عرض مشاركة واحدة
قديم 29 / 10 / 2012, 42 : 09 AM   رقم المشاركة : [19]
نصيرة تختوخ
أديبة ومترجمة / مدرسة رياضيات

 الصورة الرمزية نصيرة تختوخ
 





نصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond repute

رد: تعريف الطائفية وسبل النجاة من سمومها / ندوة مفتوحة للنقاش

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]دور التدخلات الإقليمية في صناعة المسـألة الطائفية في العراق
فاضل الربيعي
يرتبط تفجرّ المسألة الطائفية في العراق، وصعود دور العامل الإقليمي كمؤثر خارجي مقرر في الكثير من السياسات المحلية في هذا البلد، وبشكل متلازم، بوقوع الاحتلال الأميركي في 9 نيسان/ إبريل 2003. قبل هذا التاريخ، لم تكن المسألة الطائفية أو العامل الإقليمي، موضوعاً دراسياً إلا في حالات نادرة، كان النقاش يجري خلالها بصورة غير علنية عن سياسات تمييز طائفي ذات طابع محدود، وعن تدخلات إقليمية محدودة كذلك.

اليوم، بعد سنوات من الاحتلال، هناك ما يشبه الإجماع على أن هذا التلازم تدعمه مجموعة من الحقائق، أبرزها أن محو الدولة وتفكيكها وانهيار مؤسساتها، وتلاشي مرتكزات الضبط الاجتماعي التقليدية في المجتمع، أدّى، ذلك كله، إلى شيوع نمط من الانفلات الأمني في جميع المستويات، وإلى تعاظم قوة الفاعل الإقليمي وتأثيره في الأحداث.

إن دراسة هذا الجانب من المسألة يمكن أن يوفر إمكانات ومعطيات جديدة لبناء فهم أفضل وأعمق للنتائج المترتبة على ظهور دور العامل الإقليمي وتبلوره كطرف فاعل.

كان لإيران في فترات ومراحل مختلفة من تاريخ العراق الحديث، بخلاف الكثير من القوى الإقليمية، لأسباب وظروف وبواعث عديدة ومعقدة نجمت عن الاحتلالات المتعاقبة التركية والإيرانية لهذا البلد، شأن مقرر في المعادلات الداخلية العراقية. ولعل حقبة الاحتلال البريطاني للعراق التي بدأت في عام 1917 هي الحقبة الأكثر نموذجية في تصنيف هذا الدور وتحديد طبيعته؛ فقد سعت إيران بعد تلاشي العدو العثماني من المسرح التاريخي، ومن خلال حلفائها السياسيين، وخصوصاً جماعات المجتهدين(1) إلى بلورة تيار ديني-سياسي يدعو إلى ضم العراق إليها وإلحاقه بها (2).

وخلال المناقشات التي أجراها السير أرنولد ويلسون، المفوض المدني البريطاني في نهاية عام 1918، مع بعض قادة هذا التيار، تكشفت أبعاد الدور الإقليمي وحدوده؛ إذ انقسمت الجماعات الشيعية إلى ثلاث كتل رئيسة، طالبت إحداها علناً بضمّ العراق إلى إيران، بينما دعت الثانية إلى إبقاء العراق تحت الحكم البريطاني(3).

أما الثالثة فدعت إلى خروج الاحتلال من العراق وتنصيب ملك عربي عليه. وفي وقت لاحق تمخض اجتماع تاريخي لهذه الجماعات عقده المرجع الشيعي الأعلى كاظم يزدي المعروف بمهادنته البريطانيين، وبناء على طلب ويلسون نفسه، عن نتائج مكرّسة لهذا الانقسام في صوره الأولى.

لكن تيار الضم والإلحاق هذا، سرعان ما أصابه الوهن والضعف بوفاة يزدي المفاجئة في نهاية عام 1919، وصعود آية الله الشيرازي الذي قاد بنفسه تياراً عروبياً لا يقبل المهادنة، ويدعو علناً إلى منح العراق استقلاله وحقه في تنصيب ملك عربي عليه، وهو المطلب الذي سينادي به ثوار 1920. لقد كان الدور الإقليمي لإيران، يتجلى، باستمرار وبأوضح صوره، داخل المسرح العراقي وليس في أي مكان آخر.

