رد: (( لا تحيا إلا بالعناق ! ))
للحظات السفر متعة خاصة ،يكون فيها معظم المسافرون سعداء برحلتهم مهما كانت
وجهتهم أكانت للعمل أو الاستجمام أو الدراسة أو العلاج !
لكن للمودعين علامة فارقة ، هي لوعة خاصة تتبدى بأشكال مختلفة
بريق العيون الدامعة هي أكثر ما تُرى ، ليس فيها سوى الحزن وتلك الدموع
والنحيب وبعض الرجاء في امل مؤجل ؛ إلا القلائل منهم ؛ فمن هو الذي
يودع عزيزا ولا يترك غيابه لوعة في القلب والنفس والوجدان ؟!
أما العائدون إلى الحضن الدافئ : الأهل والوطن . يكونون على حدّ سواء
مع مستقبليهم في غاية في الفرح والسعادة ، فمن ذا الذي يعود إلى أهله وناسه
و وطنه ولا يكون في غاية الشوق والسعادة ؟! من ذا الذي سوف يعانق عزيزا
جاء لاستقباله على أرض قدومه إن براً أو بحراً أو جواً ولا يكون إلا غير أحب الناس
أعزهم علينا وأقربهم إلينا ؟!
وللمطارات القديمة ميزة رائعة ربما لا يعرفها الكثيرون
فمن شرفة عالية مطلّة ، كان يقف المودعون والمستقبلون سويا ،
على مرمى من أنظارهم تمتد مساحة من ارض المطار يرون منها إقلاع
وهبوط جميع الطائرات وأيضا جميع الركاب القادمين والمسافرين من لحظة
صعودهم الباصات المُقلّة حتى باب الطائرة .. لكن المسافة ما بين أبواب الخروج
الواقعة تحت الشرفة التي تقف عليها الناس وما بين موقف "باصات " النقل ،
تمتد مسافة ل 50 مترا أو أكثر بقليل لا يعلوها سقف سوى السماء ، تتيح للقادمين
والمسافرين ، للمستقبلين والمودعين على حد سواء فرصة النظرة الأولى أو الأخيرة
ما بين الأهل والأحبّة ؛ هي لحظات قليلة ولكنها لحظات حاسمة ساحرة
يُطل فيها المودعون خارج المتكئ يراقبون خروج احباءهم إلى تلك المساحة
فيمتعون انفسهم بنظرات العطف والحنين ثم يتطلعون نحو السماء يرفعون دعاءهم
للراحلين إلى المجهول ساعة إقلاع الطائرة !
الذين صمموا تلك الفسحة لم يكونوا اغبياء بل كانوا في غاية الذكاء الإنساني .. !
كانت تلك الميزة لا تشعرك بثقل الوقت الذي تشعر به الآن وانت تنتظر وليس ما
يخبرك سوى لوحة اليكترونية مجدّولة بوصول الطائرات أو تأخرها !!
تلك المساحة .. كانت تتيح لعينك رؤية الأحبة حتى وهم ينزلون سلم الطائرة إن
كنت تحمل منظارا بسيطا في يد وتلوّح لهم باليد الأخرى ، تلك المساحة ، كانت
تتيح لك فرصة النظر والتأمل في عزيزك الغائب القادم فلا يفاجئك فيهم فعل الزمن !!
كانت تلك الفسحة تجعلك متقاربا مع الناس ، كان الفرِحُ منهم يعزي الحزين بفرحه !
يشكلون لتلك الشرفة توازنها العاطفي ، فتبدو في جميع الأوقات كلوحة فنية رائعة
لا يمكن لرسام واحد وضع كل تفاصيلها ورؤية جميع زواياها الحادّة والمنفرجة .
