(دموع قلم) مجموعة خواطر أدبية ،صيغت بلغة عالية الأداء،كتبها ابن أخي الشاب الموهوب: محمد سعيد عدنان أبوشعرالحِب ابن الحِب القريب، ونشرها حديثاً المكتب الإسلامي ومنشورات ضفاف في بيروت سنة 2013 م في 80 صفحة من القطع الصغير.
وسنقرأ أولا،بإيجاز،موضوعات الكتاب، ثم نضع ملاحظاتنا حول آلية كتابته،مع ملاحظة أن الخواطر متشعبة المواضيع ،لكن ينتظمها جميعاً خيط واحد حزين:
فخاطرة (قلت في الحياة): تتحدث عن تمحور الحياة حول عشق الحبيبة الجاحدة، التي تصبغ بجحودها الحياة بألم كالموت ،بل بألم أبشع من الموت ،لأنه موت متكرر،بطيء
،مؤلم: "معكِ أنسى أنَّ للشمس شروقاً، وأنَّ للقمر سطوعاً، وتُعميني صحبتك عن الاستماع لغناء العصافير ،والتنسم بأريج الورد، ومتابعة مشهد مطر السماء يعانق تراب الأرض بعد طول شوق وانتظار".
وخاطرة (نظرة في العلاقات الاجتماعية): تؤكد أنَّ علاقاتنا الاجتماعية محكومة بنظام القوة والضعف، حتى مفهوم (الصداقة)- بكل ما يمثله من صدق وتفان- بات علاقة شبه استغلالية بين قوي وضعيف.
وخاطرة (خطاب مع القمر): تقول إنَّ صعاب الحياة لن تتغير،وإنما تتغير قدراتنا وطرائق مواجهتنا لها.
وخاطرة (كانت أربعة): تتحدث عن فصول السنة الأربعة: الشتاء،والربيع،والصيف ،والخريف.واعتيادنا على جمال اختلاف أنماط الفصول، فنزف بذلك ،من أنفسنا ، توقُ حنين الماضي وإلفة أيامه، فرضينا بجمود جليد العاطفة المنسية..نعم ،" كانت صداقة الطبيعة للبشر أفراحاً وأعياداً، فخان الإنسانُ ذلك، وبادلها قطعاً وهدماً وردماً.. فاستحال كل الجمال بشاعة".
ورسالة (رسالة إلى ملاك 1 و2): رسالتا تقدير إلى فيض عطاء الأم: "كيف تكفيني منك بسمة وجهك وأرى قلبك يذرف دماً ؟ كيف تسعدني كلمة رضا وأرى نفسي بها غيرَ جدير ؟ كيف لي أن أحطَّ من شأنك وأدعوك بشراً ! ما أنت إلا ملاك لا كالملائكة !
إليكِ، يا ملاكي، أطأطيء رأسي خجلا من سموِّ شأنك ورفعة قدرك".
و(حكاية حلم): تتحدث عن سعادة آنية اللحظة، والقلق من انفلاتها ساعة طيش غادرة:"علمتني الحياة أنَّ ما يأتي سريعاً يذهب سريعاً ،فالشقاء قبل الحصول على أمرٍ شرطٌ لديمومته، وهنا..وبغياب هذا الشرط، أعيش الخوفَ من أن تتكرر المسيرة..فلنعش جو الحلم بما يضفيه علينا من الأمل والتفاؤل والحب الصادق للحياة".
و(العورة والمرآة): تتحدث عن عورة السلوك، وتدعو إلى التصالح مع الذات كي"ننفض غبار الماضي ورمادَ الألم ،ونبدأ الحياة بكل إشراق وتفاؤل وأمل، على أن لانتوقع من المستقبل الكمالَ التام، فنحن في النهاية نسير في الحياة بأبيضها وأسودها ، بحلوها ومرها..فلنسر الهوينى دون توقف في طريقنا نحو حياة أفضل..حياة لا عورات فيها".
و(الأحجية): تتحدث عن أحلام الطفولة ،والتوق إلى لحظات البراءة الأولى، وانكسار الأحلام، فكأن التوق الآتي فارس مقنَّع قادم من بلاد الأساطير، وماعلينا سوى الاكتفاء بترقب وصوله.
و(ثانية..يعود): تقول إن الأمل يبقى طيفاً جميلاً،لكن يشوبه دائماً الملل والقلق.
و(هجرة السنونو) وهي أرقى الخواطر وأكثرها مرارة: تتحدث عن غربة النفس، بشكوى رقيقة ،تحمل شجناً ينهر حرقة:" فأن تكون غريباً في غير بلادك هو شعورٌ قاس، وما أمامك إلا مستقبلٌ مجهولٌ يلفه ضبابٌ غامض، لكنه بأي حال، ليس أقسى من شعورك بالاغتراب وأنت لم تبارح أرضك وبلادك". لكن أسى هذه الغربة قد يتلاشى حينما ترى النفس صدى صوتها واضحاً مع الآخرين:" يهاجر السنونو ، ويوماً ما ..سيعود ..سيعود يُسمِع تغريدَه من هم أحقُّ بسماعه من سكان البلد الغريب".
و(مجدداً مع القمر): هروبُ من تراكم الأسى إلى صداقة رائقة مع القمر: بأطواره ومنازله، وضوئه وظلامه، ونوره وخفوته ،فيكون إلهاماً مثالياً لشجن البوح ، ونقيضاً لسطوع الشمس:" لا أرى في الشمس ما يشدني إليها ،بل إنَّ فيض شعاعها يزيدها احتجاباً عني، ويزيدني هرباً منها.لاتمثل الشمس في نظري سوى حالةٍ واحدة، زهوِّ الانتصار، الذي قد ينحدر إلى الطغيان أحياناً".
و(قراءات في كتاب الدنيا): تتحدث عن آثار صنائع همجية الإنسان التي تشوِّه جمال فطرة الأشياء من حولنا ،عكس بديع جمال وشفافية صنعة الخالق:" بلطف، يطرق الظلام باب السماء، يلقي عليها ثوبه الداكن..يقطع خيط الشمس الأخير، معلناً وصولَ الليل ضيفاً على الدنيا،فيكون القمرُ ونجمته نجمةُ القطب ،أول المستقبلين".
و(إحياء وإماتة، وعاش بردى): كلتاهما تقول إن عطاء الله وهبة خيراته، وإحداها (نهر بردى)، أمتنا ،بإهمالنا وظلمنا ،كرم مضمون عطاءاته ،وحوَّلناه بجحود كبير متعمَّد، إلى ساقية خجول شبه موات.
و(نزول الرحمة وصعود الأذى): نظرة ثانية ،تحمل المعنى نفسه ،إنما من زاوية أخرى:" مدينتي اختارت قاسيون سريراً لها ،فبات جبلها الشامخ أبداً..لكنه لم يسلم من جشع الإنسان واهتياج رغباته التي لا تحترم الطبيعة..اعتلاه الإسمنت والحديد الأصم".
وتنضم إليهما قصيدة النثر الرائعة: (دمشق أرجوحة الألم والأمل) وتتحدث عن قاسيون وبردى وعبق الغوطة.
و(العابرون في حياتي): تحكي عن دوام أثر حسن الضيافة في النفس.
و(قارب خشبي صغير): حكاية قارب صغير وثورة البحر عليه، حتى يحيله إلى قطع متناثرة. فكأنما الحكاية إشارة ذكية إلى سطوة قيد التقاليد والأعراف - حتى تحيل بسطوة قسوتها- ضوء وهج الفكرة إلى مزق أفكار، وإنْ حملتْ في طياتها وهج حلم منطفيء.
و(درب الشروق): الإيذان ببدء رحلة السعادة، بعد انتظار مضن ثلاثين عاماً.
و(لحظة طفولة): محاولة استعادة وهج براءة اللحظات الفائتة.
و(عندما يصرخ الشجر): اغتيال جمال الخضرة بقلب بارد.
و(ليس حلماً): التوق إلى امتلاك أرض السعادة الحقيقية.