من الواضح أن المرتكزات التاريخية لهذا الدور تكمن في عاملين رئيسين، أولهما وجود مؤسسة دينية كبرى قادرة على التأثير المباشر في الجماهير الشعبية الشيعية وفي مختلف الطبقات كذلك، وثانيهما، تفكك ماكينة الدولة "القديمة" وقيام الاحتلال بالتخلص من الإدارة السابقة (السنية الموالية للعثمانيين في الغالب)، وهما أمران تكررا بصورة مأساوية، مرة في عام 1917 حين سرّح الإنكليز موظفي الإدارة من أهل السنة، ومرة أخرى حين طبق الأميركيون بقسوة قانون اجتثاث البعث، وجرى بموجبه استبعاد آلاف الموظفين والعسكريين من أهل السنة.

وعلى الأرجح-من المنظور التاريخي-أن افتقاد أهل السنة مرجعية دينية مؤسسّية، كما هي الحال عند الشيعة، كان له شأن، على نحو ما، في تشتت القوة الشعبية اللازمة والضرورية لوجودهم كقوة سياسية فاعلة. ويتضح هذا البعد بجلاء، أكثر ما يتضح، في تلازم ثلاثة عوامل رئيسة كان لها شأن مهم في صعود الجماعات الشيعية خلال الاحتلالين البريطاني 1917 والأميركي 2003، الأول: وجود المرجعية كمؤسسة دينية موجًّهة للرأي العام (الشيعي). والثاني: نشوء الأحزاب الشيعية داخل حاضنة ترعاها المرجعية بصورة غير مباشرة. والثالث: صعود دور إيران الإقليمي.

لقد نشأ "حزب "الدعوة الإسلامي" عام 1958 مثلاً، داخل حاضنة ترتبط بوشائج وثيقة بالمرجعية، حتى إن لجنة تأسيس الحزب كانت تتألف من محمد باقر الصدر فيلسوف الحزب ومؤسسه، ومحمد مهدي الحكيم ابن المرجع الشيعي محسن الحكيم(4) إلى جانب شخصيات أخرى. وفي الوقت ذاته، ارتبط نشوء الحزب وصعود دوره، بوجود روابط قوية بطهران. والأمر ذاته ينطبق على أحوال تأليف "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق" الذي أسسه آل الحكيم في معسكرات الجيش الإيراني على الحدود العراقية-الإيرانية.

واليوم، مع الاحتلال الأميركي للعراق، يتمثل العامل الإقليمي لبعض النخب السياسية العراقية، وحتى للكثير من المواطنين في بروز دور إيران وحدها مجدداً، ومن دون سائر الأطراف، كلاعب مقرّر في المعادلات الداخلية. وفي حالة العراق الراهنة، بات تعبير "العامل الإقليمي" في معظم الأدبيات السياسية السائدة، يعني الإشارة إلى النفوذ الإيراني، بينما يشار إلى إيران في أدبيات سياسية أخرى، ومن دون تسميتها بالاسم، بعبارة "العامل الإقليمي". وهذا أمر مثير بالفعل، لأنه يكشف جانباً معقداً من تلازم المسألة الطائفية مع فاعلية العامل الإقليمي.

بيد أن تباين مستويات الدور الإقليمي واشكاله وتنوع مصادره، تجعل من الصعب اختزال مضمون هذا الدور وتحديده بطرف واحد من دون سائر الأطراف الأخرى. لقد بينت تجارب النزاع الداخلي والصراعات المحلية في العديد من البلدان، ومن بينها العراق، أن العامل الإقليمي، يمكن أن يتحول إلى عامل محلي، وأن يصبح من مكوّنات الصراع الداخلي.

كما بينت سائر هذه التجارب، أن تواصل الصراع واستمراره، وتزايد حاجات الأطراف المحلية إلى مصادر دعم وإسناد، وشعور دول الجوار القريب والبعيد بالخطر على مصالحها في المجال الجيوسياسي لمنطقة النزاع، هي من بين أبرز الأسباب التي تؤدي إلى تزايد فرص وإمكانات التأثير في المعادلات السياسية الداخلية، سواء جاء ذلك من الدول الطامعة، أو من البلدان المجاورة الخائفة من تداعيات تفجر المسألة الطائفية ونتائجها.

وفي الحالة العراقية الراهنة، يتمثل العامل الإقليمي في ظهور أشكال غير مسبوقة من التدخلات العسكرية والسياسية والثقافية، المباشرة وغير المباشرة، الصادرة عن دول الجوار، كما يتمثل في فاعليته ودرجة تأثيره في مجرى الصراع المحلي والتحكم في مساراته.

ولأن هذا العامل بطبيعته، لا يظهر كسبيكة متماسكة تصدر عن مركز أو طرف واحد، وهو على العكس من ذلك، ينبع من مصادر متنوعة ومتناقضة وحتى متصارعة في الرؤى والمصالح، فقد بات أمراً ملحاً إعادة تعريف "العامل الإقليمي" لإظهار حدود مسؤوليته عن بلورة النزاع الداخلي في صورته الإثنية (العرقية) والمذهبية المرّكبة.

إن التفاوت النسبي في فاعلية هذا الدور وقوة زخمه، بين هذا الطرف أو ذاك، من شأنه أن يحدد درجة التأثير وأمدائه. فالدور الإيراني مثلاً، لا يمكن مضاهاته بالدور التركي، والدور التركي لا يمكن مضاهاته بأدوار بعض الأطراف العربية، وأدوار هذه البلدان لا يمكن مقارنتها بالاتساع المضطرد للنفوذ الإسرائيلي الخفي. ويلاحظ في هذا السياق، أن الدور التركي في العراق، مرسوم بطريقة شديدة الحذر، وعابرة للبعد الطائفي(5). فحين وقعت، بعد أقل من عام على الاحتلال الأميركي، بعض الأحداث الطائفية بين التركمان الشيعة والسنة في الخلاف على أحد المراقد الدينية في كركوك، لم تعط تركيا أي انطباع عن أن دورها الإقليمي مرتبط بالبعد الطائفي للصراع.

وعلى العكس من ذلك، تمركز هذا الدور في ثلاثة محاور. أولها، إعادة صوغ العلاقات التركية-الكردية كعلاقات مصالح سياسية، وتجلى هذا الأمر في نجاح أنقرة في بناء علاقات متوازنة مع كردستان العراق (بمركزيه السياسيين: أربيل والسليمانية). وثانيها، رعاية محادثات سياسية بين الأطراف المتصارعة، وذلك ما برهنت عنه مناسبتان مهمتان متزامنتان تقريباً، التقى خلالهما رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري القادم من طهران، علاوة على الإعلان عن محادثات سرية بين الأميركيين وبعض فصائل المقاومة العراقية في أنقرة برعاية تركية-قطرية.

وثالثها، تشجيع العراق على الانجذاب نحو شراكات اقتصادية جديدة، وذلك ما عبرت عنه الاتفاقات المتنوعة التي وقعها الأتراك مع العراق، وإحداها اتفاقية إنشاء خط بري استراتيجي لنقل المنتجات النفطية لدول الخليج العربي، يربط البصرة بميناء جيهان التركي عبر الأراضي السورية (طرطوس-اللاذقية). ومع أن لأنقرة كثيراً من المبررات لاستغلال مسألة التركمان (في كركوك)، وهي مسألة تتيح لصانع القرار الدخول بقوة على خط التناقضات الداخلية؛ فإن المعطيات والوقائع تؤكد أن تركيا ظلت شديدة الحذر من ورقة التركمان العراقيين.

إن السياسة العابرة للبعد الإثني (العرقي) والمذهبي (الطائفي) والتي انتهجتها تركيا طوال السنوات المنصرمة، هي التي وفرت الأحوال الملائمة لرؤية دورها الإقليمي كفاعل إيجابي في المسألة الطائفية، بينما اتسمت النظرة إلى أدوار بعض البلدان العربية بالتخبط(6)، فتارة يجري لوم البلدان العربية لتخليها عن العراق وتقاعسها عن التدخل، وتارة يجري توجيه اتهام بعضها بالتسبب في أعمال العنف (ودعم الجماعات الإرهابية).

كما هي الحال مع اتهام المملكة العربية السعودية، في بعض الفترات، بالمسؤولية عن تسلل مقاتلين سنة. ومع ذلك، فقد تشكلت في الأدبيات السياسية السائدة في العراق وخارجه وعلى امتداد أكثر من سبع سنوات، صورة نمطية عن الدور الإقليمي وارتباطه بالمسألة الطائفية، والذي يحصر المسألة برمتها في شكل واحد هو الصراع الشيعي-السني، وفي طرف واحد هو إيران، بحيث بات من المألوف سماع اتهامات صريحة ضد طهران، لمسؤوليتها عن تأجيج المسألة الطائفية، واستغلال نفوذها للتمدد المذهبي.

والمثير للاهتمام أن المنظور السائد للمسألة الطائفية في الكثير من الأدبيات السياسية، يخلط بين تصورين للدور الإقليمي الإيراني، أحدهما لا يرى في إيران إلا دولة مذهبية طامعة في التمدد المذهبي (الشيعي) للهيمنة على العراق، بينما يرى التصور الآخر فيها دولة "قومية" تتحكم في استراتيجياتها أطماع تاريخية للفرس تتعدى نطاق العراق.

