عرض مشاركة واحدة
قديم 20 / 09 / 2012, 22 : 07 PM   رقم المشاركة : [1]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

الموت لا شيء .. العالم يحترق


[align=justify]الموت لا شيء .. العالم يحترق

"الموت لا شيء .. العالم يحترق"... هكذا يردد الراضي كلما سنحت له فرصة التحدث إلى أحد ورغب في إبداء رأيه حول مسألة ما .. هو معروف عند أصحابه بميله إلى التفلسف . لكنته الجبلية و رأسه الحليق يثيران من السخرية بقدر ما يحدثه تمكنه من قواعد اللغة و فصاحته من إعجاب وغيرة .
الراضي يلذ له التعمق في الحديث عن الأشياء وتحليل الوقائع ، فلا يقنع بذكر الحروب وويلاتها والكوارث الطبيعية و آثارها ، بل يردف على ذلك الأسباب والنتائج المباشرة وغيرالمباشرة . لكن قلة هم الذين تنبهوا إلى أن جملته الشهيرة "الموت لا شيء.. العالم يحترق" لم تعد ترد مرارا على لسانه إلا مؤخرا . ربما كانت فضيلة أعلم بالأسباب التي جعلته يهذي بهذه الكلمات ولو في غير مناسبة .
فضيلة هي من بنات قريته . تعتبر نفسها محظوظة لكونها تمكنت من متابعة دراستها و انتقلت إلى المدينة لتلتحق بالقسم الداخلي بالثانوية رغم اعتراض الكثيرين من أهلها . وطبيعي أن تكون قرابتها من الراضي ووصايا والديها تخول له زيارتها بين الفينة و الأخرى للاطمئنان عليها .
كل من يعرف الراضي ، يدرك أنه صار ولها بفضيلة ، و أن زياراته لها كانت ذريعة لبثها شوقه الصامت لرؤيتها . أما هي فترد على تعليقات زميلاتها بالابتسام و الصمت .. تستمع إلى كلمات الإعجاب بوسامته رغم حلقه لشعر رأسه . ربما اكتشفت هي ذلك لأول مرة و هو يزورها في آخر مرة . أخذت تتأمله شاردة الذهن حتى انتبهت إليه يسألها للمرة الثانية :
- ألا تحتاجين شيئا من البلد ؟ .. أنا مسافر غدا إلى هناك وسأتغيب بضعة أيام .. أمي مريضة .
- شكرا .. سلم عليهم .. وربي يشفي خالتي .. انتظر .. أحتاج لبعض النقود لشراء بعض المراجع ..
- كم تحتاجين ؟.. أنا مستعد ..
- لا .. شكرا .. لست مستعجلة .. أتمنى لك عودة بالسلامة .
- اعتني بنفسك .. مع السلامة .
شيعته إلى الباب وتناهت إليه ضحكات مكتومة وهمسات رفيقاتها وهن يحطن بها متسائلات في فضول .. في هذه المرة شعوره مختلف عن سابقه في سائر الأيام . لديه إحساس شبه أكيد بأن فضيلة تبادله نفس المشاعر. كان حديثها لطيفا وشرودها غير مألوف .. ثم إنها استجابت لضغط أنامله على يدها ولم تسحبها كما كانت تفعل في السابق .. ولأول مرة تدعو له بأن يعود سالما من رحلته .. إذن ما عليه إلا أن يبادر بالخطوة الأولى لدى رجوعه .. لكن الرحلة طالت . فالمرض اشتد على الأم و صار الأب عاجزا عن فعل شيء لنفسه فبالأحرى للمريضة .. لأنها كانت كل شيء .. كانت رجل البيت . أما هو فقد سلم لها زمام الأمور تسيرها كما تشاء . فهي – حسب قوله – بمائة رجل .. عقل و رزانة وحكمة . أحيانا يمازحها الراضي قائلا :
- لقد حكم أبي مدة بقبضة من حديد ، و ها أنت تستلمين منه الحكم بنفس القبضة لكنها من حرير .
الراضي ليس كسائر الأهالي الذين ترهبهم السلطة سواء كانوا على حق أو باطل . فالمخزن –في رأيهم - هو المخزن ، ولا مزاح معه مثله مثل الماء والنار.. و غالبا ما يدخل في جدال مع أبويه اللذين يرتجفان خوفا من أن يقوده تهوره إلى تحدي القائد حول الإتاوات المخصصة لبعض الاحتفالات . الوحيد الذي يتحمس لأفكاره هو المفضل أخو فضيلة .
