رد: الشرق الأوسط الجديد وتفتيت العالم العربي ليس قدراً محتوماً / ندوة تحتاج أقلامكم
" التاريخ الإنساني ليس كالسلم الذي يقف البعض على درجاته العليا والبعض الآخر على درجاته الدنيا ، ولا هو كالطريق الواحد الذي يتقدم فيه البعض خطوات على الآخرين ،وإنما هو كمجموعة من الطرق المتشعبة ، لكل طريق مزاياه وعيوبه ، واختار الغرب أن يسير في إحداها فكسب أشياء وخسر أشياء ، وأن هذا الاختيار كان تحكميا إلى حد كبير ومحكوما بظروف اجتماعية وبيلوجية ونفسية مختلفة ، ومن السخف محاولة إقناعنا بأن هذا هو"الطريق الوحيد" الذي يمكن السير فيه ، ويجب السير فيه بسرعة وإلا كنا متخلفين . مثال بسيط للتدليل على ذلك: إن ما نسميه الآن الحضارة الغربية أصبح خلال هذا القرن العشرين أكثر فأكثر حضارة أمريكية إذ طبعت الولايات المتحدة هذه الحضارة بطابعها الذي لا تخطئه العين . ولكن ما يمكن أن نسميه الحضارة الأمريكية ليس إلا نتيجة هجرة جماعات معينة من البشر لها تاريخ معين وصفات نفسية معينة وظروف اجتماعية ودينية خاصة إلى أرض شاسعة وغنية بالموارد لها أيضا سماتها الطبيعية والاقتصادية الخاصة ، ونتج عن التفاعل بين هذه المجموعات البشرية بذات ، والظروف الاقتصادية والطبيعية لهذه القارة بذات منتجات وسلع وعادات وأزياء وأطعمة وأفلام واختراعات ولهجات وأنواع معينة من العلاقات الاجتماعية..الخ، وجد هؤلاء الناس أنها أنسب السلع والعادات والعلاقات لهم في هذه الظروف الخاصة .فكيف يمكن أن يزعم أحد أن ما أسفرت عنه هذه التجربة بذات يمثل قمة التقدم للناس جميعا ، وأن هذه التجربة الأمريكية الخاصة جدا تمثل الوقوف على أعلى الدرجات في سلم التطور الإنساني ؟ كنت كلما زرت أوروبا أو أمريكا خلال الخمسة وثلاثين عاما التي انقضت على إنهاء دراستي للدكتوراة ، تأكد لدي هذا اليقين: أن المسألة ليست مسألة تقدم وتخلف بل شيء آخر . كان هذا يمثل في جانب منه خيبة أمل في ذلك المثل الأعلى الذي كنا نحاول احتذاءه ، ولكنه كان يمثل أيضا تحررا عقليا ونفسيا حقيقيا . فقد تخلصت من خرافة كبيرة كانت تعشش في عقلي والأهم من ذلك أني تخلصت أو كدت أتخلص من ذلك الشعور المقيت بالعار . نعم نحن فقراء ولكن هذا لا يعني أننا متخلفون . هم متقدمون عنا في التكنولوجيا ، أي في فن إنتاج السلع والخدمات ، أو بالأحرى في إنتاج سلع وخدمات معينة دون غيرها..لا بد إذن أن نميز بين الفقر والتخلف . نعم نريد التخلص من الفقر وعلاجه زيادة أنواع معينة من السلع والخدمات. أما التخلف فأنا أعرف الآن ما هو ، إنه ليس إلا هذا الشعور بالعار ، فأنت لست متخلفا إلا بقدر شعورك بالعار إزاء هؤلاء الذين يسمون أنفسهم متقدمين . وسوف تظل متخلف ، مهما زاد متوسط دخلك وارتفع معدل نموك ومهما زاد ما في حوزتك من سلع وخدمات ، طالما أنك تشعر بالعار لأنك لا تملك ما يملكونه..نعم نريد إطعام الجوعى وتوفير الكساء والمأوى المناسب..، ولكن هذا في حد ذاته ليس مبررا للشعور بالعار بل لعل أول شروط النهضة وزيادة السلع الضرورية هو التخلص من هذا الشعور ، وإلا كانت النتيجة إذا استمررنا نرفع شعار التنمية ونفهمه على النحو الذي نفهمه الآن ، إذا استمررنا نسمي أنفسنا متخلفين ونحدد هدفنا بأنه اللحاق بمستوى المعيشة في الغرب ، ستكون النتيجة أننا بعد خمسين عاما أخرى من التنمية ، سيكون لدينا محلات ماكدولاند أكثروكوكاكولا أكثر ، وبلوجينز أكثر ، وأيضا سلاح أكثر وإعلانات أكثر وأفلام جريمة أكثر وشذوذ جنسي أكثر ومخدرات أكثر ، وستكون المرأة المصرية أو العربية قد حققت بالطبع نجاحا باهرا في الحصول على مساواتها بالرجل: كلاهما يتمتع بنفس مستوى المعيشة وبحرية الحصول على نفس الكمية من الماكدونالد والبلوجينز والمخدرات والإعلانات ، وكلاهما له نفس النصيب في المساهمة في الجريمة والشذوذ الجنسي . بل لا أخفي على القارىء أني اكتشفت أن تقييمي للمثقفين والكتاب المصريين ، بل والسياسيين أيضا ، وترتيب مكانتهم في نظري ، إنما يكاد يتطابق مع درجة تقديري لمدى " شعورهم بالعار " ، كما يبين لي من كتاباتهم وتصريحاتهم ومواقفهم . "
التنوير الزائف ، الطبعة الأولى 1999، د.جلال أمين ، دار المعارف ، سلسلة إقرأ ، القاهرة ، ص 9،10،11،12
|