13 / 01 / 2013, 10 : 07 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
كاتب نور أدبي متوهج ماسي الأشعة ( عضوية ماسية )
|
الاستيطان في بيت المقدس والمناطق المحيطة بها بين عام 492-583هـ/ 1099-1187م
[align=justify] - الجزء الأول من - الاستيطان في بيت المقدس والمناطق المحيطة بها بين عام 492-583هـ/ 1099-1187م
ملخص
يعالج هذا البحث موضوع الاستيطان الفرنجي في بيت المقدس ومحيطها، وناقش فيه الباحث ركائز الاستيطان بشكلٍ عام، وتطرّق لحصار بيت المقدس، والاستيلاء عليها من قِبَل الفرنجة، كما أشار إلى المجازر التي ارتكبها الفرنجة في المدينة المقدسة، وأبرز الباحث حاجة الفرنجة للعنصر البشري في عملية الاستيطان. كما أشار إلى المستوطنات التي أقامها رجال الدين اللاتين في المناطق الواقعة في محيط بيت المقدس، وتعرّض لذكر أهم المنشآت والمؤسسات التي أقامها رجال الدين اللاتين في المستوطنات، وفضلاً عن ذلك تطرّق إلى أهم نشاطات المستوطنين وأعمالهم وخاصة في مجال الزراعة والصناعة. كذلك أوضح الباحث طبيعة العلاقة بين المستوطنين ورجال الدين اللاتين في كنيسة القيامة، وفي نهاية البحث تطرّق الباحث إلى العوامل التي قوّضت الاستيطان وقضَتْ عليه.
1- عناصر الاستيطان:
تعتمد العملية الاستيطانية على مجموعة من الركائز, التي تُسهِم إسهاماً كبيراً في إنجاحها، وتجعلها حقيقة واقعة على الأرض، وتتمثّل هذه الركائز في مجموعة من القوى هي: العسكرية، والاقتصادية، والمالية، وتوافر السكان والأرض التي سيستقر عليها المستوطنون، فضلاً عن طرد أصحاب الأرض الأصليين من بلادهم. وليس من شك في أن هذه الركائز جميعها تحتاج إلى الدعم والمساندة من قوى دولية تؤيد الاستيطان وتمنحه غطاءً سياسياً قوياً.
وبطبيعة الأمر تعتبر القوة العسكرية ركناً أساسياً في العملية الاستيطانية، فهي تسهم في بسط السيطرة على الأرض، وطرد السكان الأصليين، وإقامة المستوطنات وحماية المستوطنين، ودونها لا يمكن أنْ تتوافر دعائم الاستيطان الأخرى، وإنْ توافرت فهي معرّضة للزوال، إذا لم تُتَح لها فرصة الحماية.
ولعلّ هذا يعني أنّ المستعمرَ إذا تمكّن من امتلاك الأرض، وطرد سكانها منها، فإنّه يصبح من السهل عليه استقطاب عناصره البشرية من أجل الاستيطان في البلاد التي خضعت لسيطرته. وكان المستعمر يلجأ إلى كافة الأساليب والوسائل التي تشجع مواطنيه على القدوم إلى الأراضي المحتلة، وكانت الإغراءات المادية والامتيازات من أهمّ الحوافز التي تدفع المستوطنين لهجر بلادهم الأصلية، والقدوم إلى البلاد الخاضعة لسيطرتهم.
وتسهم القوة الاقتصادية والمالية في العملية الاستيطانية من خلال دفع نفقات إقامة المستوطنات، ودفع أجور نقل المستوطنين، والإنفاق على المشاريع، ودعم القوة العسكرية من خلال دفع رواتب الجند وتجهيزاتهم العسكرية.
2- حصار الفرنجة لبيت المقدس والسيطرة عليها:
اعتمد الفرنجة الصليبيون على القوة العسكرية في السيطرة على المدن الفلسطينية، وقد حصل هؤلاء على الدعم الاقتصادي من البابوية والجاليات التجارية الايطالية، التي وافقت على نقل الجنود الفرنجة إلى الأراضي المقدسة؛ نظير الحصول على امتيازات مقابل إسهامهم في نقل الجند أو الاشتراك بمحاصرة المدن الساحلية.
ومهما يكنْ من أمر، فقد وصل الفرنجة إلى بيت المقدس في يوم الثلاثاء الموافق السابع من شهر حزيران (يونيه) عام 1099م/الخامس عشر من رجب سنة 492هـ، وشرعوا بحصار بيت المقدس التي كان سكانها على أهبة الاستعداد للدفاع عنها بكل قوة وشجاعة، وبعد حصارٍ استمر شهراً ونصف الشهر, تمكّن الفرنجة الصليبيون من الاستيلاء على المدينة في يوم الجمعة الموافق الخامس عشر من شهر يوليه (تموز) عام 1099م/ الثالث والعشرين من شعبان عام 492هـ(1)، وقد اقترفوا مذبحة رهيبة مروعة ذهب ضحيتها سكان المدينة المقدسة، ومن حضر للدفاع عنها من المناطق المجاورة(2)، وأشار ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) إلى ذلك بقوله: "وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين"(3)، ولم يراعِ الفرنجة الصليبيون حرمة الأماكن المقدسة، إذ قتلوا ما يزيد على سبعين ألفاً من المسلمين في المسجد الأقصى، كان من بينهم عدد من الأئمة والعلماء والزهاد والعُبّاد ممن جاور في ذلك الموضع الشريف، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء(4)، وقد افتخر المؤرخ الصليبي المعاصر رايموند داجيل (5) Raymound d’Aguils بالأعمال الإجرامية الحاقدة التي نفّذها بنو جلدته ضدّ سكان بيت المقدس بقوله: "إنهم (الفرنجة) داسوا بالخيول جثث المسلمين المكدسة في الحرم الشريف حيث كانت الدماء تصل (حتى لجام الخيل)" (6). وفي الموضوع نفسه يقول المؤرخ الفرنجي المعاصر فوشيه الشارتري (7) Fulcher of Chartres: "لو أنّك كنت موجوداً لغاصت قدماك حتى العقبين في دماء المذبوحين، ترى ماذا أقـول؟ إننا لـم نترك أحداً منهم على قيد الحياة، ولم ينجُ حتى النساء والأطفال"(8). ويشير المؤرخ الفرنجي وليم الصوري (9) William of Tyre إلى أنّ الفرنجة الصليبيين "راحوا يذرعون شوارع المدينة مشرعين سيوفهم فاتكين بكل ما يصادفونه من المسلمين، لا يراعون في ذلك عمراً ولا وضعاً"(10). ولم يكتفِ الفرنجة الصليبيون بذلك بل إنهم قاموا بشقّ بطون الذين ذبحوهم، لكي يستخرجوا من بطونهم العملات الذهبية التي كان المسلمون قد ابتلعوها وهم أحياء"(11).
يتّضح مما سبق أنّ المؤرخين المسلمين والفرنجة اتفقوا على أنّ الجيش الفرنجي الصليبي ارتكب مذبحة رهيبة مروعة ضدّ سكان بيت المقدس، لكنهم اختلفوا في عدد القتلى المسلمين، فرواية المؤرخين المسلمين تشير إلى أنّ العدد وصل إلى ما يزيد على سبعين ألفاً في المسجد الأقصى، بينما يذكر المؤرخون الفرنجة وفي مقدمتهم فوشيه الشارتري ووليم الصوري أنّ عدد القتلى في ساحة المسجد الأقصى بلغ عشرة آلاف قتيل(12)، ويضيف وليم الصوري إلى هذا العدد "القتلى الذين تناثرت جثثهم في كل شوارع المدينة وميادينها لم يكونوا أقل عدداً مما ذكرناهم"(13). ونعتقد أنّ الرواية الفرنجية الصليبية أقرب للصحة من خلال النقاط التالية: أنّ مساحة المدينة كانت حوالي كيلو متراً مربعاً، وكان يقطنها في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي/ منتصف القرن الخامس الهجري حوالي عشرين ألف نسمة حسب ما ذكره الرحالة الفارسي ناصر خسرو(14). ولكن هذا العدد تراجع بعد ذلك بسبب الحروب الكثيرة التي عانت منها المدينة، فضلاً عن عدم الاستقرار الذي شهدته خلال الربع الأخير من القرن الحادي عشر الميلادي(15)؛ بسبب الحصار الذي تعرّضت له أكثر من مرة سواء من الدولة السلجوقية أم الفاطمية، فعلى سبيل المثال دام الحصار الذي فرضته القوات الفاطمية على بيت المقدس عام 1097م/489هـ نحو أربعين يوماً، ولم تستسلمْ القوات السلجوقية التي كانت داخل بيت المقدس إلا بعد أنْ ضربت المدينة بأكثر من أربعين منجنيقاً دمّرت جزءاً من سورها(16).