التقاه هذا المساء على مشارف القرية وتبادلا أطراف الحديث حتى تطرقا إلى موضوع فضيلة . المفضل ليس مقتنعا بفكرة رحيل البنت وحيدة خارج البلد . ربما غيرة لكونه أخفق في مواصلة دراسته و اضطراره إلى الكد و التعب في الحقل بينما هي تزداد في كل مرة تزور فيها الأهل أناقة تضاهي أناقة أهل المدينة . قال للراضي محتدا:
- لا أدري ماذا يريدون منها .. أن تتوظف ؟ .. أن تصير عالمة ؟
- ولم لا – رد عليه الآخر مبتسما – أليس لها عقل و فكر ؟
- حتى أنت ؟ يا للعجب ؟ .. الفتاة مآلها الزواج .. فهذا ستر لها .
-الزوجة المثقفة خير من الجاهلة .. أليس كذلك ؟
يضحك المفضل بغيظ ويقول :
- مثقفة ؟ .. جاهلة ؟ .. هل يعني هذا أن كل فتيات القرية ونساءها وضمنهم أمهاتنا جاهلات ؟ .. قل لي لم لا تتزوجها ؟
فاجأه السؤال .. هل يقرأ الآخر أفكاره ؟ .. هذا بالضبط ما يفكر فيه هذه اللحظة .. و هو الموضوع الذي يشغل باله حاليا . .. خطوبة في بداية الأمر ، ثم ينتظر حتى ينهيا دراستهما الثانوية . ...
- مالك سكتت ؟ .. تخشى رفض والدي ؟ .. سأبوح لك بسر شرط أن تكتمه.. كان أبي يتحدث بشأنكما في هذا الموضوع أمس.
الراضي متأكد من صدق رفيقه .. وزاد يقينه حين جاءت عطلة الصيف و تكررت الزيارات بين الأسرتين .. كان باديا للعيان أن شيئا ما يدبر في الخفاء بين النساء .. ثم تلا ذلك لقاءات بين الخطيبين .. وتعود الأهالي على رؤيتهما يتمشيان على حافة النهر .. لم يثر تصرفهما استنكارا و إن كان حدثا جديدا .
فضيلة تعيش في شبه غيبوبة .. تلقت الأمر بكل رضا واستجابت لدعوة الخروج للتنزه عن طيب خاطر.. ربما فوجئت بتسارع الأحداث وتمنت لو يؤجل الأمر بعض الوقت .. لكنها استسلمت للأمر الواقع و أقبلت على الحياة الجديدة بكل تفاؤل و بشر .. وماذا عساها أن تفعل و الخيار يعود لوالديها ؟..
بدا لها الراضي مغنما تستطيع المباهاة به أمام قريناتها ، ليس في القرية فحسب ، و إنما في القسم الداخلي وفي حجرة الدرس أيضا .. ربما كان لديها إحساس غريب بالتوتر كلما خلت إلى نفسها و استرجعت كل ما مر بها من أحداث في يومها. وتتساءل مرارا هل كان في إبداء عواطفها تجاه الراضي تسرعا .. لكنها لا تملك حق الرفض في ما إذا عن لها ذلك .. فقد قضي الأمر ، وصار من المؤكد اقترانهما الوشيك الذي لم يعد سوى مسألة وقت ليس إلا .
وحدها أمينة ، صديقتها الحميمة ، أدركت لأول وهلة ترددها ولاحظت شرودها في بعض الأحيان . ولم تحتج لوقت طويل حتى تدرك أن القلب مشغول بغير الراضي .
- اسمعي – قالت لها يوما بلهجة انتفى منها كل مزاح – لا تلعبي بالنار .. حددي موقفك .. لا زال الوقت مبكرا ..
- وماذا أفعل و الأمر ليس بيدي ؟
- أنا أعرف أن الأمر صعب جدا ويتطلب جرأة و تضحية .. لكن ذلك خير من التردد و السكوت .
- هل أعصي أمر والدي ؟
- لم أقل هذا .. لكن عليك بالتحدث إليهما .. ابدئي بأمك .
- أنت لا تعرفين تقاليد بلدنا .
- إذن اقبلي بالراضي .. و عسى أن تكون العشرة كفيلة بتآلفكما ...
كان هذا آخر حديث لهما قبل أن تبدأ العطلة .. الراضي لم يتوقع أن تمر أيامها بهذه الرتابة و بكل هذا الملل .. فسفر فضيلة مع والديها عند الأهل بإحدى المدن الساحلية ترك فراغا قاتلا .. لكن ذلك لم يكن أشد وقعا من يوم عودة الوالدين دون فضيلة عند انتهاء العطلة .. ما الذي يحدث ؟ .. فضيلة اختارت التوجه مباشرة إلى حيث تدرس لقضاء بعض الوقت مع زميلاتها في ترتيب أمور السكن الجديد بعد أن غادرت القسم الداخلي .. والوالدان لم يقدما تفسيرا مقنعا حول هذا التصرف وإن بدا عاديا ، وإجاباتهما صارت غامضة شيئا ما .. إذن عليه بصديقه أخ فضيلة الذي رافقها إلى المدينة ، وعاد منتشيا بهذه الجولة التي لم يكن يحلم بها .