وهذان المنظوران المتناقضان (المذهبي والقومي) يساهمان في تعقيد النظرة إلى دور إيران، وفي إشاعة أجواء من الحيرة في تفسير أسباب تزايد نفوذها. والأخطر من ذلك، أن إيران تصبح في الحالتين، مصدر النزاع، وفي الآن نفسه الطرف المستفيد منه. والسؤال المعروض اليوم هو: هل أدى تفجر المسألة الطائفية عقب الاحتلال إلى تعاظم فرص إيران في لعب دور مؤثر في المعادلات العراقية الداخلية؟ أم أنها وجدت في الاحتلال الأميركي ضالتها للعب دور إقليمي أوسع، يمكن أن يوفر لها فرصاً متزايدة لدعم نفوذها في العراق والمنطقة ؟

إن إعادة تعريف العامل الإقليمي، وتحديده ودرجة ارتباط تأثيراته بالمسألة الطائفية، تتطلب ملاحظة تعقيدات الحالة العراقية وتراكب مصالح القوى والأطراف المحلية الصانعة وتشابكها. وإن فهماً أعمق لحدود هذا الدور وظروف استمراره بقوة متصاعدة يجب أن يلحظ، ثلاثة عوامل داخلية رئيسة:


أولا ً: انهيار الدولة وتفككها وفاعلية العامل الإقليمي

يرتبط العامل الإقليمي والمسألة الطائفية، بصورة وثيقة، بتلاشي الدولة العراقية بعد الاحتلال. وقد لاحظ تقرير المجموعة الدولية للأزمات International Crisis Group بعد بحث ميداني استغرق عدة أشهر ونشر تحت عنوان "ماذا في إمكان الولايات المتحدة أن تفعل في العراق؟" (7) أن غياب الدولة المركزية سيفتح الأبواب أمام التدخلات الإقليمية، وأن الأحداث في هذا البلد ستكون مدفوعة إلى مدى بعيد بالعوامل الداخلية المرتبطة ببيئة إقليمية ذات دور متزايد الفاعلية. لقد بلغ انهيار الدولة والمجتمع في العراق ذروته خلال عامي 2005 و2006، عندما تفجرت أعمال العنف الطائفي الواسعة النطاق بعد تفجيرات سامراء(8) (تفجير مرقدي الإمامين العسكريين) واتضح بعدها أن أعمال العنف هذه قادتها قوى مسلحة جديدة حلت محل الدولة في الكثير من المرافق، أو فرضت هيمنتها المطلقة بقوة السلاح على المجال الحيوي للدولة المنهارة، أو تسللت إلى أجهزة الجيش والأمن والشرطة في ما عرف بسياسات دمج المليشيات التي اتبعتها وزارة الداخلية.

ثم سرعان ما تحولت هذه القوى وخلال وقت قصير، إلى طرف صانع للمسألة الطائفية. كما اتضح أن أعمال العنف كانت ذات خاصية فريدة، فهي موّلدة لتناقضات جديدة تملك قابلية الاتساع والانتشار في مساحات اجتماعية خارج الدائرة الإسلامية، مثل تجمعات الصابئة المندائيين في محافظة ميسان (الجنوب)، والقرى والبلدات الكلدانية والآشورية والكنائس في الشمال، وهي تجمعات تعرضت، بشكل غير مسبوق، لأعمال تهجير وقتل واختطاف مروعة على خلفية غير طائفية. كما أن أعمال العنف ضربت معظم مناطق العاصمة، وبعض المحافظات القريبة (مثل ديالى شرقي بغداد حيث توجد تجمعات شيعية كبيرة)، وسلسلة أخرى من القرى والمدن الصغيرة ذات الأغلبية السنية غربي بغداد.

وكما لاحظ روبرت درايفوس(9) في مقالته الممتازة Our Monsters In Iraq، أي "وحوشنا في العراق"، فقد لعبت فرق الموت التي أدخلها الأميركيون دور الوحوش المفترسة لآلاف الأبرياء من أبناء الطائفتين. بيد أن أخطر النتائج والتداعيات الناجمة عن تفكيك الدولة، ومحو مؤسساتها الكبرى، وخصوصاً المؤسسة العسكرية، تكمن في الطبيعة المركبة للصراع، فهو إثني-مذهبي، وهو صراع سياسي-طائفي أيضاً. وهذا ما يتجسد في النزاع الكردي-التركماني- العربي على كركوك. وفي هذا ما عادت مكوّنات الصراع في المسألة الطائفية، محلية خالصة، وبات العامل الإقليمي فاعلاً أساسياً فيها. إن البيئة التي يترعرع فيها العامل الإقليمي، هي بيئة المصالح السياسية الكبرى للدول والشعوب، لا المعتقدات الثقافية فحسب، وأي محاولة لتصوير العامل الإقليمي كعامل مذهبي، سيكون نوعاًً من إغفال متعمد لدور المصالح السياسية ولأبعاد الصراع نفسه.


