كانت المسألة معقد ، فالأربعة رفاق قد حملوا شيئا ثمينا وذهبوا إلى عنوان تلك
العائلة التي كانت تقيم في إحدى " الفلل" الأنيقة ، المفاجئة كانت أنهم لم يشعروا أنهم في بيت عائلة أجنبية
كان كل شيء في ذلك العشاء حميم ،ولطيف ، الكرم بلا حدود كأنك بين عائلة عربية عريقة ف " تتيانا "
أوكرانية الأصول و ديمتري " روسي قح " وبالرغم من ذلك كانوا في غاية اللطافة والكرم ذلك ما أدهش
سعاد التي لم تخفي تحفظها حين قالت أنها كانت مترددة في المجيء .. لكنها في تلك اللحظة أعربت عن
إعجابها بتلك المرأة الأوكرانية التي كانت تقوم وتضع اللقيمات في فم بيرنا وسعاد كأنها والدتهن ، وكانت آنا
/ الفتاة الجامعية / تقلد والدتها وتضع لقمة في فم عدنان الشره وهي تضحك . لقد كانت ليلة رائعة لا تتنسى
تبادلت الإناث فيها الهدايا والضحكات .. حين غادروا خرجوا وفي نفوس الجميع علامات رضى غريبة ..
تبادلوا القبلات وهم يودعون .. لم يتخلل السهرة أحاديث في السياسة باستثناء تلك اللحظة التي رفع فيها ديمتري
كأسه ، قال جملة لم تعجب بعض الحاضرات كثيرا ، بدا أن ديمتري كان بالفعل من أصحاب المبادئ ..
فحين رفع كأسه أغرقت عيناه بعاطفة " الفودكا " وقال بحماس : " نخب الثورة الفلسطينية " !
|