- لا تقلق – قال له المفضل مهدئا ثورته البادية في عينيه – أنت تعرف البنات .. يتقلبن سريعا .. مزاجهن غير ثابت .. عليك بالصبر .. كنت أظن أنك أدرى مني بهذه الأمور .. عليك بالصبر .. ثم .. دعني أقول لك إن الأمر قسمة ونصيب .
- ماذا تعني ؟
- لا شيء سوى أننا يجب ألا نعلق كل آمالنا على شيء ما ..و أن نكون دائما مستعدين لما قد لا يستجيب لطموحاتنا ..
- رائع .. ما زلت تحتفظ بشيء مما درسته عن الطموح .. لكن هذه نغمة جديدة اسمعها .
قهقه الآخر ورد وهو يهب واقفا :
- نغمة ؟ .. هل سمعتني أغني ؟ .. هيا قم بنا نتجول عند العين .
الحوار ينذر بشيء لا يسر .. و الراضي يحس بأن كل شيء تغير .. فضيلة .. والداها . أخوها .. حتى نظرات الطلبة بدأت ترمقه في فضول هو مزيج من الشفقة والشماتة ... حاول أن يلتقي بفضيلة دون جدوى .. اختفت .. لكنه يحس بها قريبة منه ، تحوم حوله ، تراقبه وتحذر أن يراها .. ماذا تريد ؟ .. هل تختبر محبته لها ؟ .. ألا تدرك أنه ليس من الصنف الذي يكتم عواطفه ويظهرها متى شاء ؟ ..
أمينة وحدها كانت منقذة له من حيرته .. و لكن إنقاذها كان أشبه بخنجر يخترق قلبه فيشطره نصفين ..
- اسمع يا أخي .. أعرف أنك عاقل ، وإلا لم أكن لأحدثك بهذا الأمر ..فضيلة من طريق و أنت من طريق آخر ..الحمد لله ألا شيء يربطكما لحد الآن سوى الخطوبة .. وهذا أمر هين نسبيا .
يحس بقلبه ينزف .. الأرض تميد تحت قدميه .. فيسألها بهمس كالفحيح :
- ولكن لماذا ؟ ..ماذا جنيت حتى تفعل بي هكذا ؟
وكأنه أدرك شفقتها عليه ، فشمخ بأنفه قائلا :
- هل حسبت أنني سأركع أمامها راجيا متوسلا ؟
- لا .. من الأفضل أن تأخذ الأمر بكل بساطة .. انتهى كل شيء .. التقيتما بمحبة فافترقا بمحبة .
هم بالانصراف .. لكنه تردد .. في عيونه تساؤل .. فلم تمهله وقالت بهدوء :
- هو مدرس الفرنسية ..
سهم قليلا قبل أن يجيب وعلى شفتيه شبه ابتسامة ساخرة :
- هكذا إذن ؟
دار على عقبيه وأمينة تتأمله في حيرة وشفقة و هو يردد :" الموت لا شيء .. العالم يحترق .."
مدرس الفرنسية .. صاحب النظارتين المكورتين و الشارب الدقيق .. كأنه فيلسوف ..هيكل عظمي يمشي على رجلين .. ما الذي جذبها فيه ؟ .. لعنة الله عليكم أجمعين .. أنت .. لم تكوني سوى .. سوى .. ساقطة ..
كل القرية و ما جاورها ارتجت للخبر الذي وقع كالصاعقة .. يروي المفضل أنه دعا الراضي إلى حضور فيلم سينمائي في القاعة الصغيرة الوحيدة بالمدينة .. كانت تعرض شريط عنترة و عبلة .. و لم يفطن إلا وهو بهمس في أذن رفيقه :
- هذا نوع الأفلام المحبب لدى فضيلة .. المسكينة .. تركتها متلهفة لسماع ملخص عن الفيلم .
- هل هي مع .. الآخر ؟
- لا ..
و كأنه أدرك خطأه بذكر سيرة الفتاة فسكت .. لحظات مرت قبل أن يفطن إلى شغور المقعد بجانبه .. خفق قلبه بعنف و نهض يجري متوجسا الأسوأ .. لكنه اطمأن لهدوء الحي الذي صارت تقطنه فضيلة صحبة رفيقاتها .
دق جرس الباب فلم يفتح أحد .. ساورته الشكوك فنادى بعض الجيران يسألهم عن فضيلة .. أجابته إحداهن أن أخته دخلت للتو .. تسلق ماسورة العادم ودخل من النافذة المشرعة .. وفي الحين تعالى صياحه وهو يطل منها مستنجدا ، بينما تسرب إلى الخارج دخان كثيف .. تجمهر السكان واندفعوا ليطفئوا الحريق ثم تراجعوا أمام جثة فضيلة وقد نزف دمها بينما رقد الراضي جانبها ويده لا تزال ممسكة بمقبض السكين المغروس في صدره .. [/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس