تبكي بصمت وأسى.
تضع يديك على جبينك العريض ، وعيناك دامعتان ، وأنت تنتحب .
يعلو بكاؤك ، فتجأر بصوت عال .
أنت وحيد ، وبرد غرفتك القارس يفتك بأعصابك ، فينخر بيد جاسية باقي زَعْمِ شجاعتك ، ويحيل كلَّ دفء جميل لديك إلى داثررماد أطلال!
هَجَرَك مَنْ أحببتَ، رغم أنك أعطيتهم ، برضى وصمتٍ ، موقَ عينيك ، ولا تزال في أعماقك تحبهم وتناديهم في شوك ليلِ ليلك، متشوقاً إلى ضجيجهم وشَغَبهم وسخفِ جنونِ عباراتهم !
لكن عجباً!
عجباً منك!
أَوَلستَ أنتَ مَنْ أراد ذلك وسعى إليه !؟
أليس هذا هو الهدوء الرائع الذي حَلَمْتَ به ، وهاهم أصدقاؤك / كُتُبك تأنس إليهم وتأنس بهم؟! ألستَ تريد وَهْمَ رجالِ الورق ،ومدنَ الخيال ، وأحلامَ رجالاتِ التصوف؟!
أليس هؤلاء مَنْ طلبتهم في عمر العمر ، واشتقت قربهم ودفئهم، يلاطفونك ويزيلون كآبة وحشتك، دون كدرٍ بإزعاجك بعقم تافه هَمِّ المطالبِ اليومية؟!
فأخبرني إذن لِمَ الأنين ، ودفقُ نهرِ الأحزان ، وأنت أردتَ ذلك وقصدتَ إليه بجِدٍّ ويقين واجتهاد، وبمحض إرادتك رسمتَ دقائق تفاصيله !؟
اقنع إذن أن تكون كلباً ينبح برداً ووحدةً ووهماً ومحضَ جنون ! أوكن كما رسمتَ نفسك وهمس روحك !
روحك ؟!
وهل تملك الآن روحاً في عزلتك؟! أولم تعرف بعد أنك خيالُ مآتةٍ تفزع نفسك؟!
تصرخ باستياء، وقد انقطع أملك من كل شيء وانتفى طمعك منه، وتقول كالذاهل: أنا واهمٌ إذن!
: نعم واهم! أما أدركت أنك واهمٌ إلاَّ الآن ؟!
اعترفْ بصدق أنك أبلهٌ خَرِفٌ منذ زمن طويل ، فالأنس الحقيقي أناسُ من لحم ودم ، وليس أناساً من ورق. والدنيا توقٌ وشوقٌ ورغبةٌ ونشاطُ حياة . وقيمة الكتاب أثَرُه وصخبه وحركته المتجددة. وأنت سادر ،لا مبال بمن حولك.. تائهٌ في غفلةِ عنفوانِ عوالمِ أحلامك ، لم تستيقظ ، فتبصر وتنتبه ، فعميت عن إقبال فورةِ نهاراتك : أنها بعزمٍ أكيدٍ تطرد كلَّ ظلامٍ مطبق ، وتسرع فيه، فتضيء فتزيل موات السكون، فتدب وتحيي، فالحياة حلوة بتضادِّ تشكيلاتها، بغرابة تفاصيل جزئياتها. والجمال وحشيٌّ ، وآخر رائق، وآخر نسميه جمالاً سامي الروح.. وكله جمال .. وأنت تصرُّ أن تبقى أنت أنت .. فلتعترف ثانية : أنك لاشيء، وهذا ماجنيته لنفسك !
وتصرخ: الدنيا لم تنته ، والعمر ابتدأ اللحظة ، وما تكسَّر الأمل بعد!
:- وأولئك الذين شقوا معك ! زوجتك وأولادك الذين سئموا منك فغادروك وصاغوا مدناً بعيدة عنك، أولئك الذين قطعتَ خيوط التواصل معهم، وقلت بحمق إنهم لا يدركون آفاق ماتحبه! فهل العواطف جَرَّةُ قلم ! تترك ساعة تريد ، وتقبل ساعة تريد ، وتخاصم ساعة تريد ،وتصالح ساعة تريد؟! هل نسيت أن المشاعر زهرةٌ سريعةُ النماء ، سريعةُ الموات ، يزيد نماءَها صدقُ الأحاسيس والمشاعر، فتتَّام وتورق ، ويميتها بردُ الأحاسيس والمشاعر ، فتذبل ، فيصعب إحياؤها .
: نعم ، قد يصعب ، لكن لايستحيل ! والحبيب مجبول على الغفران !
: أيُّ حبيب لديك؟! وماذا سيتذكَّر منك كلُّ من أحببت ؟! أنت أعطيت بطريقتك ، فظننت أنه الحب ، وما عرفتَ إلاَّ اللحظة أنه وَهْمُ الحب, ومَحْضُ أنانيةِ ذاتك !
: لكنني ولدت اليوم !
: والماضي من سيمحو مرَّه وأساه ودموعه !
: صدق الرغبة !
: قد يحتاج ذلك زمناً .
: وأنا سأنتظر إذن دونما بكاء .
وتتلفََّتُ حولك، الليل في آخره ، يلملم أذياله مستعداً للرحيل، ووخز البرد خفَّ حماسه، بل أنت تشعر بالدفء، بل تتصبب عرقاً. وقمت من سريرك بحماس وقلبك يخفق. وتوضأت، وصليت خاشعاً وأنت تقول: اللهم اغفر لي غفلتي وسوء تدبيري يا أرحم الراحمين. وشعرت أن الذين افتقدتهم أتوا إليك، بل هاهم خارج غرفتك يطرقون بابك بعنف. وغفوت قليلاً وأنت تبتسم ،وشعرت بهدوء عميق عميق .