لا تسر أمامي فقد لا أتبعك ، ولا تسر خلفي فقد لا أقودك ، بل سر بجانبي وكن صديقي .
يعجبني قول ألبير كامي !
أهرش رأسي وأنا أبتسم !
كأنما أهرب من الريادةِ دوماً، وأخشى تحمُّلَ مسؤوليةِ إرشادِ الآخرين ! بل قيل لي : أنت تضنُّ بعلمك وثقافتك بكل برود دون أدنى اهتمام!
والأجملُ من ذلك أنه قيل لي ذات مرة أيضاً: أنت ستحمل وِزْر الناس غداً ، فعِلْمك صغتَه لنفسك، وتركتَ ببساطة من يحتاج إليه، فتخَبَّط من يطلبه وتعَثَّر وأنت تنظر إليه كأنما لا تعنيك سوى مطالبِ أنانيةِ اهتماماتِ ذاتِك !
فأجبتُ وأنأ أمَصصُّ شفتيَّ بغيظ: الصادق سيراني، والمتباهي اللابس ثوبي زُور لن يراني ولن أراه ! (وتابعتُ بحدة): العلم سيفٌ بتَّار، إن لم تُحْسن إمساكه آذاك، بل ربما قطعك ! نعم ! إنني أُفضِّل أن يكون الحديث في كل مجالسنا عن حالة الطقس، وعن آخر أخبار عمليات تجميل أهل الفن، فذاك أفضل من التعالم البارد الأجوف !
** ** **
المشكلة أننا كلنا يعرف، وكلنا عالم نحرير ! فإن جرؤنا فاعترفنا بقصورمعرفتنا، طلَبْنا سَلْق المعلومة ، واختزالَ الفكرة بجلسة عابرة ، بحجة ضيق الوقت، لتصير الجلسةُ علميةً خفيفة ، وليس رَغْيَ نسوان ! فالعصر عصر السرعة في كل المجالات ! بل قد نُجَمِّل الجلسة بشيء من قراءة القرآن الكريم للبركة ، لنوهم أنفسنا أننا مؤمنين صادقين ، وليس كاذبين متجملين !
** ** **
ملاحظة جانبية :
لا أعرف لماذا قالوا رَغْي نسوان ،كأن الرجال لا رغْي عندهم ! ومَنْ يتتبع مجالس الرجال يرى العجاب ! نميمة ،وحسداً ،وكلاماً فارغاً لاطعم له!
** ** **
وذات يوم تساءلتُ في جَمْع عائلي: مَنْ هو ابن عساكر ؟! ( وأجبتُ عن سؤالي ) علي بن الحسين ابن عساكر (499 -571 هجرية ) مؤلف تاريخ مدينة دمشق ، عاش اثنين وسبعين عاماً ، وكتابه تاريخ مدينة دمشق في ثمانين مجلدة ، كل مجلدة في نحو تسعمائة صفحة من القطع الكبير ! وعدد شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع ، ومائتان وتسعون شيخاً بالإجازة ، وبضع وثمانون امرأة ! وكان مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن ، يختِمُ كلَّ جمعة ، ويختِم في رمضان كلَّ يوم ! وتوفي في رجب وحضر جنازته السلطان صلاح الدين الأيوبي ( يوسف بن أيوب ،ت:589 هجرية) ، ودُفن بمقبرة باب الصغير بدمشق ! وباب الصغير: أحد أبواب دمشق القديمة ، في الجهة الجنوبية الغربية.
ومع كل ذلك أنجب وتتلمذ عليه ابنه وروى عنه !
وفي أيامنا تشترط دور النشر أن يكون أيُّ عملٍ جاد لايتجاوز ألف صفحة ، بحجة ضعف جمهور القَرَأة وغلاء أسعار الورق !
بل إننا نشكو من ثقل كتاب التراث، ونطلب تقريبه وتهذيبه وسَلْقه ، وننسى أننا ننفق الساعات الطوال في ألعاب الكومبيوتر ، وندمن حديثَ التشات بلغة هزيلة اخترعناها ، ونتابع عامة تافهِ برامج محطات التلفزيون الفضائية وآخرَ أخبارِ الممثلين ونمطِ لباسِهم واهتماماتهم ورؤيتِهم في الدين وسلوكِ الحياةِ الأسرية بعينين مغمضتين مستسلمتين، بكل توق وشغف !
( وتابعتُ وأنا شارد الذهن ) على فكرة، من شوارع دمشق شارع ابن عساكر وهوغرب ساحة باب المُصَلَّى .
فقال أحدهم وهو يبتسم بتشفٍّ :وما الجديد في ذلك ! هذه معلومة ساذجة ! ابني الصغير يَدُلُّكَ عليه إن أردتَ !
فاستفزني غباؤه ، وقلت بتشفٍّ : نصف الكلام ليس كلاماً ، وإنما قلتُ ذلك لأسأل عن باب المُصَلَّى . وباب المصلى ليس من أبواب دمشق القديمة ، وإنما سمي بذلك لوجود مصلَّى العيدين هناك بجوار مسجد النارنج منذ العصر السلجوقي ، فمحلة الميدان التحتاني كان لها بوَّابةٌ على طريق القوافل مثل باب السريجة وبوابة الشويكة وبوابة الصالحية ، فأطلقوا البعض على الكل ، ويعنون المعبر الذي يفضي إلى مكان ما.
** ** **
نعم .. دون خجل يُطْلب مني حديث العلم لتجمل السهرة !
** ** **
فقولوا لي : من أنا حتى أتكلم ؟!
ألأنني قرأت كلمتين،وكتبت كلمتين، وشكوت مرتين ، وتساءلت مرتين ، أصبحتُ عالماً ؟!
ووجع روحي من يفكر أن يسألني عنه ؟! بل عذابات ليلي وأرقي وجراحات فكري من يحس بها ؟!
** ** **
الكلمة مسؤولية ، وتكفيني مسؤولية نفسي. والعلم جَثْوٌ على الركب ومتابعةُ وخَمْشُ صَلْد الصخر، وليس مجردَ كلامٍ عابرٍ أنيق !
** ** **
أرجوكم دعوني وشأني .. ويكفيني أن أشعر بكم خيالات أراها أوأتلمسها فأنظر إليكم من ثقب جدار عزلتي، فلن أكون أبداً شيخاً أو محدثاً يُطرب الآخرين !