رد: (( لا تحيا إلا بالعناق ! ))
كانت الهوية هي الدّال على الاختلاف وليس المبدأ أو الفكر ، سقط الفكر والمفكرون
وسقطت العقائد الانسانية والحزبية وتحكمت الطائفية حتى بمن لا يعترفون بالطوائف
فعندما تحمل فئة السلاح في وجه فئة اخرى شقيقة ،لا يحكمها ويقودها سوى الجبناء
والعملاء ، فالجبناء لا يحسنون سوى استخدام السلاح ليثبتوا أنهم قادّة ،
هم لا يحسنون التفكير إلا من فوهة البنادق ،أما العملاء فمن مهامهم إفشال أي حوار،
يعملون على تدمير المنطق ويخضعون المناضلون لإرهاب الرصاص والأفكار
فيلتزم الآخرون صمت القبور. كانت الهوية هي الدّال على الاختلاف ،
وفيها ليس فقط ما يميز الطوائف وإنما المذاهب أيضا ، والانتماء إلى المناطق
كان إلى جانب اسمك يحدد هويتك بكل وضوح ؛ فالقتل واقع واقع إلا الذين
سلموا بأعجوبة فكانوا يظهرون بعد غياب أيام أو اسابيع أو سنوات أو
لا يظهرون ابدا . بحسب الكشوفات الرسمية ما زال لغاية كتابة هذه السطور
ستة وثلاثون الف مختطف مجهولي المصير كليا ؛ وبحجة هؤلاء وبسببهم ،
صارت البلدات تُقصف وتُتبادل الاقتحامات للقرى : فتسرق ، وتحرق ، وتهدم
ويهجّر سكانها لعشرات السنين ، الناجين من بعض تلك القرى حتى كتابة
هذه السطور أيضا يمرون بقراهم بعد ولا يستطيعون لمس جدران بيوتهم بل
ولا يستطيعون حتى الوقوف أمامها !
كان التنقل بين المدن والمناطق يمر بطرقات جبلية وعرة تمتد لساعات من أجل
أن تقض الناس مصالحها ومن أجل الحمقى أمثال وليد الذين عرضوا أنفسهم للخطر
مرارا من أجل إنسانة من المفترض إقناعه بأنها عدوة وليست حبيبته ، أو،
انه خائن ينقل اخبار " الوطنيين " إلى "الخونة " !! رغم طموحاته الفكرية التي
كانت تدفعه لقيادة مجموعة مسلحة كان يحلم بأنها ستساهم يوما في تحرير وطنه
بعيدا عن ذاك الجنون الجماعي في حرب عبثية !
الذين عرفوا خطوط التماس بين " البيروتين " في الحرب كانوا متميزين :
فإما هم من المقاتلين أو التجار أو الصحفيين وبعض المغامرين . كانت ساحات القتال
تفوح منها رائحة البارود والموت ، الجثث كانت تُبقى في الشوارع لأيام لا يستطيع
أحدا رفعها ، جدران الأبنية تملؤها الفجوات التي كان يعرف المقاتلون كل فجوة
ما نوع القذيفة التي اخترقتها ،كانوا خبراء في كل شيء : في الخطف والقنص
والذبح ورفع المتاريس وأين ومتى وكيف تتنقل بين المنطقتين ، كانوا يفصلون
الشوارع بالأتربة وحجارة الإسمنت والسيارات المحترقة .. كان بيدهم حياتك أو
موتك ، يقررونه إن لم يعجبهم شكلك أو لبسك ! عندما سُأل أحد القناصين :
"هل تركت شخصا وعفوت عنه كان في مرماك ؟! " فقال " نعم . أعجبني فيه تأنقه
وقتلت الكثيرين لملل عانيت منه في بعض الأوقات .. !!
قتلت عجوزا رأيته في المنظار يحمل رغيفا وعلبة سردين ..
فعلت ذلك شفقة عليه ورحمة .. أرحته من عذابات الحياة "
ولما سأل هل عرف منهم أحدا فيما بعد فقال : " نعم ،
لقد كان صاحب الرغيف شاعرا عراقيا عاش في لبنان
أصيب ولم يمت ، أردت خلاصه من الفقر والغربة فكانت
الرصاصة خلاصا له من واحدة فمات في بغداد "
:
كان عليك إطاعة أوامر من يتحكم بممرات خطوط التماس وتقدم لهم حجتك المقنعة
ليمرروك إلى الجانب الثاني في ساعات الهدنة .. فالمسلحين على الجانبين كان بمعظمهم
يعرف بعضهم بعضا .. يتحدثون مع بعضهم ليل نهار .. لهم موجاتهم اللاسلكية السرية
التي يعرفونها ويلتقون عبرها ، كان زعماء الأحياء أو الشوارع بالقتل فيقتلون
ويمارسون التجارة أيضا ! كل طرف يمرر ما يحتاجه الطرف الآخر ، وما لا يحتاج
يتبادلون الأشياء التي لا تتوفر عندهم : من هنا تأتي الحشيشة والأفيون .. ومن
هناك تأتي صناديق الويسكي والسجائر ، هنا الزيت والشحم للسيارات وقطع الغيار
ومن هناك أكياس الطحين والقمح .. هنا من سيطر على المطار وهناك من سيطر على المرفأ !!
في أشهر الحرب الأولى كانوا يلبسون أقنعة حتى لا يكشفون بعضهم ، وعندما
صارت تُعقد الاتفاقات المتكررة لوقف النار كشفوا عن وجوههم وعبروا المتاريس ،
سلموا ، تعانقوا طويلا حنّا ومحمد والياس وحسين !
" بتبادل المنفعة نحيا " قال أحدهم ، وليس بإطلاق الرصاص ؛ كان على الناس
ألا تصدق ما قيل لأن الأمر الآتي من غرف السفارات السوداء بإطلاق النار كان يُنفذّ .
المقاتلون في بعض المواقع أو أغلبها على الطرفين كانوا ينبهون بعضهم البعض إن
أتتهم أوامر القصف على من وأين يقصفون ، فيتبادلون المعروف ولا يخالفون الأوامر :
كانت أعداد القتلى من المسلحين 1%100 من المدنيين !! كل مسلح كان يقتل مائة
مدني قبل أن يموت وعلى الجانبين !!
وكان وليد ما زال عاشقا ، وما زالت بيرنا تخاطر أكثر منه ليلتقوا على خطوط التماس
بعدما تعودوا إطاعة الأوامر وتعود مقاتلو الطرفين على رؤيتهم باستمرار !!
|