مقدمة:
إن الأحداث الواقعة في صدر الإسلام لا تبررها غير ظروفها التي وقعت فيها، كما لايصح الحكم عليها إلاَّ ضمن الظرف المطابق لواقع تلك الحادثة.
كما ينبغي استخراج الحقائق التاريخية من ركام الأوهام والأهواء والبدع والعصبيات والمذهبيات،مما افتراه المفترون ووضعه الوضاعون. فالنصوص والروايات التاريخية ،إنما دُوِّنت بعد نشأة الفرق وظهور أصحاب الأهواء والبدع والزنادقة. (أسفرت فتنة مقتل سيدنا عثمان إلى اختلاف وشقاق كبير، وظهور أحقاد وضغائن، زادت من أوارها الأحاديث الموضوعة عند الأطراف جميعاً): فبعض الشيعة وضع أحاديث في فضائل علي بن أبي طالب والطعن في معاوية بن أبي سفيان ،ووضع بعض أهل السنة أحاديث في فضائل أبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان.ولما كثر سب الصحابة وُضعت أحاديث في فضائلهم جميعاً !(المنتقى في منهاج الاعتدال 314 للإمام الذهبي ت: 748 هجرية، اللآلئ المصنوعة في الأحاديث المرفوعة 1 /286- 315 ،343 ،428 للإمام السيوطي ت: 911 هجرية ،تنزيه الشريعة المرفوعة 1 / 371 لابن عراق ت: 963 هجرية،الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة 92 لمرعي بن يوسف الكرمي المقدسي ت: 1033 هجرية ).
كما وُضعت كثير من الأخبار في القرن الثاني والثالث للهجرة تتناولت قضايا لها صلة بأحداث النصف الأول من القرن الأول للهجرة ،(محورها مسألة أحقية الخلافة ،وأحقية آل البيت في الإمارة)،وساعد في ذلك أن تدوين التاريخ إنما أخذ تمام صورته بأخرة ،بعد فتن مظلمة ترتب عليها فرقة المسلمين إلى شيع وأحزاب :"منهم بكرية وعمرية وعثمانية وعلوية وعباسية ،كلٌّ تزعم الحق معها
، والباقي ظلوم غشوم" (العواصم من القواصم 246 ).
وهذا مما جعل العلماء يؤكدون على ضرورة التثبت من مصادر الرواية ،والسؤال عن أحوال الرواة ومدى عدالتهم .قال ابن عباس (حبر الأمة عبد الله بن عباس ،ت:68 هجرية): إنَّا كنا نُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن يُكْذب عليه ،فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه (صحيح مسلم 1 /84 باب النهي عن الرواية عن الضعفاء)، فعبَّر عن الفتنة بقوله: "ركب الناس الصعب والذلول" ولذلك كان لايقبل إلاَّ ما يعرف.
( مع ملاحظة أنه لايلزم من ضعف السند ضعف المتن ،ولا يلزم من صحة السند صحة المتن .
فقد يكون السند ضعيفاً والمتن صحيحاً لوروده من طرق أخرى تشد بصحته ،كما أنه قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ فيه .انظر: علل الحديث ومعرفة الحديث ص 10 لابن المديني ت:234 هجرية).
** ** **
هذا أمر ،والأمر الآخر ثبوت عدالة جميع الصحابة،لا يخالف ذلك إلا شذوذ من المبتدعة (الإصابة في معرفة الصحابة 1 /9 ).لكن عدالتهم لا تعني عدم وقوعهم في الذنوب والأخطاء ،فهذا لا يكون إلا لمعصوم ،وإنما عدالتهم في تجنُّب الكذب والاحتراز منه في مطلق الرواية وغيرها،وإنهم وإن جازت عليهم المعاصي ،إلا أنهم يتوبون ويستغفرون ،فيتوب الله عليهم ويغفر لهم ،ويستحقون بالتالي منازلهم وأقدارهم، فلا يُرفعون إلاَّ لما يستحقون ،ولا يقصرون عما يليق بهم، "فحبهم سنة ،والدعاء لهم قربة ،والاقتداء بهم وسيلة ،والأخذ بآثارهم فضيلة "( السنة ص 78 لأحمد بن
حنبل ت:241 هجرية). وقال ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم ،ت: 728 هجرية): ومن أصول السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله..يتبرأون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل( العقيدة الواسطية166 ).