و(غيوم ومزن وسحب): قصيدة نثرية جميلة ،تتحدث عن انفعالات النفس وتضادها ، بين الكآبة وآفاق إشراقات الروح:" في نفسي سُحُب الوجد تلازم قلبي
تهطل مدراراً
ممزق في نسمات أيلول
لا أصل إلى مكان
أفرِّق أشلائي التي هربت من سكاكين الحزن..
أبعثرها في محيط الشتات
علَّ إحداها تحظى بابتسامة عينيك الوضيئة
فتبدد سحابات الكآبة
وتطهرني من كل دنس".
و(نداء من الماضي): محاولة لاستعادة ظلال أفراح الماضي ،لنسمع إلى نبض المحبة ،فيغمرنا بنسائم الأمان.
و(مدينة وذكريات، وأحياء يقتاتون على الموت): كلتاهما حسرة على أيام الأمان والهناءة في البلاد: "هاجمتنا النار بكل أنواعها ،فلم تُبق ضحكة، ولا بسمة، ولا حتى أرجوحة للعيد"، لكن الفرج قريب قريب ، "وسيقرع الأمل الأبواب.. محيلا الجحيمَ جناتٍ من نعيم".
و(شوق يصارع المستحيل): أشواق حائرة في شوارع الذكريات والحب اليائس:" هل جرَّبتَ السهر في ليلة شتاء دافئة..ترسل بريدَ اشتياقك مع النجوم ؟
هل حزمتَ أوراق الحب في حقيبة ،وسافرتَ في قطار الأمل متسابقاً مع أسراب الوهم؟..لا أفتأ أرتمي في أحضان أشواقي ،لا يُتعبني اللهاث وراء خيالات اللقاء".
و(قلم في قفص الاتهام): تتحدث عن سطوة الفكرة على ذهن الكاتب، واستحالة انعتاقه لشدة أسرها ولصوقها بتفاصيل حياته: "يطالبونه بإطفاء غروره ،والخروج من نرجسيته.. يسألونه أن يكتب أفكاراً هادفة ،مضيئة ، مشرقة.. ويتناسون أنه أسير الأفكار.
أبحث عن كلمات عذراء ،عن حروف لم تتصدع بزلازل الأحزان".
و(ثلاث صديقات من السماء): بوح رقيق بين نجوم الليل ،والوحدة، وغبش الذكريات.
و(عيد بلا روح): زوال نشوة فرح العيد، والأمل في إشعال شمعة تفاؤل في بيت مسكون بالخوف، أو قلب محطَّم بالحزن.
و(مسرح في عزلة): فكرة الهروب بعيداً عن الأمكنة والبقاء في نقطة ينتهي عندها العالم صعوداً، أو ربما ينحدر نزولا.
و(أيام يلتهمها القلق): أشواق روح هائمة، والخوف من نَغَر ممض وجع القلق.
** ** **
وتنتهي صفحات الكتاب ،ونتمنى أن يطول أكثر وأكثر، فالكلام غاية في الإمتاع، وإن شابه حزن واضح ،يتجلى في فن رسم الكلمة وطريقة التعبير العالية.
لكن ما يلفت الانتباه (تناول) المواضيع بدائرة فنية واحدة، فانحصرت آفاق الكلام في زاوية لاتتعداها أبداً، وهذا بالطبع ليس عيباً (فالخنساء اقتصر شعرها على رثاء أخويها صخر ومعاوية) لكنه يُقنن آفاق الرؤيا وفضاءات الأفكار.
وأمر آخر: شفافية الرومانسية الواضحة من الكلام،فأتخيل الكاتب ماهو إلا طبيب ماهر يخشى رؤية الدم ،رغم أنه يشرِّح جثة مريض هالك ! فهو يحوم ويشير ويصرخ أحياناً ،لكنه يجمجم دائماً ويرمز ولايقبل سوى لغة العين !
ومع أنها الخطوة لابني سعيد، فهي خطوة واثقة ،ستضيف إلى مخزون مهارتها تجربة الأيام.