قديماً، كانت الفصولُ الأربعةُ أربعةً بامتيازٍ، لكلٍّ منها استقلاليّةٌ وزمنٌ متفرّدٌ وطقوسٌ تميّزهُ عن سواهُ من الفصولِ.
كان الشتاءُ شتاءً، بكلِّ ما تعنيهِ الكلمةُ، وكلّ ما تقتضيهِ من مظاهرَ: بردٍ وغيومٍ، ومطرٍ، وثلج، وسطوعُ الشمسِ يكادُ يكونُ طفرةً في الشتاءِ، فهو ممتدٌّ طوالَ أشهرهِ بانتظامٍ لا ينازعهُ عليها فصلٌ آخرُ. كان الشتاءُ ذلك الكساءَ الباردَ الذي يغمرُ الأرضَ بخيرٍ منهمرٍ دونَ انقطاعٍ.. ولم يكنِ الناسُ يَدْهشون لرؤيةِ المطرِ كما حالُهم الآن، ربما باعتيادهم على نظامِ الشتاءِ الذي لا يتغيرُ قد ألفوا رؤيةَ المطرِ كلَّ يومٍ، و زيادةً على ذلكَ كانت نفوسُهم تسْعدُ إذا ما يوماً أطلَّتِ الشمسُ بخجلٍ من وراءِ الغيومِ، حتى أنهم تمادوا في ذلك وألزموا الشتاءَ صفةَ الكآبةِ والقسوةِ. بل حتى الثلجُ! ذلك الزائرُ الأبيضُ الذي لم يكن ضيفاً بقدْرِ ما كان يُعْتبرُ من (أهل البيت) إذا صحَّ وصفُه بذلك حينها، فالثلجُ كالمطر، لازمةٌ من لوازمِ الشتاءِ.
كم كان الخيرُ يغمرُ الدنيا! وما أسعدَ الناسَ الذين عايشوهُ وباغتهم الموتُ في زمانهم! وما أتعسَ أولئك الذين عاصروا ذاك الزمنَ، وكُتبَ عليهم أن يطولَ بهم الأمدُ ويعيشوا زماننا، ويروا ما نراهُ الآنَ.
والصيفُ، كان ذلك الفصلَ السعيدَ، الذي فيه تتباهى الأشجارُ بما تقدّمهُ لنا من ثمارٍ وفواكهَ، وأشعةُ الشمسِ تغازلُ الأرضَ وساكنيها بلطفٍ كلَّ صباحٍ، تتخلى عن لطفها أياماً ثم تعودُ لسابقِ عهدها، والأطفال يجرون تحت أشعتها بمرحٍ، لم يكن عليهم انتظارُ أحدِ العيدين ليذوقوا طعمَ السعادةِ، فالصيفُ كان عيداً طويلاً بأيامهِ كلِّها.
بساطةُ الحياةِ كانت الحاكمةَ آنذاك، لم تكن السعادة فيها حكراً على أولئك الذين يتباهَوْن برفاهيتهم الزائفةِ، كان الناسُ كلُّهم شركاءَ في كلّ شيء، كانوا أصدقاءَ مع الطبيعةِ كذلك، فبادلَتْهُم الطبيعةُ صداقةً عاشوا بها وكأنهم في جنّات النعيمِ.
حتى الربيعُ والخريفُ، لم تكن فصولاً انتقاليةً كما يسمّونها الآن!
كان الربيعُ عيدَ الطبيعةِ الأخضرَ، جوقتُه زهورٌ فوّاحةٌ وعصافيرٌ مغرّدةٌ، آذارُهُ محمّلٌ بالفرح تهيئةً لاحتفالِ الطبيعةِ، نَيْسانُهُ مَزْهُوٌّ بما يملأُ يديه من خيراتٍ مغرورٌ ببهاءِ زينتِه، أيّارُه يختِمُ جمالَ مواسمِ الزّهرِ، ويُعلنُ بدءَ دورةٍ جديدةٍ للحياة.
وربّما يقلّ الوصفُ في الخريفِ، وتبهُتُ الكلماتُ كما هو حالُه، لكن يكفيه فخراً أن يهيِّئ للخيرِ بأمطارٍ لطيفةٍ رقيقةٍ تبلُّ وجهَ الأرض بعد حرِّ الصيف. فهو عيدٌ من نوعٍ آخرَ، مقدمةٌ لبشائرِ الشتاء.
هكذا...كانت صداقةُ الطبيعةِ للبشرِ، أفراحاً و أعياداً، لكن الإنسانَ، بما هو مجبولٌ عليه من طبعٍ دنيءٍ، خانَ هذه الصداقةَ، وبادلَها قَطْعاً وهَدْماً و رَدْماً، فلا أبقى فيها دماءً، ولا عظاماً ، ولا لحماً. فلا الأنْهُرُ سلِمَت من بطشه، ولا الأشجارُ نجَتْ من همجيّته.
وليعاقبَ اللهُ الناسَ بما جَنَت أيديهم، استحالَ كلُّ الجمالِ بشاعةً، وندُرَت أيامُ الأعيادِ في الطبيعة حتى صارت لا تكادُ تُذكَرُ:
أضحى الشتاءُ خجولاً، مبالِغاً في لطفه إلى حدٍّ يحرُم الناسَ من الاستمتاعِ بمظاهره، ضنيناً بأمطاره، برْدُه صقيعٌ ضارٌّ كريهٌ، وثلوجُه عجائبُ أو معجزات!
والصيف تحوّلَ فصلاً عنيفاً، مديداً، مقيتاً... طمِعَ بشهورِ غيره من الفصولِ، لينضويَ الربيعُ والخريفُ تحت لواءِ حرارته – هذا إذا استثنينا الأيام التي يُظهِران فيها فنون الأذى: فإما عواصفُ ترابيةٌ صفراءُ تملأ الأجواء وتخنق الأنفاس، وإما بساطٌ للأرض أبيضُ تحسبه لؤلؤاً وما هو إلا حجارةُ برَدٍ سماويٍّ يمزق أوراق الأشجار الغضّةَ وأزهارها الفتية - وحتى الشتاءُ كاد ألا ينجوَ من هذا، فلا يزالُ الصيفُ ينازعُه - في مواجهاتٍ شبهِ محسومةٍ لصالحه- على ما يخصُّه من أشهرَ باتت أياماً وأحياناً ساعاتٍ!
شمسُه طاغيةٌ لا ترحمُ، فبعدَ أن كانت رمزَ الفرحِ يرسمُها الأطفالُ كما هي في مخيِّلةِ الناسِ بوجهها المشرقِ الذي لا تفارقُه الابتسامةُ، أصبحت رمزاً للتشاؤمِ والجفافِ، أراها مصدراً للكآبة عندما تطالعني وتقتحمُ نافذتي حتى في أعتى أيام الشتاء!
و نفسي، باتَتْ كالفصوِلِ الأربعةِ في هذا الزّمنِ، صارَ لها طابَعٌ عامٌّ أَوْحَدُ، عُكِسَتْ فيها مفاهيمُ السّعادةُ والكآبةُ، ليزيدَها هذا تخبُّطاً، وما يُفترَضُ به أن يسعدَها أصبحَ يشقيها ويثقلُ كاهلَها.
فهلّا نظرت، كيف عكسَ الزمنُ أصالةَ المفاهيمِ...؟