ثانياً: طبيعة الصراع ودور العامل الإقليمي

كشفت أحداث العنف الطائفي خلال عامي 2005 و 2006 أن القوى المنخرطة في الصراع عاجزة عن حسمه بوسائل وأدوات طائفية، وأنها قد تتسبب في حدوث خلل أعمق في التوازن الإقليمي للقوى. والأهم من ذلك، أن تضطر إلى تفعيل العامل الإقليمي كعامل محلي، وهو ما يعني تورط أطراف إقليمية في صراع مباشر. كما كشفت عن حاجتها إلى مبررات وأوضاع ملائمة لمواصلته. لقد اتضح في هذه الآونة أن جوهر الصراع الدائر لم يكن طائفياً، أو أنه لم يتحول إلى صراع طائفي تقليدي (نمطي) إذ لم يحدث ارتطام أو تصادم عنيف بين الكتل المذهبية التقليدية، بعضها مع بعض.

وعلى العكس، تكشَّف عن كونه صراعاً سياسياً بين قوى جديدة متنافسة على مصادر النفوذ والسلطة والمال. وفي حالات كثيرة-مثل عمليات التهجير القسري الذي قامت به الميليشيات الشيعية والسنية شرق وغرب بغداد-تطوع سكان محليون لتقديم الحماية والمأوى لمئات الأسر الشيعية والسنية.

ولعل حادثة انهيار جسر الأئمة الرابط بين الأعظمية (السنية) والكاظمية (الشيعية)، وهو الحادث الذي أدى إلى غرق العشرات من المواطنين المشاركين في احتفالات إحياء ذكرى عاشوراء عام 2005، كاف من حيث دلالاته المباشرة، لتدعيم الانطباع بأن الصراع لم يكن طائفياً بمقدار ما كان سياسياً، وذلك ما أدركه العراقيون وهم يتداولون قصة إنقاذ أسطورية بطلها أحد شبان الأعظمية، الذي دفع حياته لإنقاذ بعض ضحايا انهيار الجسر من أبناء الشيعة.

إن تبلور الصراع خلال تفجر أعمال العنف هذه بصفة كونه صراع إرادات سياسية محلية عاجزة عن تحويله إلى صراع مذهبي، وهشاشة طابعه الطائفي الذي ظل محدوداً وشكلياً، يدعم حقيقة أن العامل الإقليمي شهد، بدوره، الآخر تحولاً مماثلاً في طبيعة دوره. ولكن هذا التحول ظل محدوداً وضيقاً. لذلك، تشكل منظور جديد للدور الإقليمي والمسألة الطائفية، يرى في النفوذ الإيراني فاعلا سياسياً ومذهبياً في آن.


ثالثاً: البعد السياسي للمسألة الطائفية

اتسمت خريطة الصراع المحلي خلال سنوات 2006-2010 بتبلور ثلاثة أطراف رئيسة هي:

أ-قوى التفعيل الطائفي: وتضم هذه جماعات مختلفة شيعية وسنية متنافسة. فالمجلس الأعلى مثلاً، وإن ارتبط مع حزب الدعوة بمشتركات عقائدية وسياسية ومصالح، إلا أنهما ظلا طرفين متنافسين إلى النهاية. لقد كان جوان كول(10) على حق في دراسته العلاقات التاريخية المعقدة والمتوترة التي ربطت حزب الدعوة بآل الحكيم عندما أشار الى أن حزب الدعوة قطع صلته بالمجلس الأعلى عند تأسيسه في العام 1982 ليصون استقلاله.

كما أن التيار الصدري الذي يرتبط بعلاقات وثيقة بحزب الدعوة، وجد نفسه في قلب صراع دامٍ ضد هذا الحزب حين تولى نوري المالكي رئاسة الوزراء (تعبر عن هذا الصراع معارك البصرة بين الصدريين والقوات الحكومية في صيف 2006)، بينما اتسم التنافس بين الحزب الإسلامي (السني) وجبهة التوافق الوطني (السنية) من جهة، وهيئة علماء المسلمين من جهة أخرى، في كثير من الحالات، بالقسوة والضراوة، ولا سيما حين جرى اتهام الهيئة بدعم الجماعات الإرهابية، فاستولى الوقف السني عنوة على مقر الهيئة في جامع أم القرى. كما أن المعارك التي خاضتها قوات الصحوة ضد تنظيم القاعدة، وفي موازاتها معارك الصحوة ضد الحزب الإسلامي في الأنبار، تدل على الطبيعة المعقدة للصراع.

