* الجزء الخامس و الثلاثون *
... تقبّلي للوضع و لفرضية فقدان حقي الطبيعي في أن أصبح أبا .. جاء تدريجيا و كأنّ فكري تسلّق طوابق الفكرة درجا .. درجا مع لحظات كنت أتفرّغ فيها لكسر القّهر بداخلي .. بأن كنت خلالها أسرف في تناول دواء مخدر حتى أنام لأطول وقت ممكن فيخمد ألمي في انتظار إفاقة جديدة ..
كلّ مشاريعي لتلك السّنة جمّدت، حتّى دراستي، حتّى ميولي، حتّى النّساء في مقصورتي طَويْتُ عنهن دفاتري و سَرَّحْتُ لهن القصائد القديمة .. لِمَا قبل سنتي تلك .. سنة بعمق الحزن .. مُزِّقت من حياتي كصفحة بيضاء بهوامش معطوبة .. سنة وُقّعت أوراقها سلفا، بشهادة الحسرة و الغصّة بأن لا تصاحب تواريخها المميّزة و لا إجازاتها الرّسمية، لا تعترف بأعياد ميلادها، و لا بأعيادها الدّينية .. لا بفصولها .. و لا بمواسمها الشّبيهة بمواسم جرحي .. تنكر تفاصيل الخريف و أحجيات نيسان .. تحاصر إطلالة العصافير من فوق نخلة صامتة، عقيمة وسط المدينة .. فتزيدها عقما و صمتا .. تشبّها بصمتي و سكوني ..
بعد ذلك الحادث المروّع و ما تلاه من تفاصيل مؤلمة اعتنقتُ ثقافة جديدة و مفاهيم جديدة، جعلتها راسخة فيما بعد .. و كأنّني رضيت بواقعي المر بطريقة التّحديات و المراوغات، تماما كمراوغة حرفية من تلك الّتي تتنكّر لأنثى فقط لتقتلها و هي تعلم أنّها الأرسخ .. كلّ الّذي نجيده هو التخفّي حتّى من أنفسنا أحيانا .. فالمواجهة موت بطيء يشبه التّقييد لحظة ذبح سطحي .. بتمرير خنجر متلهّف، بطريقة يفتتح بها شهية الدماء للانهمار المغري " كأنثى " ثم ينصرف صاحب اللّقطة الكاذبة .. و هو يعلم تماما أنّ الفاصل الزّمني بينه و بين التّرميم الجسدي يكفي لقرونٍ من السيلان .. تلك أقسى طريقة في التعذيب قد تخطر على مخيّلة بشر، ثم يمسك سيجارة فاخرة من تلك الّتي افتعلتها حرب كونية .. مصمّمة على مقاييس أنثى فاتنة .. كلّ انحناءة احتراق منها تكفي لتقتل برغبة قاتلة حشدا من " النّسور " المحلّقة صدفة فوق دخان الكلمات .. ساعتها سيكون القتل موضة رسمية لكلّ مدخّن تخلّى عن كلاسيكية السّجائر .. و اعتنق ثقافة أخرى ممثلة في ازدواجية المطلب و النّشوة و التّخدير .. سيجارة تحتاج لذكرى حتّى تشتعل .. لا لعود كبريت .. تشتعل بتمهّل شديد و كأنّها تقتّص لنفسها من لحظات الارتباك العقلي .. ثمّ تمارس ابتزازها العاطفي، حتّى تتمكّن من رصد كلّ مكامن الاشتعال .. لتنطفئ عن حقائق مذهلة .. تلك الّتي تتحوّل في ثوانٍ .. إلى هزيمة ثم انتصار لقوى الشّر، تلك الّتي تخلّفها كلّ سيجارة احترقت بنشوة فوق جسد حزين ..
كنتيجة للاحتراق و الألم و الجرح نتعلّم القسوة .. نتعلّم الانتقام .. ثم ينصرف ذلك القاتل " الفنان " موصدا كلّ الأبواب بهدوء تام .. مدركا أنّ أجهزة الإنذار معطّلة بتفنّن مربك .. و كاميرات المراقبة أيضا معطّلة اقتداءً و تنفيذا لمطالب تمّ تسريبها عن طريق جهاز للتحكّم عن بعد، و الوقت ..كلّ الوقت عالق حتّى الهذيان بساعة حائطية سكنت كلوحة صامتة .. و كأنّ عقاربها اختلّت على فوضى التّوقيت العالمي .. في ثانية شهقت ساعة لندن الشهيرة " بيغ بن " فأربكت الزّمن و كانت تشير إلى رقم عنيد " كأنثى " .. و لأنّي لا أجيد التحرّش برقم سَكَنَ بين شفتيّ لحظة استنطاق .. فقد فقدت فاصلي الزّمني بين كلّ الجراح .. و انحنيت ألتقط شيئا من دقائقها القديمة كي أعيش .. مخدّرا لعمر يلزمني لأتناساها و أتناسى ذاكرة أخرى تنتمي لجرحها ..كلّ المكائد تحاك بتدبير سرّي .. حتّى الأخطاء ..