وفي حديث أبي هريرة الصحيح ،عن ما ينشأ عن الاختلاف في طلب المُلْك ،حتى لا يُعلم المحق من المبطل ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ،والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي .من تشرَّف لها تستشرفه ،ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به ( صحيح البخاري 8 / 92 ).
** ** **
وساكرر هنا للأهمية ما قلته سابقاً من كيد ابن سبأ في فتنة مقتل سيدنا عثمان،وهو كما ذكرنا من قبل: يهودي من صنعاء ،أظهر إسلامه في زمن عثمان بن عثمان، واشتهر أكثر من غيره لأنه أسلم متأخراً.وظهر له نشاط ملحوظ في الشام والعراق خاصة.ثم ظهر مع الخوارج والمارقين ،
وكان رأس الفتنة وأساس البلاء (تاريخ الطبري 4 /340 ).
فابن سبأ كان يأتي بمقدمات صادقة ، ويبني عليها مبادئ فاسدة ، لها رواجها عند السذج والغلاة وأصحاب الأهواء من الناس: فادَّعى في البدء ،رجعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ،ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله عز وجل:(إن الذي فرض عليك
القرآن لرادك إلى معاد ) - القصص: 85 - فمحمد أحق بالرجوع من عيسى (تاريخ الطبري 4 /340 ).
ثم سلك طريق القياس الفاسد في إدعاء الوصية لعلي ،فقال: إنه كان نبي ،ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد.. محمد خاتم الأنبياء ،وعلي خاتم الأوصياء ( تاريخ الطبري 4 /340 ).وقال: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ووثب على وصيِّ رسولِ الله وتناولَ أمرَ الأمة..إن عثمان أخذها بغير حق ،وهذا وصيُّ رسول الله ،فانهضوا في هذا الأمر فحركوه ،وابدأوا بالطعن على أمرائكم ،وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ،وادعوهم إلى هذا الأمر (تاريخ الطبري 4/341 ).
فكاتبَ من كان استفسد في الأمصار ،وكاتبوه في السر إلى ماعليه رأيهم ،وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ،ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب كل أهل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون ،فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم.. ويسرُّون غير ما يبدون ( تاريخ الطبري 4 /341 ).
فأتباع ابن سبأ حرَّكوا الناس في أمصارهم ،وكان الناس معهم على فئات ثلاث:
الأعراب: وهم وقودهم .
والقرَّاء (جمع قارئ ،وهو الزاهد العابد ):وهم واجهتهم ،(استهواهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وأصحاب المطامع: وهم أداتهم ،(هيَّج أنفسهم تحيّز عثمان لأقاربه وإغداقه المال عليهم وهم أوْلى به منهم) !
وعلى ذلك غش الناس بكتب تؤلب الناس على عثمان ،ادَّعى أنها وردت عليه من الصحابة في المدينة المنورة ،ولما اجتُمع بالصحابة تبرأ الصحابة مما نُسب إليهم من رسائل(تاريخ الطبري 4 /355 )، كذلك لما ناظرهم عثمان فيما نسبوه إليه ،وجدوه قائماً على الحق.
وكان ابن سبأ زَوَّر مثل كتاب عثمان كتاباً على لسان السيدة عائشة وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ،يدعو إلى الخروج على عثمان. وفي حديث الأشتر(مالك بن الأشتر النخعي ت: 38 هجرية ،وهو تابعي ،أحد الأشراف ،وممن ألب على عثمان،وممن خُدعوا وغُدر بهم ،وكان شديداً صلب الإيمان) ،أنه قال لعائشة: كتبتن إلينا حتى إذا قامت الحرب على ساق ، انسللتن منها.فقالت: معاذ الله أن آمر بسفك دماء المسلمين وقتل إمامهم واستحلال دمهم..والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبتُ سوداء في بيضاء ( تاريخ المدينة لابن شبة 4 /1224 ، تاريخ خليفة بن خياط 169 ،تاريخ الطبري4 /354 ،البداية والنهاية 7 /595 وإسناد الخبر صحيح).