ب-قوى الصّد الطائفي: تلازم صعود أدوار هذه القوى مع وهن قوى الصّد الطائفي في المجتمع (أي التيارات الليبرالية والقومية والعلمانية القادرة على مواجهة الثقافة الطائفية). وتجلى ضعف هذه القوى بعد الاحتلال مباشرة وفي أسطع صوره، في حالتين نموذجيتين: الأولى في الإعلان المفاجئ عن تحول تيار المؤتمر الوطني (الليبرالي) الذي يقوده أحمد الجلبي إلى حركة سياسية باسم "البيت الشيعي" لضمان مشاركته الفاعلة في انتخابات 2005، والثانية في مشاركة الحزب الشيوعي العراقي في مجلس الحكم المؤقت(11) كطرف شيعي (المقعد الرابع عشر عن الشيعة).

وكان لهيمنة القوى الرئيسة التي تملك وشائج وروابط قديمة بطهران على مرافق الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، ومسارعتها إلى احتكار السلطة والنفوذ والثروة، أكبر الأثر في حدوث خلل في توازن القوى الاجتماعية، وفي خلق نمط من التفاوت في قوة الجماعات المحلية وقدرتها على التحكم في مسارات الأحداث وتطورها.

لقد تلازم صعود أدوار قوى تفعيل المسألة الطائفية على مستوى المجتمع (الأحزاب الدينية الشيعية الكبرى مثل المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة والتيار الصدري وجماعات صغيرة أخرى مؤثرة مثل حزب الفضيلة وحركة العمل الإسلامي) مع صعود أدوار قوى وجماعات وأحزاب سنية مثل (الحزب الإسلامي وجبهة التوافق وهيئة علماء المسلمين وجماعات صغيرة أخرى).

وهذه مجتمعة، كان صعودها يتلازم مع ضعف وحتى تلاشي قدرة التيارات القومية والعلمانية والليبرالية. لكن صعود أدوار هذه القوى، وبعضها قوى تاريخية أعادت تأسيس نفسها وتمكنت من استعادة مكانتها كأطراف فاعلة، لم يكن له أدنى تأثير في إحداث التوازن الاجتماعي-السياسي بين الطائفتين. وفي الغالب، يُعزى هذا الخلل في القوة والتوازن إلى العامل الإقليمي، إذ يشكو أهل السنة بمرارة من النفوذ الإيراني كمصدر أساس من مصادر هيمنة الأحزاب الشيعية على الحياة العامة والمرافق الحكومية. وفي الوقت ذاته، يجرى التركيز على هذا العامل كسبب وحيد لتهميش دورهم السياسي.

ومع ذلك، اتسمت نظرة العراقيين، عموماً، إلى هذه القوى على أنها جماعات سياسية متنافسة على مصادر السلطة، لا جماعات ممثلة للطائفتين، وبأنها تستخدم الخطاب السياسي-الديني في صراعٍ يدور في الأساس، داخل حقل السياسة لا داخل حقل الهويات المذهبية. وهذا التطور في النظرة إلى جوهر الصراع هو الذي أضفى عليه، وبقوة، طابعاً سياسياًً، وجعل من هذه القوى، مجرد جماعات تدير صراعاًً سياسياً بأدوات طائفية، لا قوى اجتماعية تدير صراعاً طائفياً بأدوات سياسية.

إن عجز قوى التفعيل الطائفي عن تحقيق تمثيل حقيقي لأي من الطائفتين، بحيث تصبح هذه القوى ناطقة باسم طوائفها ومعبرة عن مصالحها، هو الذي أضعف قدرتها-في النهاية-على إدارة الصراع الطائفي، وأعاد إدراج تنافسها إلى حقل الصراع السياسي. وكما بينت الأوضاع والأحداث، فقد كانت مشكلة التمثيل الطائفي أعقد من أن تحسم بسهولة. فجميع هذه الجماعات لم تتمكن من تجسيد تمثيلها لطوائفها، وكان من الواضح أن ثمة هوّة تفصل بين الطائفة والحزب الديني، فلا الأحزاب الشيعية تمكنت من تحقيق هذا التمثيل بالمعنى الطائفي، ولا الجماعات السنية كانت قادرة على تقديم نفسها للجمهور السني كتجسيد لإرادته وهويته المذهبية.