* التدابير التي اتخذها الفرنجة لتحويل بيت المقدس إلى مستوطنة لاتينية:
ومهما يكنْ من أمر، فقد أسهمت القوة العسكرية الفرنجية الصليبية في قتل جميع سكان بيت المقدس، فضلاً عن السيطرة الكاملة على المدينة المقدسة، ولعل ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام المستوطنين الفرنجة للاستقرار والتملك في مدينة بيت المقدس وفي ذلك يقول المؤرخ فوشيه الشارتري: "وبعد هذه المذبحة الكبيرة دخلوا (الفرنجة) بيوت السكان، واستولوا على كلّ ما وجدوه بها، وتم هذا بطريقةٍ جعلت كل من يسبق إلى الدخول، فقيراً كان أم غنياً، يستولي على البيت ولا يجد من ينازعه من الفرنج الآخرين، وكان له أنْ يحتل المنزل، أو القصر، ويمتلكه بكل ما فيه، كما لو كان ملكية خاصة له، وهكذا اتفقوا جميعاً على هذا النمط من حقوق الملكية، وبهذه الطريقة صار كثيرون من الفقراء أغنياء(17).
وثمة سؤال يطرح نفسه فيما إذا كان عدد الفرنجة الذين استقروا في بيت المقدس كافياً لملء كافة أحيائها ومنازلها وشوارعها؟ يبدو من سير الأحداث، وما ذكره المؤرخون الفرنجة المعاصرون أنّ العدد لم يكنْ كافياً، فالمؤرخ الفرنجي وليم الصوري يقول: "وكان سكان قطرنا قليلي العدد، قلة ملحوظة، ويعيشون في فقر مدقع، حيث إنهم كانوا أقلّ من أن يشغلوا شارعاً من شوارعها"(18). وبطبيعة الأمر فإنّ هذا العدد القليل من الفرنجة لم يكنْ كافياً لحراسة مداخل المدينة والدفاع عن أسوارها وأبراجها ضدّ أية غارة إسلامية تباغتها على غير توقع منها"(19).
وليس من شكٍّ في أنّ عملية الاستيطان الفرنجي الصليبي في بيت المقدس قد واجهت منذ البداية مجموعة من المصاعب والمشاكل التي كانت تهدّد العملية الاستيطانية جميعها. وتعتبر مشكلة نقص العنصر البشري الفرنجي من أكثر التحديات التي واجهت القادة الفرنجة في الأراضي المقدسة؛ لأنّ الاستيطان كان بحاجة إلى الأمن والدفاع، وهذا لم يكنْ ممكناً في ظلّ النقص الحاد في عدد السكان الفرنجة الذين استوطنوا في بيت المقدس وغيرها من المناطق الأخرى.
وقد أولى الملك بلدوين الأول(20) مشكلة النقص الحاد في عدد سكان بيت المقدس الفرنجة جُلّ اهتمامه، وأخذ يفكّر في التغلّب عليها بكافة الطرق والأساليب، وتشاور في هذا الصدد مع عدد من الأمراء والقادة في مملكته، ويبدو أنّهم توصّلوا إلى رأيٍ يقضي بالسماح للمسيحيّين الشرقيين بالعودة إلى بيوتهم في المدينة بعد استيلاء الفرنجة عليها؛ بسبب خلوّها من السكان، إلا أنّ عودتهم لم تسهِمْ في حل المشكلة، إذْ استمرت المدينة تعاني من نقص حاد في عدد السكان. ولما كان هذا الوضع يقلق الملك بلدوين الأول، الذي أخذ يبحث في كافة الطرق والأساليب التي تمكّنه من جلب سكان مسيحيين للإقامة في المدينة المقدسة، واستمر في بحثه حتى علم أنّ "هناك كثيراً من المسيحيين الشرقيين يعيشون في القرى الواقعة فيما وراء الأردن"(21). وقد أرسل الملك بلدوين في طلبهم واعداً إياهم بحياة أحسن من حياتهم التي يعيشونها الآن، ثم ما لبثت أنْ طابت نفسه بمنْ توافد عليه منهم، وقد جاؤوه بحريمهم وأولادهم ومواشيهم وقطعانهم وكلّ ما ملكته أيديهم(22)". وكان قدوم المسيحيين الشرقيين من منطقة ما وراء الأردن –من نصارى الكرك والشوبك– للإقامة في بيت المقدس؛ بسبب الإغراءات التي وعدهم بها الملك الفرنجي، وعند حضورهم "منحهم الملك نواحي المدينة التي كانت أكثر من غيرها في أمسّ الحاجة لمساعدتهم, فعمرت الدور بهم"(23). وقد أدرك المؤرخ الفرنجي فوشيه الشارتري أهمية العنصر البشري في عملية الاستيطان، واعتبره ركيزةً رئيسةً لعمليات التوطين في الأراضي المقدسة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "وفي بداية حكم بلدوين كان يمتلك مدناً قليلة ويحكم شعباً صغيراً…(24) وكرّر القول نفسه في مكان آخر من كتابه، "ولهذا السبب بقيت أرض بيت المقدس فقيرة في السكان، ولم يكنْ هناك من الناس ما يكفي للدفاع عنها ضد المسلمين، إذا فكروا في الهجوم علينا"(25).
