* الجزء الثالث و الثلاثون *
... ذلك الشّجن المكبوت في رصاصة طائشة .. فجّر مراهقتي المحاصرة منذ زمن بعيد .. و أشعرني برغبة جارفة في اختراق المجهول و كأنّي في لحظة مجنونة، قرّرت أن أعايش الموت لبضع ساعات .. علّني أجد سكينتي المفقودة .. و لأمارس نوعا جديدا من الحياة لا تفقهه الأحزان، حتّى أغتالها .. ( شفهيا ) بآخر نَفَس .. لأهزم رّوتيني اليّومي، الّذي شطرني نصفين في لحظة نزيف داخلي .. و كانت تلك الرّصاصة بجبروتها و رغباتها القاتلة في التمرّد .. طريقي الوحيد لتحقيق شيء من تلك الخواطر .. لتحقيق آلام خاصة .. كأنثى .. جاءت لتقلب تفاصيل انقلاب عسكري و تُلْبِسَنِي إياه، نوعا جديدا من الانقلابات و وجها جديدا يسكن مرآتها ..كلّما صرخت خرجت من فوهتها أبخرة تحمل تشفير الأمنيات المغتالة .. كلّما عاودتها " قهرا " رغبة الصّمت دارت قهرها ببقايا دخان سجائري .. و هي تعلم أنّ الاحتراق كان كبداية شرعية للنّسيان و .. لتفنيدها .. ذلك أنّ السّيجارة الملفوفة فوق الدّمار تحترق بسرعة، لذلك تعمّدتُ مزج الأعماق بقطعة مخدّر كي أُخْرِسَ الدّخان عنّي .. و حتّى أحلّق فيما بعد معه، كما لو كنت آخر شيء يُنْفَثُ بعد الانطفاء .. !!
تلك الرّصاصة غُرِزت بتواطؤ أنثوي صارخ .. كي تسرح بي في عالم مجنون و كي تورّطني في قضية انتقام وطنية، هدفها فكّ الحصار عن ميولي الحَرْفية .. و لتَعْبُرَ جسدا، كان لفترة طويلة مغلقا تماما كمعبر رفح ... فجّرت بوقع ارتطامها بصخرة حزني، مخزنا لتعاطي الحزن، فجرّعتني أهواله كأسا، كأسا، حتّى أدمنته .. فتحت نافذة الألم على مصراعيها .. الألم الجسدي المحض .. قبل أن تُمَهِّد لغزو قاتل، استهدف روحي المعذّبة بمفهوم آخر و بشكل جديد لم تشهده واقعية الأحزان في حياتي ..
حين وصلتني رسالة الرّصاصة المشفّرة على بعد يسير من المسدّس الغاضب .. تراقصت أشجار قريتي بين عينيّ و كأنّها حفلة تأبينية خاصة .. و رشقني نيسان بأزهاره المسالمة محاولة منه لطمس قطرات الدّم المتناثرة .. تهاويت بنصف ابتسامة، خلّفتها آخر نكتة تناهت إلى سمعي قبل أن يخترق أذنيّ صوت دويّ الرّصاصة .. كنت عطشا لحدود غير معقولة .. و كأنّ الدّم الّذي نزف من جانبي الأيسر قد أورث جسدي رعونة الاختلاس .. !! بعد صراخ و هلع و خوف لمحتهم على وجوه حاضرة و أصوات أخرى مجهولة، فقدت وعيي و لم أعي ما حدث بعدها ..
بقيت في المستشفى لأكثر من شهر .. نصفه تقريبا في الإنعاش و الباقي متهالكا على سرير كفنّ جرحي بشراشفه البيضاء .. ثم أيقظه بقسوة احتضار ..
تماثلتُ للشّفاء .. بعد أن أسفرت محاولة الانتحار ( مقلوبة الأحداث ) .. عن نتائج مبهرة، تماما كما خطّطت لها أنثى متوارية، ذلك أنّ الآلام ذاكرة مؤنّثة .. تسخّر كلّ أنوثتها فقط لتراني صفحة مؤرخة بتاريخ قديم فوق دفاترها ..
منطق الحياة بادلني رغباتي و حقّق جزءا من خططي .. لكنهّ كان أقسى ممّا تمنّيت .. أفقت بعدها لأواجه واقعا مفصولا عن سابقه بزمن شتوي حالك .. لأنّي و في غفلة من قدر أدركت أنّ حقيقة أخرى قد استوطنت جسدي .. كلاجئة سياسية مطرودة من وطنها المنبوذ .. فقط لأنّ أرجل الخيانة داسته ساعة فجر لا ينتمي للإسلام .. ذلك أنّ فجر الإسلام لا يطلع و بين أنفاسه زفير خائن .. و اللّجوء بطعم النّفي .. يحمل بين طقوسه عنصرية شديدة، تصل حدّ الاغتيال الصّريح لوطنية مدنّسة ..
عرفتُ أنّ احتمال إنجابي للأطفال مستقبلا ضعيف جدا .. بل و قد يصل حدّ الاستحالة .. واقع كهذا بطعم الطّرد من الحياة .. كيف له أن يَسْكُنَنِي بهواجس أنثى .. ؟ ثم بعدها يُرغمني على أن أعشقها .. فقط لأخمد الهواجس .. و تنتهي قصّتي معها كقصيدة مرّ يومين على كتابتها .. كيف له أن يعيد بناء تركيبتي البيولوجية من جسدها .. ؟ كي أتجاوز فكرة الجسدين .. !!