ولذلك نشأ وضع غريب وشاذ بالفعل؛ فقد بلغ العداء بين هذه القوى، بعضها ضد بعض، وفي حالات وفترات مختلفة، إلى نشوء أوضاع مولِّدة لصراع طائفي بالفعل، لكنه لا يملك قابلية التحول إلى صراع كتل مذهبية، وظل محصوراً في دائرة التنافس السياسي. ومن بين أبرز الأسباب التي أدت إلى تشكل بنية المسألة الطائفية كبنية محلية يلعب فيها العامل الإقليمي دوراً منشطاً، أن صعود أدوار هذه القوى كان يتلازم مع تزايد وهن قوى الصّد المحلية وضعفها.

ج-البعد الإثني القومي في المسألة الطائفية: اتخذ مسار الصراع السياسي الذي خاضته القوى السياسية المختلقة بأدوات طائفية، بعده الإثني/القومي، مع تفجر مشكلة كركوك. واتضح أن هذه المشكلة تهدد بتطوير الصراع المحلي إلى صراع إقليمي، فلا إيران يمكن أن تسمح بحسم النزاع على ما بات يُعرف بالأراضي المتنازع عليها بين المركز وكردستان (ديالى وخانقين) لمصلحة الأكراد، ولا حتى أن توافق على هيمنتهم على كركوك (حيث توجد أقليتها الشيعية)، ولا تركيا يمكن أن تتقبل تمدد الإقليم الكردي إلى مناطق التركمان. وفي هذا الإطار برز البعد الإثني-المذهبي في العامل الإقليمي، وظهرت طبيعته المركبة.


توصيات واستنتاجات

لمّا كانت المسألة الطائفية في العراق، طبقاً لهذا المنظور، مسألة صراع سياسي تخوضه قوى مختلفة، ولكن بأدوات ووسائل طائفية، ولمّا كان العامل الإقليمي هو، في الجوهر، عامل المصالح السياسية والثقافية المباشرة لقوى المحيط؛ فإن إخماد هذا الصراع وتخطي الأوضاع التي تجعل منه صراعاً متواصلاً، لن يكون ممكناً من دون إنشاء مقاربة جديدة لمصالح الأطراف المحلية والإقليمية المختلفة، وهذا يستدعي:

1ـ التفاهم الإقليمي-الإقليمي: على إعادة بناء نظام الشراكات السياسية في العراق، من خلال إطلاق عملية سياسية جديدة تجمع الأطراف والقوى والجماعات كلها، وتشجعها على التقدم نحو حل وطني شامل. إن انسداد أفق الحل، وتنازع القوى السياسية، هو الأرضية الخصبة للتدخلات الإقليمية. ولذلك فإن تخطي نظام الحصص السياسية (بعدها الطائفي) لن يكون ممكناً إلا عبر التوافق على مساواة دستورية جديدة قاعدتها مبدأ المواطنة.

2ـ التفاهم الإقليمي-المحلي: بينت التطورات والأحداث أن تطويق نتائج العامل الإقليمي وتأثيراته في المعادلات المحلية، وهي تأثيرات مستمرة ومتواصلة، لن يكون ممكناً من دون وجود أرضية لحوار محلي-إقليمي، تشارك فيه جميع القوى (من الطائفتين). إن حواراً مباشراً مع إيران تقدم عليه القوى والأحزاب المعارضة لنفوذها في العراق، يمكن أن يفتح أفقا ً للحل الوطني الشامل.

3ـ الحوار المحلي-المحلي: إن تفاهماً بين دول الإقليم، وإطلاق حوار بين إيران ومعارضي نفوذها في العراق، من شأنه أن ينشئ الأرضية الملائمة لحوار وطني بين القوى السياسية العراقية، في داخل العراق وخارجه. ويجب أن تكون أولى أولوياته الحفاظ على العراق ككيان، ومنع تمزيقه والتلاعب في دوره وخياراته التاريخية.

