* الجزء الثاني و الثلاثون *
[align=justify]
... قبل أكثر من عشر سنوات .. تعرّضت لحادثة لا أحد يعلم عنها شيئا لحدود السّاعة .. فقط عزيز و قد مات .. ليأخذ معه تفاصيل سرّي للأبد .. و ليفقد الحزن مساوماته المرهقة .. و لتفقد المراجيح المنتشرة بالمدينة و بقريتي سطوتها و تتفرّغ للملمة شظايا طفولة كَسَرْتُها عن قصد و دون قصد .. !! عزيز مات و حرّر شيئا من وجعي بين أشجار الزّيتون الّتي تحادثه كلّ خريف، بحبّاتها السّمراء .. قبل أن تجنى و يسترجع بعدها وحدته القاتلة ..
كانت أمسية حالمة .. بدقّاتها الكلاسيكية و شيء من رومانسية مشفّرة، محبِطة .. تطالب بطاولة سحرية و مجموعة شموع متّقدة و أزهار ملوّنة تغطّي شظايا مزهرية مكسورة .. فقط للتّضليل .. و كأنّه استنطاق للغيب و حالة لا وعي تمهّد لانكسار قريب .. في يوم كنت وحيدا منكسرا .. الفاجعة لا تأتي إلّا متأخرة .. في منتصف ليلة سعيدة .. حيث تقتضي حتمية السّهر، فصلا آخر تعنونه الذّكريات الحزينة أو استتباب لحالة شجن آنية ..
غادرت شقّتي .. قاصدا شقّة بشارع مجاور، لصديق لي ... ليلتها لم أحمل وثائقي الثّبوتية و كأنّي حاولت أن أتنصّل من شخصيّتي و من انعكاس صورتي بمرآة معلّقة بسماء حديثة العهد بالضّباب .. فكان أن محت عنّي جزءا من ملامح جريئة .. و تركت فوق هفوة السّطور، شيئا من تقاسيم حزينة ..و نقطة سوداء لامعة .. تضاعفت بعدها بساعتين .. !! كنت أحمل فقط .. !! مجرّد فتات لصورة ممزّقة، كنت أحفظها للذكرى .. و قطعة شعرية تشحن هوسي .. و قلم جاف أسلت حبره عنوة .. و كأنّني أستبيح بذلك منطق الصّمت المدقع ..
حتّى علبة سجائري كانت شاغرة ..
حملت طفولتي و أرجوحة كانت تملؤني غبطة من الحين للحين .. كانت معلّقة على حبل أنفاسي المضطربة .. كلّما اضطربت أكثر تمرجحت و تمايلت يمينا و شمالا في صورة جسد يتهاوى .. و كنت أقصد تمايلها كي تُشنق الهفوات، كي يُشنق حدسي عن آخر صفعة لقنّني إياها، كميلاد لشيء مؤلم قد يحدث .. كي أنكر عن نفسي تهمة أردتها خيالا .. و تحقّقت فيما بعد واقعيا، و كأنّه سوء تقمّص للأدوار .. !!
جلسنا نتسامر، كنت أوقّع على انتكاساتي بابتسامة شاحبة .. و أغدق من فيض زيف القهقهات ما يشحن السّهرة بنكت فاشلة ... ما كنت لأفهم تفاصيلها و أنا في حالة ذهول تام و شرود يصلني بحدود الصحراء على بعد ألاف الكيلومترات .. من الوّعي .. كنت شاردا كحرف دخيل على سطرين .. لا القصيدة تكفله و لا التّمزيق يقرّر ميوله .. و لا هو قادر على الانتماء لأيّ بيت شعري، خدمة لأنثى ..
كان أحد رفاق صديقي شرطيا قادما من الغرب الجزائري .. من ولاية وهران و كان ينظّف مسدّسه، بطريقة متأنّية، حذرة .. تقطعها أحيانا شحنات الضحك المتتالي .. حينما هممت بالمغادرة و بحركة سريعة كأنّني استعجل أمرا ما .. مررت بمحاذاة مسدّسه، تلك كانت وجهة خاطئة، كمن يبحث عن وجهته الشّرقية بين أطلال الغروب .. و يدعّي فيما بعد، أنّ الشّرق ينتهي حيث يفضح المساء زمنية مسافاته الغربية .. لا حاجة بعدها للسّير فوق الشّفق .. إنّما مراجعة الخطى باستقامة شديدة، كفيلة بتحديد الاتجاهات .. فجأة انتصبتُ فوق ظلالهما الطويلة هو و مسدّسه، أحجبُ عنه تركيزه، فارتبك .. متورّطا مع مسدّس كان يبحث عن انتماء للطلقات .. أفزعته حركتي المجنونة المباغتة، المسرعة، كان قد فرغ من تنظيفه و همّ بشحنه، تاهت رصاصة طائشة منه لتستلقي على خاصرتي و كأنّها أرادت أن تمارس جنونها في التمرّد على مسدّس .. عيبه الوحيد أنّه أخرسها و ينوي أن يخرسها لوقت مجهول .. فكان أن تكلّمت على جسدي تجسيدا لرغبة مشروعة بينهما .. !!