صحيح أن المطارات قد كبرت ، وزاد عدد المسافرين فيها .. وصحيح أن المطارات
كغيرها من ممرات الحدود يجب أن تكون آمنة ، لكن المصممون قتلوا ذاك البناء
الجميل واخترعوا بدلا عنه " مستولدات " أمنيّة تعزل البشر وتجعلهم في وضع
قلق ،يتركون اشعتها تعبث حتى في تركيب عظامنا قبل أن ندخل تلك الأنابيب المتصلة
بباب الطائرة فضيعوا بذلك منا سحر السفر وحنينه الغالي !!
من تلك الشرفة الجميلة، كانت الأيادي المرتفعة التي تلوّح للقادمين
تبدو كأوراق صفصاف متراقصة على انغام نسمة صباحية ..
بعض الناس تأخذهم الحماسة فيقفزون من الفرح حتى يلفتون إليهم
أنظار الزائغة أنظارهم عنهم بالرغم من تطلعهم إلى الأعلى نحو الشرفة .
كانت أنظار بيرنا و وليد زائغة في تلك اللحظة .. يتطلعون لكنهم لا يرون احدا ..
عندما نزلوا من الباص تفرقت أياديهم .. ثم عادت واشتبكت في حضرة رجال
" الأمن العام " ! كانت الساعة تشير إلى الخامسة وثمانية دقائق بعد الظهر
انتهت الإجراءات الأمنية بسرعة .. التقطوا امتعتهم بسرعة ولكن عناقهم طال
امام مرأى الجميع .. لم يفعلوا ذلك وحدهم ! كانت أصوات همس وبكاء ووعود
تدور ، تسبح ، في تلك القاعة بكلمات .. كلمات ، كلمات لا تحمل إلا وعدا باللقاء .
عندما أطلوا على الأهل والمحبين ، سحبت بيرنا يدها ببطيء شديد من يد وليد
بعد أن شدّت عليها بقوة ، سلمت على من كان باستقبالها بحرارة ، وسلم معظم
الواصلين على بعضهم بالأيادي والعناق ، ولما التفتت نحوه وهي مرتبكة
لم تجده بين الحاضرين !
كان أهلها يحثونها على الخروج سريعا مثل معظم المستقبلين .. فالفرحة لم
تنسيهم أن المطار طالته قذائف الحرب وقد تعود في اي لحظة ، اقتربت
من عدنان الغارق في حضن أخيه سألته فقال " لا أدري " !
بحثت عيناها المتسعة بصورته بين الوجوه فلم تجدها ،
تستدير بوجهها من اتجاه إلى آخر وتطلع نحو كل الزوايا كقطة اضاعت أبناءها
تنصت قليلا كأنها كانت تتوقع سماع صوته يناديها دون طائل !
عادت إلى عدنان فقال : " لقد هرب وليد. لقد هرب !
اعرفه جيدا ،لن يظهر قبل ارتحالك "
عندما شدّت بيدها على يده وافلتتها ، شعر كأن صقيع الأرض كلها أحاط به ونخر عظامه فجأة ..
كأن الأرض توقفت عن الدوران ، كأن الكون قد انفجر ، لكنه لم يمت !!
بدا كأبيه حين طرد من الجنّة ولكن دون حواءه .
غادرت المطار مع أهلها وصحبها دون أن تراه ، كان يقف خلف أحد الأعمدة
يراقبها من بعيد .. كان يبكي بحرقة مثل الأطفال ، ولما ابتعدت صار قلبه ينتحب .
:
لا يمكنه نسيان ذلك التاريخ ، تاريخ مطار بيروت وهو يُقصف لأول مرة ،
لأنها كانت المرة الأولى التي بكي فيها امرأة أحب.
كان يقلب صفحات الكتاب ويتحسس تلك الصورة ؛ تذكّر ذلك اليوم جيدا
ابتسم تنهد وانتقل مع صحبه نحو جناح آخر من المعرض .
رن جرس هاتفه الجوال ، ردّ على أحدهم وقال له " سأتصل فورا " !!
|