---------------------------

الهوامش

1.عبد العزيز سليمان نوار، "تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى حكم مدحت باشا"، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1964، ص 300. تاريخياً، أطلق تعبير المجتهدين، أول مرة، على مجموعة من الهنود (من رجال الدين الشيعة كانوا يقيمون في النجف وكربلاء) خلال سنوات الصراع الإيراني ـ التركي على العراق طوال أربعة قرون متواصلة، كما أطلق على بعض رجال الدين الشيعة من العرب، ممن كان لهم شأن متميز في ثورة 1920، وكان حضورهم السياسي لافتاً في المناقشات التي دارت بعد الثورة في مسألة اختيار ملك عربي لحكم العراق. وقد عرف هؤلاء بارتباطاتهم القوية بإيران، وبميولهم المحافظة وبمواقفهم المتهاونة مع الاحتلال البريطاني. 2.فرهاد إبراهيم، "الطائفية السياسية في العالم العربي"، القاهرة: مكتبة مدبولي 1996، ص 84.
3.فرهاد إبراهيم، المصدر السابق، ص 84.
4. المرجع السابق، ص 245.
5.محمد نور الدين، "تركيا الصيغة والدور"، بيروت: رياض الريس للنشر، 2008، ص 235. بخلاف جيرانها (اليونان وأرمينيا) فإن العراق ـ بحسب نور الدين ـ يمثل أهمية أولى لتركيا لأسباب كثيرة، ولذلك فالدور التركي تجاه العراق، مرسوم بطريقة تراعي ثوابتها في هذا البلد، وأهم هذه الثوابت الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية ومنع التقسيم. لكن أهم ثوابتها التاريخية عدم السماح لإيران بالتمدد على حساب مصالحها، ومنع تمركز نفوذها في هذا البلد. ولذلك فهي تعارض سراً وعلناً إقامة فيدرالية شيعية، ولكنها ربما تضطر إلى القبول بهذا الأمر إذا فرضت عليها التطورات نوعا ً من صيغة ما لثلاث مناطق حكم ذاتي للأكراد والشيعة والتركمان.
6.رضوان السيد، "الصراع على مستقبل العراق: الحوزة والعشائر والاجتماع المدني السياسي"، مجلة "المستقبل العربي"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 292، حزيران/ يونيو 2003، ص 149. يلاحظ السيد أن لا مصلحة لدول المحيط العربي ودول الجوار في تقسيم العراق، ولكن الأتراك والإيرانيين يبدون أكثر قدرة من العرب على الحركة. كما يرى أن وجود أنصار للإيرانيين في داخل العراق قد يكون من بين أسباب قدرتهم على التحكم في مسارات الأوضاع هناك. لكنه لاحظ أيضاً، أن الأتراك يمتنعون عن لعب ورقة الشيعة التركمان. وهذا صحيح بوجه العموم.
7.المجموعة الدولية للأزمات International Crisis Group، "ماذا بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعل في العراق"، مجلة "المستقبل العربي"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: في 2005، شباط/فبراير، العدد 312، ص 24.
8.تميزت سامراء خلال الأسابيع القليلة التي أعقبت سقوط بغداد، بامتناع سكانها من سلب ممتلكات الدولة ونهبها عبر تأليف منظمات مشتركة من الشيعة والسنة في جميع الأحياء لمنع اي محاولة للنهب.
9.موقع http://WWW.Robertdreyfuss.com\articles.htm على شبكة الانترنت ، 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2010.
10.جوان كول وآخرون، "العراق: الغزوـ الاحتلال ـ المقاومة"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: 2003، ص 157.
11.أحمد الحاج هاشم الدفاعي، "محاضر مجلس الحكم الانتقالي"، بيروت: دار الطليعة، 2005، ص 61. في مناقشات أعضاء مجلس الحكم في شأن تعيين وكلاء الوزارات، جرى التأكيد على مراعاة هذا الجانب من التمثيل العرقي والطائفي.
--------------------

المراجع والمصادر

1.أحمد الحاج هاشم الدفاعي، "محاضر مجلس الحكم الانتقالي"، بيروت: دار الطليعة، 2005.
2.جوان كول وآخرون، "العراق: الغزو-الاحتلال-المقاومة"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003.
3.عبد العزيز سليمان نوار، "تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى حكم مدحت باشا"، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1964.
4.فرهاد إبراهيم، "الطائفية السياسية في العالم العربي"، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996.
5.محمد نور الدين، "تركيا الصيغة والدور"، بيروت: رياض الريس للنشر والكتب، 2008.
----------

الدوريات

1.رضوان السيد، "الصراع على مستقبل العراق: الحوزة والعشائر والاجتماع المدني السياسي"، مجلة "المستقبل العربي"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 292، حزيران/ يونيو 2003.
2.المجموعة الدولية للأزمات International Crisis Group، "ماذا في إمكان الولايات المتحدة الأميركية أن تفعل في العراق"، مجلة "المستقبل العربي"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 2، شباط/فبراير 2005.[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
نصيرة تختوخ غير متصل   رد مع اقتباس