عرض مشاركة واحدة
قديم 22 / 07 / 2012, 39 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
خيري حمدان
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم

 الصورة الرمزية خيري حمدان
 





خيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond repute

حين اصطاد ارنست همنغواي نفسه


هناك سير ذاتية مملة وبالية لا تتعدى كلمة أو بضعة كلمات، فلان مات في منامه مثلا، وإلى ما غير ذلك من سير الشخصيات العابرة في نهاراتنا قافزة فوق أوراق التاريخ. بالمقابل هناك سيرٌ تبقى خالدة، وتشغل بال الكثيرين من المهتمين والكتّاب والمؤرّخين. ارنست همعغواي بدون أدنى شكّ ما يزال يشغلنا نحن المسكونين بهموم الإبداع، وما تزال الحكايا والأساطير تنسج من حوله دون ملل، حيث يصعب حقيقة التفريق ما بين الحقيقة والوهم أو الأسطورة.

ارتبط اسم جزيرة Key West الواقعة على المحيط الأطلسي بسيرة الكاتب الأمريكي المتميز ارنست همنغواي، الذي كان يعتبر أيّ مكانٍ في الدنيا بعيدًا عن البحر أو المحيط ضيعة وقرية مملّة. وقد قدّر لهمنغواي الانتقال للعيش في هذه الجزيرة بفضل صديقه جون دوس باسوس خلال العام 1920، بعد أن نصحه بشراء منزل واسع يحتوي على حديقة خلابة وفي منتهى الجمال. هذا المكان تحديدًا شهد أروع ما كتب هذا الرجل الأحجية مثل "لمن تقرع الأجراس ووداعًا للسلاح وغيرها". وبقي في كنف هذا المنزل حتى انهيار زواجه من امرأته الثانية بولين عام 1930، واضطر بعد ذلك للانتقال إلى مكان آخر وبقي يتنقل حتى انتهى به المطاف في كوبا، حيث قضى فترة زمنية طالت حتى نهاية خمسينيات القرن الماضي. لكن لنعد للمنزل الأنيق الذي بات وجهة للسياح الراغبين بالوقوف على حياة همنغواي وكيف كان يقضي هذا الرجل أوقاته.

همنغواي بلا شكّ رجل غريب الأطوار، مولعٌ بالكحول والنساء، وكان إذا عشق همنغواي يصاب بالهوس، لأن رغبته بامتلاك معشوقته تصبح جارفة إلى حدّ لا يطاق، وقد انعكس هذا الجانب من شخصيته على أبطال روايته. لكن المشكلة الأولى كانت ربّما الأسهل أمامه، حيث قرّر التعامل مع الكحول بشيء من التعقّل، مع أنّه كان بحاجة إلى إرادة كبيرة لكبح رغبته باحتساء الكحول. همنغواي وضع في حسبانه كتابة 600 كلمة يوميًا، وهذا يحتاج إلى تركيز كبير أو على الأقل حالة من الصحوة، لهذا وعند دخول منزله الكبير، سيلاحظ الزائر بأن السلالم المؤدّية إلى مكتبه مباشرة في الأعلى ضيّقة للغاية، ويتعذّر على ثمل الصعود فوقها للوصول إلى مركز الإبداع والكتابة، هكذا تمكّن همنغواي من خداع نفسه والابتعاد عن الكحول نسبيًا حتى الانتهاء من كتابة 600 كلمة. بداية بأقلام الرصاص، ثمّ بدأ تدريجيًا باستخدام الآلة الكاتبة مباشرة، لكنّ طقوسه بقيت على حالها، حيث كان يشعل الشموع من حوله في حضرة القطط.

لي رأي بالأدب الروائي الذي جاد به هذا الرجل الأسطورة. هناك جمالية لا توصف حين تجلس لقراءة همنغواي، لكن يبقى الانطباع بأنّ النهاية معروفة مقيمًا، هذا ليس بالضرورة عيبًا أو ناقصة، لكن هو هكذا همنغواي بكلّ تجلّياته وخصوصيته. وإذا قدّر لأحدكم قراءة قصّته القصيرة التي لا تتعدى الصفحتين (قطّة في المطر) سيفاجأ بخصوصية القصّ المنفتح على الكثير من النهايات، وكأنّ همنغواي اختزل مسيرته الإبداعية الروائية في هذه القصّة المحيّرة المفتوحة. وللحقّ هناك حضور كبير غير منقطع النظير للقطط في حياة هذا الرجل.