فقال الأشتر لأصحابه: لعله - أي ابن سبأ- مَكرَ به ربكم ( تاريخ الطبري 4 / 283 ).
وذكرنا من قبل أيضاً،كيف خرج أهل الولايات سنة 35 هجرية على أربعة فرق إلى عثمان في المدينة في صفة الحُجَّاج، ليُقرروا عثمان بأخطائه ، ويزعمون للناس أنه لم يخرج عنها،فيحل لهم بذلك دمه .فلما ناظرهم عثمان وظهر عليهم ،قفلوا خائبين إلى مصر،" فإذا راكب يعترض لهم ،ثم يفارقهم ،ثم يرجع إليهم ،ثم يفارقهم ويسبقهم. فقالوا: مالك ؟ إنَّ لك أمراً !
ما شأنك ؟ قال: أنا رسول الخليفة إلى عامله في مصر ! ففتشوه ،فإذا هم بكتاب على لسان عثمان ،عليه خاتمه إلى عامله بمصر :أن يصلهم ،أو يقتلهم،أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فرجعوا إلى المدينة..فقال عثمان: والله ما كتبت إليكم كتاباً قط !..وحصروه في الدار( تاريخ خليفة بن خياط 169 ،تاريخ الطبري 4 /354 ).
فالكتاب مكتوب على لسان عثمان ،والخاتم قد يُنقش على خاتمه،فيصدقه الصادقون ويكذبه الكاذبون ( البداية والنهاية 7 /191 ).
** ** **
فابن سبأ وأتباعه هم الأيدي المحركة لفتنة مقتل عثمان. قال القمي (سعد بن عبد الله ،من كباررجال الشيعة الإمامية ،ت: 301 هجرية): عبد الله بن سبأ أول من أظهر الطعن على أبي بكروعمر وعثمان (المقالات والفرق 20 ).وقال ابن عساكر( علي بن الحسن ،ت: 571 هجرية): طاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر، ودخل دمشق لذلك زمن عثمان بن عفان( تاريخ دمشق 8 /328 ).
واعتبره الإمام الذهبي( محمد بن أحمد ،ت: 748 هجرية) المهيِّج للفتنة بمصر، وباذر بذورالشقاق والنقمة على الولاة ثم على الإمام فيها ( تاريخ الإسلام 2 /122 ).
** ** **
وأما القول أن الصحابة بمجملهم هم الذين كانوا يحركون المؤامرة ويثيرون الفتنة ( خاصة أبوذر وابن مسعود وعمار بن ياسر)، فذلك من حديث إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التميمي،وهو متروك كذاب، واهي الحديث .وفي الإسناد عنه تدليس ( ابن سميع لم يسمع من ابن أبي ذئب ،وإنما سمع الحديث من إسماعيل بن يحيى فدلس عنه ).
** ** **
تذييل:
في حديث أبي موسى الأشعري الصحيح ،أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً ،فجاء رجل يستأذن..فسكت هنيهة ثم قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه. فإذا هو عثمان بن عفان (صحيح البخاري 4 /202 كتاب أصحاب النبي).قال ابن بطال( علي بن خلف البكري، ت: 449 هجرية): وإنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قُتل أيضاً، لكون عمر لم يُمتحن بمثل ما امتُحن عثمان من تسلّط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمارة بسبب ما نسبوه إليه من الجور والظلم مع تنصله من ذلك ، واعتذاره عن كل ما أوردوه عليه، ثم هجومهم عليه في داره وهتكهم ستر أهله ،وكل ذلك زيادة على قتله (فتح الباري 13 /51 ).