و الرّصاص كأنثى .. محاصر بالصّمت و الشّجن .. تفلت منه و في لحظة سهو، لقطة مجنونة تواريه شمس العصيان .. فيتمرّد و يرقص و يُشعل صوته المكتوم .. ليدندن في عزّ اللّيل و يعزف وجعه على ناي بحر هائج .. قد لا يسمع صوته أحد، لكنّه في قرارة نفسه يشعر بانتمائه لجسد حزين .. يشعر بالتّغيير و بهفوات تمرّده الصارخ ... رغم أنّه لم يسجّل ملكيّته الخاصة على صفحات اللّيل .. الخالية، ليطالب بحقوقه كاملة عند كلّ تمرّد آخر قد يشبهه لحدود غير معقولة ..
حتّى الرّصاص يبحث عن شرعيّة يمارس خلفها نزواته .. و إلّا كان متمرّدا على كلّ شيء، يقتل بشهوة و يمزّق دفاتره ..
في الشّرق، الرّصاص متجبّر .. يتسكّع جهارا فوق الأجساد البريئة .. يغنّي، يرقص،
في الشّرق، الانتماء لرصاصة طائشة تحكمه حتمية خاصة، تقضي بأن يغازل كلّ جسد يعترف بميوله الشّرقية بقطعة رصاص ..
في الشّرق، الرّصاص ديانة شرعية .. يجوز اعتناقها في كلّ الفصول، في أيّة ساعة حربية أو سلمية .. في النّوم، في اليقظة .. فوق السّطور ..
في الشّرق، قد تحمل أنثى و تضع مولودها استنجادا برصاصة .. تجبرها على استقدام مخاض أحمر ..
في الشّرق، الصيف يتعرّى، و الشّتاء يتعرّى .. تبقى قصيدتي فقط من تلبسها الأمنيات ..
في الشّرق، يرقد الفجر باكرا .. و يفيق باكرا .. و ما بينهما سهاد قاتل .. بحجم ليلتين و يومين ..
في الشّرق، عشقت أنثى .. و مزّقت أنثى كورقة ذابلة .. و رسّخت أنثى حتّى كادت تقتلني بصماتها الحاقدة .. في الشّرق، فضحت غباءً فوق تذاكيها و نثرت فوق شباكها حبرا بحجم بحر جدير بملامسة عطرها .. كنت أريد أن أكتب آخر قصائدها بريشة ألفّها من سجائري و شيئا من خصلات شعرها .. حتّى يكون الرّماد فيما بعد رهيبا في تلوّنه بين سمرة و شقاوة شقراء .. و يكون الاحتراق وجيها في انتمائه لقلادة شمسية فاخرة ..
في الشّرق، أنجبت و قتلت طفلي فوق كفّيها .. و انحنيت أقبّل كفيها عن قصيدة كتبتها من وحي القبل و ضريح لطفل صغير ..
في الشّرق، حضرت جنازتها .. يوم ألبستها كفني و بقيت أردّد شعارات نشلتها شفتيّ من مظاهرة عربية، مرسومة فوق الشّفق .. ذاك الّذي يعلو الواد الكبير .. دون غيره .. تلك حدود موهبة طفولية، فالأطفال لا يجيدون حساب المسافات الّتي قد يلاحقها الغروب .. و لا تلك الّتي يحاصرها الشّروق .. و لا تلك المتبرّئة منهما .. كلّها ألوان صارخة، جريئة .. تمتّد لخارج الصفحات .. في الشّرق، تلقّيت رصاصة كعربون وفاء .. و تأكيدا أنّ المسافات لا تقطع حتمية الجهاد .. و أنّ الرّسم المشهود لشبه الجزيرة العربيّة اتّحد فجأة مع تفكيري .. فكوّنا قارة جديدة .. بمحيطين .. !! متناسيين شواهد العروبة الأخرى .. و أنّه قد حان الوقت .. لاستكشاف جديد .. !!
في الشّرق، اتّحدتُ فجأة مع الموت .. فكان أن جنّبني هواجسه .. و ارتمى في حضني لثوان .. ثم ودّعني عن انتكاسات مدمّرة .. في الشّرق كان ميلاد جديد، لشجن جديد .. لا يمتّ لأنثى بصلة .. غير أنّها الأرجوحة الموصولة بين الدّفّتين ..
[/align]