لا تستغرب حال هبوطك الحذر من على السلالم الضيّقة، وجلوسك بالقرب من أريكة همنغواي، فسرعان ما تحضر لطرفك قطّة مرقّطة، وأخرى سوداء وثالثة بلون الحليب ورقطاء وبلون البيج. لا تخشى إذا اجتمعت من حولك عشرة قطط أو أكثر، لأنّ هناك خمسون قطة تعيش حاليًا في منزل همنغواي، إنّها سلالة القطة ذات الأصابع الستّة التي كانت تموء بين يدي هذا الرجل، وهي هدية مقدّمة من الكابتن ستينلي ديكستر، قطّة تحمل الحظ للصيادين لأنّ عدد أصابعها ستّة خلافًا لغيرها من القطط. كما تعلمون إحدى خصوصيات همنغواي الأخرى الصيد وصيد السمك، والجلوس بعد الانتهاء من رحلة الصيد اليومية في حانة صديقه المعروفة باسم "حانة جو المبتلّ"، لهذا ربّما وحسب اعتقادي جاءت قصّته المذكورة بهذا القدر من التميّز. كما تحمل قطط همنغواي أسماء مشاهير لعبوا دورًا في حياة همتغواي، حتى بيكاسو قدّم له مجّسم لقطّة. وهناك في الجزء الخلفي من المنزل مقبرة قططية، ترقد فيها القطّة مارلين مونرو، المسكينة التي عاشت بالكاد ثماني سنوات وماتت في العام 2004، وهناك قطط تحمل أسماء تشارلي تشابلين، ويستن تشيرتشيل وغيرهم كثير.

لكن ما حكاية مسبح البيت الشهير، والذي كان من أولى مسابح Key West آنذاك. في الوقت الذي كان همنغواي متواجدًا في إسبانيا، طلب من زوجته بولين العمل على بناء هذا المسبح، وكانت المفاجأة حين عاد، حيث وجد زوجته العزيزة قد صرفت كلّ ما يملك الكاتب، كانت قد دفعت عشرين ألف دولار وهذا مبلغ كبير للغاية في تلك الأثناء ليصبح المسبح حقيقة. عندها أخرج المغامر من جيبه آخر قطعة نقدية كانت بحوزته (penny) ورماها في القاع الاسمنتي، وما تزال هذه القطعة بارزة حتى اللحظة في أصل المسبح. تُرى هل هناك علاقة ما بين هذه الحادثة وتقليد رمي القطع المعدنية في البحيرات تيمنًا واستجداءً للحظ والحبّ؟

ما أصعب البقاء في بيت غادره حبيب! بيت مليء بالذكريات الآسرة، خاصّة إذا كان المعنيّ رجل شديد الحساسية وعاطفيّ للغاية. همنغواي غادر هذا المنزل وهام على وجهه بعد انهيار حياته الزوجية مع بولين، وهجر الكتابة لفترة طويلة من الزمن، لكنّه عاد بروايته الخالدة العجوز والبحر، ليسطر قصّة بحّار لا يعرف الراحة، رجل متعطّش لمواجهة التحدّيات بالرغم من الوحدة وقسوة المحيط. إنّها رواية حياته بالذات، رواية الرجل الذي مضى في أثر سيف سمكة، متحديًا العظام المتعبة وسني الحياة الثقيلة، ليثبت ذاته بعشق لضحيته الضخمة، كانت تلك العلاقة جدلية ما بين الصياد الغامض والسمكة المدافعة عن حياتها بكلّ ما أوتيت من قوّة. كأنّ شأن سلبها لحياتها جاء انعكاسًا لرغبته بالتوحّد معها وتقمّص طاقتها الهائلة غير المحدودة. حين تقرأ هذه الرواية وتغوص في أعماق المحيط الأزرق، تدرك بأنّه لا فرق بين الصيّاد وضحيته، كلّ منهما يبحث عن حالة من الخلاص لا تتأتّى دون صراع مرير وجراح لا تندمل بسهولة. الجراح التي أثخنت يدي الصياد هي امتداد للطعنات التي تلقتها السمكة، واستمرت برغم الألم تشدّ الصياد إلى البعيد، حيث أصبحت العودة تحدّ قد لا ينجح، لتعلّم الصياد المسكين بأنّ لكلّ شيء في هذه المعمورة ثمن، قد يكون أحيانًا باهظًا جدًا، لكن همنغواي كان دائمًا على أتمّ الاستعداد لدفع هذا الثمن.

أخيرًا حاز همنغواي على جائزة نوبل للآداب إكرامًا للعجوز والبحر عام 1954، وبقي أمام هذا الرجل الفذّ صيد أخير بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. بتاريخ الثاني من شهر يوليو من العام 1961 وضع همنغواي فوّهة بندقيته المحبّبة في فمه واطلق آخر رصاصاته ليحقّق صيدًا وافرًا لكنّه الصيد الأخير.

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
خيري حمدان غير متصل   رد مع اقتباس