تلك الفجوة الّتي تركتها الرّصاصة بجسدي .. التأمت، لكنّ نزيفها لم يتوقف .. كانت تجلدني كّلما مرّت أنثى قبالة أبوّتي .. و استرعت بفضل تدفّقها " كأنثى تصلح لأن توثّق عهد الطفولة " اهتمام شرعيّتي المفقودة .. رصاصة بمقياس قرون من الاحتراق .. كانت .. " كسيجارة " .. تمرّر فوق شفتيّ اشتعالها من وحي الذّكرى، فتحرقني عن آخر رغبة صامتة في أن أنسب طفلا لنفسي " و لو خيالا " ..
حين تفجّرت الرّغبات فجأة بظهور تلك المرأة .. احترقْتُ بأكثر من سيجارة لذلك كان لابد لي أن أستحضر الجنون .. لأُرْبِكَها .. كزوبعة تلتف حول نفسها حين تضيع عنها الاتجاهات .. كصاعقة تدمّر ذاتها في لحظة طائشة .. و حتّى تضيع بين مجموع الأبخرة الناتجة عن الاشتعال المتزامن بين عدد من السجائر .. فأشغلها عنّي لبعض الوقت .. لكنّي أحببتها رغم الدّخان المتراكم فوق جسد الأمنيات المنهارة .. كجسور تآكلت حبالها، كل ثانية يسقط منها شيء فيختلّ رسم ظلالها فوق الوادي .. لكنّها تبقى متماسكة رغم كلّ شيء، قد يكون ذلك اعتزازً منها بقيمة تاريخية هي عمرها المشهود، الموشوم منذ زمن فوق كتبي و دفاتري .. أحببتها رغم طيفها المسكون بأشباه ضباب .. تهت عن نفسي فيها .. ثم أضعتها كآخر " انتماء " لسلطان الرّصاصة .. و الرّصاص سلسلة من اللّعنات تمتّد حتّى تثبت مزاعمها الملكية على كلّ الأشياء الخاصة .. حتّى الحنين ..
ألهذا .. !! استوطن الرّصاص منذ قرون مدن الأبجدية العربية .. بطريقة جعلته حرفا شرعيا ..
ضميرا مستترا .. يتكّلم بهويّة متقنة، لعناته أبدية .. لذلك تساءلت ذات أمسية " رسمية " ..
كيف لمدينة تعتزّ بحدودها مع السّماء و الحكمة الإلهية .. بل و ارتباطها العقائدي الدّيني الرّاسخ و تواصلها الإلهي، كيف لمدينة اعتنقت " حكرا جميلا " أعظم ديانة سماوية .. ؟ بقرآنها الّذي حشر الدنيا لآلاف القرون .. لعمر غيبي .. ضمن موسوعة خاصة .. فيها من الحقائق التّاريخية ( الّتي أثبتها التاريخ قبلا و الّتي سيثبتها لا محال، كقناعة راسخة ) .. قرآنها الّذي حرّر فلسطين قبل آلاف السنين .. و نصر الإسلام .. و مضى فاتحا كلّ الممرّات العابرة للعروبة، المغلقة بتواطؤ دنيوي حقير .. كيف لمدينة لها حجم أسطول بحري .. ؟ يمتّد على طول كلّ المحيطات و الجبال " عمقا و أصالة " .. أن تعجز عن ابتكار حيلة توقف بها لعنات الرّصاص ..
ألست عربّيا .. !! و لي الحق في أن أستتب أمني الداخلي .. و سكينتي و صمتي الّذي أصبح يوما عن يوم يدندن مقطوعةً مستوحاة من صوت الرّصاصة .. تذكيرا منه بأنّ جسدي " مفصولٌ " .. بعاهة .. تماما كما هي الحنكة العربية .. !!