ومهما يكن من أمرٍ، فقد أدى استيلاء الفرنجة الصليبيين على بيت المقدس إلى تغيّر البنى الاجتماعية والإدارية في المدينة، حيث حلّتْ محلها بنى جديدة فرضها الواقع الجديد للمدينة المقدسة. فعلى سبيل المثال كانت الجماعات البشرية التي استوطنت في بيت المقدس تنتمي لأصول اجتماعية وثقافية مختلفة؛ الأمر الذي نتج عنه ظهور بُنى جديدة تتناسب وحياة الجماعات البشرية الجديدة، التي ترجع في معظمها إلى أصول فلاحيّة أوروبية، ولذلك فقد كانوا يفتقرون للمؤهلات الفنية في المهن والحرف التي كانت تشكّل الأساس في اقتصاد المدينة(26).
ويبدو أنّ استقرار الفلاحين الغربيين في بيت المقدس بصورة دائمة قد دفعهم إلى التكيّف مع أنماط الحياة الاقتصادية في المدينة ليتمكّنوا من كسب معيشتهم، حيث بدأت تظهر طبقة جديدة من السكان من غير النبلاء والأشراف والفرسان أصحاب الإقطاعات، وهي الطبقة الوسطى التي أصبح لها دور كبير في حياة مدينة بيت المقدس الاقتصادية، وغير ذلك من الأعمال كالمشاركة في الدفاع عنها في حال تعرّضها لهجوم خارجي(27).
يتّضح مما سبق أنّ فكرة الاستيطان في بيت المقدس، وكافة الأراضي المقدسة قد برزت إلى حيّز التنفيذ بعد استيلاء الفرنجة الصليبيين على بعض المدن والقرى الفلسطينية بفترة وجيزة، وقد جرى تنفيذها على مختلف المستويات سواءً من قِبَل ملوك بيت المقدس أم الأمراء الإقطاعيين أم رجال الدين اللاتين أم الجاليات التجارية الايطالية، أم جماعات الفرسان الرهبان (الاستبارية والداوية والتيوتون)(28) وفضلاً عن ذلك فقد بدا واضحاً أنّ غالبية المستوطنين الأوروبيين في المدينة المقدسة كانوا من طبقة الفلاحين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ النظام الإقطاعي الأوروبي الذي نقله الفرنجة الصليبيون إلى الأراضي المقدسة، قد أسهم إسهاماً كبيراً في زيادة الرقعة الاستيطانية حول بيت المقدس وغيرها من المدن الفلسطينية، ويتضح ذلك من خلال المنحة التي قدّمها الأمير جودفري البويوني Godfrey of Bouillon (29) لرجال الدين اللاتين في كنيسة القيامة، إذْ قام بمنحهم أكثر من عشرين قرية في حدود بيت المقدس(30). وقد استغلّ رجال الدين اللاتين هذه المنحة بإنشاء مجموعة من المستوطنات حول مدينة بيت المقدس.
يتبع>>>
المصدر:
- د. سعيد عبد الله البيشاوي/ أستاذ مشارك في كلية العلوم التربوية/ رام الله-فلسطين.
- مؤسسة فلسطين للثقافة[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|